ثمة رسالة ضمنية كان يكتبها إميل سوران يومًا تلو الآخر كانت في أكثر المرات مباشرة عندما رد على أحد المقالات. قائلًا: لقد أثار اهتمامي ما تقوله عن التآلف بين الإيمان والقلق. أتفهم اندهاشك من ملاحظاتي وأفكاري التي أؤكد فيها بقوة الانفصال التام بين الإيمان والقلق. لكن تذكر أن حياتي كلها لم تكن إلا بحثًا محمومًا أنضجه الخوفُ من العثور على ما أبحث عنه. أنا متيقن من أنني بحثت دائماً عن رب ولكني أكثر تيقنًا من أنني فعلتُ كل شيء حتى لا ألتقيه، لدرجة أن أحد أصدقائي الفرنسيين شبّهني بباسكال، فأنا يمكنني القيام بكل شيء حتى لا أؤمن. كان القلق المستمر من الحياة يسيطر دائمًا على تصورات إميل، القلق الذي يخلخل تصورات الإنسان عن كل شيء عمومًا.
أتمنى ألّا تنزعج كثيرًا أو تبدو على وجهك ملامح الاستغراب عند البدء من تلك الرسالة المباشرة ذاتها التي تحملها كلمات كالتي بدأنا من خلالها ضمن الحديث عن عمل فني سينمائي، عند الحديث عن مخرجين مثل ستيفن بريزي سنتحدث عن العمل السينمائي كخطاب، كرسالة شديدة الوضوح والتركيز غير منصتين تمامًا للعوامل الأخرى بالقدر ذاته من الأهمية التي يحملها خطاب هذا الفيلم الموجه ضد قسوة أنظمة العمل الرأسمالية.
شح في العنصر البصري وحركات الكاميرا، وثرثرة مستمرة حول العمل كمرتكز أساسي وما يخدم استمراره، وتداخل موسيقي قليل في أكثر المواقف تعاطفا مع الأبطال الذين يحاولون الوقوف بالرغم من تعبهم الظاهر والمبطن.
يبدو على عدد غير قليل من النقاد بعض الملل من التعامل مع العمل السينمائي كرسالة موجهة واستعمالها كقضية لكني أحاول استثناء أعمال مذهلة كتلك التي يحاول تقديمها المخرج ستيفن بريزي مرة بعد أخرى بنفس المستوى من الحرفية التي يقدمها قليلون غيره مثل المخرج كين لوتش مثلًا.
عشرون عامًا من السينما المحاربة
في فيلمه الطويل الأول يحكي المخرج ستيفن بريزي قصة سولانج؛ الفتاة الجميلة المستهلكة داخل منظومة العمل الذي تتعرض خلاله لكافة المهانات والإساءة، اللفظية تحديدًا، في الوقت الذي ينشغل فيه زوجها بالانتهاء من أعمال سكنهما المتواضع، غضب شديد يسيطر على تصرفات الزوج الصارخة ضد كل شيء في مقابل غضب مكتوم من الزوجة يخرج في أحلامها للعمل كمغنية. تفاصيل صغيرة ابنة للوضع المأزوم اجتماعيًا تضعى على الجانب العاطفي وتتجاوزه وتدمره.
بعد ذلك بسنوات عديدة سيقدم أهم أفلامه “حياة امرأة” كسرد مجزأ لحياة البطلة جين وهي تنطلق في طريق وعرة ككل حياة البالغين وتتعرض تدريجيًا للواقع القاسي لحياة المرأة في القرن التاسع عشر المأخوذ عن رواية أدبية بالاسم ذاته، وسيبروز ستيفن أغلب قصص أفلامه القصيرة والطويلة على اعتبارها معاناة الطبقات في قلب أغلب قصصه منذ البداية.
بينهما سيقدم عدة أفلام مع بطلة الأسير فينسنت ليندن وقصة أسرة سحقتها الرأسمالية، رجل يحاول الفرار قدر استطاعته من وحشية نظام تتجاوز قوته كل شيء.
فيلمه “نظام رجل” الذي يحكي قصة عامل مصنع عاطل عن العمل يحاول تغطية نفقاته الشخصية بصراع منهك مع النظام في فرنسا. إلى جانب فيلمه “في الحرب” بعد وعود 1100 موظف بأنهم سيحمون وظائفهم، قرر مديرو المصنع إغلاق المتجر فجأة. يأخذ “لوران” زمام المبادرة في الكفاح ضد هذا القرار.
ستجد الطبقة ذاتها في قلب نظام رأسمالي يعيق تواجده، يهدده باستمرار، استهلاك مستمر يتطلب عمل مستمر وانقطاع عن التواصل الإنساني، القلق من المستقبل ومن الحياة غير المستقرة نتيجة عدم وجود عمل ثابت أو آمن، قلق اجتماعي تخلقه المنظومة الرأسمالية من داخل ذاتها ولا ينجو منها سوى حيتان هذا النظام.
فيلمه الأفضل على الإطلاق
قدم ستيفن أفضل أفلامه على الإطلاق عام 2010 مع فيلمه المذهل “آنسة تشامون“، كعادة أفلامه ستُخلق القصة من رحم أزمة سببها متجاوز لأفرادها لكنها كانت أكثر تماسكًا كسيناريو فني عاطفي أكثر من أي شيء آخر، يبدأ الفيلم من مشهد طويل لأسرة صغيرة؛ رجل وسيدة يحاولا مساعدة طفلهما في حل الواجب المدرسي أثناء جلوسهم في حديقة عامة.
مشهد تأسيسي سندرك من خلاله الخلفية الاجتماعية والثقافية والمادية المتواضعة لرب الأسرة وزوجته إلى جانب بساطة حياة الأسرة التي تحاول عدم الاختناق داخل منظومة العمل. تسير الأمور بالروتينية المعتاد على وجودها كل أسرة تجاوزت سنوات بجانب بعضها حتى تظهر في الحياة مدرسة الطفل التي تتغير الحياة على أثرها.
استراحة قليلة من العالم الضاغط تتحرك من خلالها المدرسة، الوحيدة غير المضطرة لتحمل أعباء أسرة مثل الجميع حولها، ملامح رائقة في مقابل ملامح شتى يحددها الملل والخوف المستمر من المستقبل.
حالة الحب المتوقع التي تحدث بين الفتاة والزوج الذي يحاول بالطرق كلها الهروب من الملل هي الأكثر تفكيكًا للوضع الذي يحاول المخرج ستيفن أن يحكيه في كل مرة؛ حتى مجرد الاستمرار في تحمل الحياة الخانقة التي تخلقها الرأسمالية على أبنائها ستنفجر مع أول تواجد لمساحة هروب. النجاح في تحمل عبء تلك الحياة لا يستحق حتى أن يُعتمد كنجاح.
فيلم مذهل يحمل نهاية شديدة الذكاء قليلة التعاطف من أيًا من شخصياتها، يحمل بصمة فنية أكثر مما سبقه وتلاه قبل أن يؤكد على رسالة عداء المجتمع الذي يعبد جني المال كوسيلة وحيدة للأمان بينما بالرغم من كل شيء لا ينتصر شيء على الحب… أبدًا.
فيلم عالم آخر.. هل حقًا هو عالم آخر؟
فيلم “عالم آخر” يدور الأول حول فيليب المدير التنفيذي لمجموعة صناعية، الذي يتعرض للحظة صعبة تضع حياته الأسرية والعملية على المحك وتدفعه لاتخاذ قرارات صعبة على جميع المستويات، هكذا دون زيادة يمكن تلخيصه، لكننا نحتاج أكثر للوقوف أمام أكثر أعماله طزاجه وترشيحًا للجوائز.
لا أعتقد أن أي عمل يأخذ تسميته على سبيل الصدفة، لذلك أعتقد أن الملاحظة الأكثر اهتمامًا حول الفيلم من مجرد اعتباره كمجاز لعالم آخر بينما هو العالم الذي يعيشه أغلب سكان الكوكب، لا نرى سوى عالم يألفه الجميع، صراع يومي على مجرد الحفاظ على العمل، وأزمة يعيشها المدير على المستوى العملي والأسري.
بداية تأسيسية من مشهد لمجموعة صور تُلخص مسيرة تلك الأسرة الصغيرة، نراهم كصور مثبتة لا روح فيها، نفهم منها تواجدهم الخاطف غير المستمر مع بعضهم، وننتقل فورًا لمشهد عكسي غير متوقع لجلسة بين الزوج وزوجته للإتفاق على تسوية طلاقهما مع المحامين بسبب انشغاله الدائم في العمل.
لا وجود لأزمة أخرى سوى ضغط العمل على الزوج الذي يُنتج تقليل التواجد مع أسرته والتوتر الدائم على وجهه وأفعاله. هل يمكن اعتبار هي المشكلة التي قدمها في كل أفلامه؟ يمكننا أن نعتبر ذلك صحيحًا لا جديد في ذلك.
ثمة شيء ملهم تمامًا في “عالم آخر” لم أجده في سواه يخص التناسق بين جوهر القصة وكيفية حكيها ذاته؛ على مدار الفيلم الممتد لأكثر من الساعة ونصف الساعة ستجد تداخلات نادرة لتواجد الزوجة والابن؛ حتى المرة التي تحاول الزوجة مقابلته نجدهم داخل موقف للسيارات يصلح “فرشة” لإيفيه وحيد في الفيلم “من الجميل المواعدة داخل موقف للسيارات” والابن الذي نسمع صوته عبر الهاتف مع والده أكثر من تواجده الفعلي في مقابل مشاهد طويلة ثابتة التصوير على أحاديث تبدو مملة لتفاصيل العمل التي لا تنتهي.
تبدو تلك التفاصيل غير مهمة أو مملة نوعًا ما للمشاهد بينما تخدم هدفا يتجاوزها: تورط المشاهد تمامًا كالأبطال داخل عالم يبتلع الجميع ولا يمكن الفرار منه أبدًا، لا يمكن أن تتخيل إلى أين يمكن أن ينتهي المطاف برجل تُخلق أمامه المشاكل يوميًا كغيره على اعتباره ترسا في هذا المجتمع بينما من حق زوجته الحاضرة بغيابها أن ينتزع وقتها منه.
فيلم “عالم آخر” ليس سوى صرخة أخرى من صرخات ستيفن بريزي، لكنها أكثر تماسكًا على المستوى الفني بالرغم من نهايته الحالمة أكثر التي ربما استسلم لها الرجل كحُلم يريد تحققه أكثر من كونه أكثر إقناعًا.