تعد سكك حديد مصر أولى خطوط السكك الحديد التي تم إنشاؤها في أفريقيا والشرق الأوسط، والثانية على مستوى العالم بعد المملكة المتحدة. حيث بدأ إنشاؤها عام 1834 إذ مدت قضبان خطوط السكة الحديد فعلا وقتها بخط السويس/الإسكندرية. إلا أن العمل ما لبث أن توقف بسبب بعض المشاكل السياسية، ثم تم إحياء الفكرة في عام 1851 لتمتد عبر محافظات مصر من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها.وكان الهدف الأساسي لإنشائها هو تسهيل نقل البضائع والأفراد القادمين من الهند إلى ميناء السويس بميناء الإسكندرية علي البحر المتوسط وصولاً لأوروبا وبما يوفر الكثير من التكلفة والوقت.
تم مد أول خط سكك حديد في مصر بين القاهرة / الإسكندرية، قامت إحدى الشركة الإنجليزية بإنشائه في عهد الخديوي عباس الأول الذي تولي حكم مصر سنة 1848م، واستمر ست سنوات حتى عام 1854م. أي أن المهندسين والعمال المصريين يديرون السكة الحديد منذ أكثر من 167 سنة من قبل الاحتلال البريطاني لمصر، وبعد جلاء الاحتلال وحتى الآن.
لذلك سأقتصر هنا على هيئة السكك الحديدية ولن أتعرض لمترو الأنفاق والقطار الكهربائي لأن لكل منهما قصة مختلفة.
الجدير بالذكر أن هيئة السكك الحديد تمتلك خطوط حديدية بطول 9570 كم وتخدم 23 محافظة وتنقل ما يقرب من 420 مليون راكب سنويا، عدد المحطات بها 705 محطة ويوجد عدد 1332 مزلقانا و3040 عربة ركاب منها 850 عربة مكيفة و8553 عربة بضائع و793 جرار، 826 كوبري و100 نفق، 6 مناطق، 9 قطاعات، 8 شركات تابعة، 191 مليون متر مربع أراضي صالحة للاستثمار وتقوم سكك حديد مصر بدور فعال في خدمة نقل الركاب وتداول البضائع بين مختلف أنحاء الجمهورية حيث تربط السكك الحديدية جميع الموانئ الرئيسية بوصلات حديدية.
عام 1980 صدر القانون رقم 152 بإنشاء الهيئة القومية لسكك حديد مصر وبعدها توالي على الهيئة العديد من المتغيرات ومع رياح الخصخصة تم تفكيك الهيئة إلى عدة شركات منها:
- الشركة المصرية للصيانة وخدمات السكك الحديدية.
- الشركة المصرية لمشروعات السكك الحديدية والنقل.
- الشركة الوطنية لإدارة خدمات عربات النوم والخدمات الفندقية والسياحية. تم إنشائها في 20 أغسطس 2012.
- شركة السكك الحديدية للخدمات المتكاملة وأعمال التأمين والنظافة.
- الشركة المصرية لتجديد وصيانة خطوط السكك الحديدية. تأسست الشركة في 22/11/2006 كشركة مساهمة مصرية لغرض إنجاز أعمال عمرة وإصلاح وحدات النقل المتحركة المملوكة للهيئة القومية لسكك حديد مصر
- شركة السكك الحديدية للصناعات التكميلية وقطع الغيار والمعدات.
- شركة المركز الطبي.
- شركة تطوير مشروعات تكنولوجيا النقل.
يوم 20 فبراير عام 2002 شب حريق في القطار رقم 832 المتوجه من القاهرة إلى أسوان والتي عرفت بحادث قطار العياط والذي أودي بحياة 350 شخصا، واعتبر أخطر حادث منذ إنشاء السكة الحديد وأقيل وقتها وزير النقل إبراهيم الدميري.
وربما كان حادث قطار العياط بداية لاهتمام الرأي العام بأزمة السكة الحديد والفساد الموجود بالهيئة وتوالت الحوادث وتوالت إقالات وزارات النقل واستمرت شكاوى المواطنين وحتى الآن من بطء وتأخير القطارات والارتفاع في أسعار التذاكر والحديث المتكرر من أيام مبارك ووزارة عاطف عبيد وحتى الآن في ظل وزارة الدكتور مصطفي مدبولي وتولي اللواء كامل الوزيري وزارة النقل والمواصلات من مارس 2019، وفي ظل قروض بعشرات المليارات من الدولارات لإصلاح المرفق.
رؤية الدولة المصرية لإصلاح السكة الحديد
في 13 أغسطس عام 2017 وفي أحد لقاءات الرئيس عبد الفتاح السيسي سأل الدكتور هشام عرفات وزير النقل عن إيرادات ومصروفات السكك الحديدية والتي تحتاج إلى 10 مليار جنيه لإصلاحها.
أوضح الوزير أن الإيرادات لا تتجاوز 2 مليار جنيه والمصروفات 5 مليار جنيه. وهنا تدخل الرئيس ليعقب:”طيب أنا عايز أحط 10 مليار في خطة إصلاح السكة الحديد وانا لو حطيتهم في بنك يجيبوا مليار جنيه في السنة ولو بسعر دلوقت يجيبوا اثنين مليار جنيه”.
وواصل الرئيس: “احنا بناخد قروض علشان السكة الحديد طيب هنسددها منين، ولما نقول هنزود سعر التذكرة المواطن يقولك أنا ممعايش، طيب أنا كمان ممعايش”.
أوضح الرئيس في كلمته أن الإصلاح يحتاج إلى أكثر من 100 مليار جنيه، وأن التشغيل الاقتصادي يعني رفع أسعار التذاكر حتى يمكن زيادة إيرادات الهيئة وسداد القروض.
لم يجر الحديث عن فساد الهيئة ووقف الفساد، لكن ارتكزت الرؤية على التطوير بالقروض ومشاركة القطاع الخاص من ناحية وعن تحمل المواطن لتكلفة الإصلاح، ورفع أي دعم عن الهيئة من ناحية أخرى. لأن الدولة لا تستطيع تحمل هذه الاعباء.
الفساد في السكة الحديد
هناك عشرات الوقائع التي نشرتها الصحف على مدى السنوات الماضية، ربما نسينا معركة الجرارات الموردة من شركات أمريكية في 2010 ،2009.
ونشرت “جريدة المصري اليوم” تقريرا لجهاز المحاسبات جاء فيه: أن الجرارات المتوقفة هي الجرارات الحديثة، وهى: الجرارات الواردة من شركة جنرال إلكتريك الأمريكية عام 2009 المخصصة للبضائع، الجرارات الموردة من شركة جنرال إلكتريك الأمريكية عام 2010 المخصصة للركاب، وقد بلغ المتوقف ركابا وبضائع 60% ، الجرارات الموردة من شركة «جنرال موتورز» الأمريكية عام 2009 المخصصة للركاب، الجرارات الموردة من شركة ألستوم الإسبانية عام 2004 المخصصة للمناورة، الجرارات الموردة من شركة إلكتريك الأمريكية عام 1996 المخصصة للركاب، الجرارات الموردة من شركة أدرانز الألمانية عام 1997 المخصصة للركاب والبضائع، الذى يعمل حاليا هو الجرارات الموردة من شركة هنشل الألمانية، ما بين 1976 و 1992.
وأوضح التقرير أن جرارات المناورة الإسبانية التي تم توريدها عام 2004 ذات قدرة منخفضة 900 حصان، بقيمة 435 مليون جنيه، حيث توقفت بعد 4 سنوات، وقد تم إيقافها وتشغيل جرارات كبيرة ذات قدرة كبيرة، قدرة 2475 حصان، بدلا من تشغيلها بقطارات خدمة الركاب، ويكشف تقرير المركزي للمحاسبات أن عملية الشراء شابتها مخالفات، وأن السكة الحديد اعترفت بالخطأ، وأنه لا يوجد لها سابق خبرة بهذه النوعية من الجرارات. (المصري اليوم – 28/9/2014).
ومن العجائب المصرية أنه مع بدء إجراء تحقيقات حول صفقة الجرارات الأمريكية فنشب حريق في إدارة المشتريات بالهيئة واحترقت كل ملفات الصفقة!
رغم ذلك لم يتم وقف التعامل مع هذه الشركات التي ورد ذكرها في تقرير المركزي للمحاسبات، وفي عام 2017 عقدت الدكتورة سحر نصر وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي، والدكتور هشام عرفات، وزير النقل، اجتماعا مع أيمن خطاب، الرئيس التنفيذى لشركة “جنرال إليكتريك مصر”. وبدأ الجانبان، التفاوض على العرض المقدم من الشركة للمساهمة في تطوير شبكة سكك حديد مصر، بتوريد من 100 إلى 200 عربة قطار، على أن تقوم بتصنيع 35 % منها في مصر، وذلك في إطار تتطلع الشركة لزيادة استثماراتها وتوفير مزيد من فرص العمل للشباب في مصر خلال السنوات المقبلة. (مصراوي – 11 إبريل 2017).
وبحسب ما نشرته “الوطن”، اشتكى عدد كبير من العمال والفنيين والسائقين والإداريين بالسكة الحديد من وجود تفاوت في الرواتب والحوافز الشهرية، وحصلت «الوطن» على صورة طبق الأصل من أحد كشوف الحوافز التي تم صرفها لعمال ومهندسي الهيئة في شهر ديسمبر الماضي، حيث حصل 3 مهندسين فقط على حافز شهري قيمته 18 ألف جنيه، بواقع 6 آلاف جنيه لكل فرد، بينما حصل 222 فنياً وعاملاً وسائقاً على 16 ألف جنيه، بواقع 71 جنيهاً لكل عامل في الشهر.
ويقول أحد موظفي السكة الحديد، رفض ذكر اسمه: “ما يهم قيادات الهيئة هو الجلوس على الكرسي لأطول فترة ممكنة، لتقاضى رواتب وحوافز كبيرة، ففي الوقت الذى تجرى فيه حرب بين قيادات الهيئة على الحوافز، لا يتسابقون في إصلاح بنيتها الأساسية وتطوير مرافقها، واكتفوا بإنفاق مليارات الجنيهات على تغيير بلاط الأرصفة ودهان الحوائط وبناء الأسوار بجوار قضبان الخطوط الفرعية بمحافظات الوجه البحري، هيئة السكة الحديد أنفقت المليارات على تطوير المرفق من الخارج، وأهملت الأساس، مثل تطوير محطة سكك حديد مصر وزخرفة جدرانها ودهان حوائطها وإنشاء كافتيريات جديدة، لكنهم تركوا البنية التحتية، مثل الجرارات والقضبان والفلنكات والإشارات أو السيمافورات كما هي دون تطوير حقيقي وجذري”.
يوضح الموظف الأربعينى، الذى تحدث بصوت غاضب: «كل المليارات التي تنفق على تطوير السكة الحديد مجرد حبر على ورق، لأن قيادات الهيئة تقوم بإنفاق 30% على أعمال التطوير بينما تنفق النسبة المتبقية على الحوافز والمكافآت، وفى النهاية يقولون إن الهيئة تخسر، ويتقاضى بعض القيادات رواتب كبيرة جداً لا تناسب حجم وظيفتهم تصل إلى 300 ألف جنيه لكل فرد، السائق يأخذ 45 جنيهاً على مشوار الإسكندرية مع أنه يقود قطاراً ثمنه أكثر من 100 مليون جنيه، لأنه يحاسب على الكيلو وهو عين السكة وأهم أفرادها، وسواق الميكروباص بياخد في المشوار الواحد 200 جنيه للإسكندرية في الأيام العادية».
وتابع: «يبلغ عدد عمال هيئة السكة الحديد نحو 73 ألف عامل وفنى وسائق وإداري ومهندس، فيما يبلغ عدد السائقين نحو 6 آلاف قائد قطار).
جريدة الوطن – 10 أسباب لانهيار “سكك حديد مصر” 16-08-2017 )
أما التليفزيون الألماني فتحدث عن أموال تثير شهية الفاسدين وقال: على صعيد التمويل يبدو أن الحكومة المصرية حشدت أموالا ضخمة بحجم يزيد على 16 مليار دولار لتمويل مشاريع المترو والسكك الحديدية وربطها ببعضها البعض.
ويأتي قسم من هذه الأموال عن طريق عائدات وقروض محلية، أما القسم الآخر فسيكون على شكل قروض وتسهيلات من دول ومؤسسات مالية أجنبية على رأسها بنك الاستثمار الأوروبي الذي وافق حتى الآن على برامج تمويل في قطاع النقل بقيمة 1.1 مليار يورو حسب وزيرة التعاون الدولي المصرية رانيا المشاط.
ويثير إنفاق الأموال التي تم حشدها في مشاريع السكك الحديدية شهية الفاسدين وما أكثرهم في الكثير من الإدارات الحكومية ومن بينها إدارات شبكة السكك الحديدية. وما إقالة مسؤولين كثر والتحقيقات التي شملت العشرات منهم خلال السنوات القليلة الماضية سوى بعض الأدلة على ذلك. وإضافة إلى الفساد تعاني هذه الإدارات من الفلتان والتسيب وغياب ثقافة الانضباط في العمل.
ومن هنا فإن السؤال المطروح هل يتم إصلاح الإدارات بشكل يسمح بإنفاق الأموال على المشاريع بكفاءة عالية؟ وفيما عدا ذلك فإن قسما كبيرا من الأموال سيجد طريقه إلى جيوب الفاسدين وأعوانهم عن طريق صفقات شراء مستلزمات المشاريع بنوعية رديئة وتنفيذ العقود بشروط لا تلبي المواصفات المطلوبة (DW – شبكة قطارات مصر بين خطط طموحة وإدارة فاسدة – 7/12/2020).
كما يقول سيد محمود سويدان، فنى أول هندسة سكة بنبرة غاضبة، أنه رغم قيام الهيئة القومية للسكك الحديدية بالتعاقد مع شركة فرنسية لإعادة تأهيل القضبان والفلنكات على خط الطوالى بالإسكندرية، بقيمة 25 مليون جنيه للكيلو الواحد. إلا أن السكة لا تزال تعانى من مشكلات كثيرة جداً.
ويقول: “تواجه الهيئة العاملين الذين يبلغون عن المشكلات بنوع من التعسف وتوقفهم عن العمل، بينما ترحب فقط بمن يوافقها على الاستمرار في الأخطاء، لكن الكوارث والحوادث التي تقع يومياً لا تكشف هؤلاء القيادات، لو عندي جرار كويس مش هيقدر يمشى على سكة متهالكة، لكن الجرارات سيئة والسكة أسوأ، فعمليات اللحام لا تتم بالمواصفات القياسية وتؤدى إلى حدوث مشكلات كبيرة، والراكب العادي يستطيع كشف عيوب السكة من خلال ملاحظته لاهتزاز القطار بشكل رأسي وبشكل أفقي، وسبب ذلك هو وجود عيب اسمه يد دريسة، أو بسبب وجود هبوط في السكة»( الوطن 16 أغسطس 2021)
مؤكد أن هناك العديد من تقارير الأجهزة الرقابية مثل التقرير الذي نشرته المصري اليوم منذ سنوات، ولكن لا يوجد جهة للتحقيق في هذه التقارير والتحقق من وجود المخالفات من عدمه وتحيل الفاسدين للنيابة العامة ليلقوا جزائهم على الفساد الذي يودي بحياة عشرات المصريين، ويهدر المليارات التي تنفق لإصلاح الهيئة. فكشف ومكافحة الفساد قضية أكثر أولوية لإصلاح السكة الحديد. وللحديث بقية.