وقع العالم فريسة فيروس كورونا لنحو عامين أو أكثر. الأمر الذي ألقى بظلاله على مختلف نواحي الحياة، وخاصة السياسية منها والاقتصادية. ومع بدء التعافي وخروج الشرق الأوسط نسبيًا من ضغوط الجائحة. ظهرت الحاجة إلى إعطاء الأولوية للنمو الاقتصادي. بينما في ظل الإدراك المتزايد بأن أفضل طريقة للتعامل مع المخاوف الأمنية المشتركة بشكل جماعي، ظهرت رؤية سياسية براجماتية جديدة يبدو أن دول الشرق الأوسط تتجه إليها بشكل متسارع.
وقد ساهم تراجع صخب التوترات الإقليمية حاليًا في زيادة فرص التفاؤل بشأن هذه البراجماتية الجديدة. وكذلك التواصل المتبادل بين أكثر الفاعلين نفوذًا في المنطقة.
وهو ما اهتم المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (International Institute for Strategic Studies)، بالبحث فيه، متناولاً -في دراسة جديدة- المشكلات المزمنة التي تعاني منها المنطقة. وأبرزها تصاعد خطر انقسام الشرق الأوسط إلى مجموعتين، تسير كل منها بسرعة مختلفة عن الأخرى. فيما ترصد هذه الدراسة التحدي الذي يواجه «البراجماتية الجديدة». والمتمثل في ضمان انتشار فوائدها، ووصولها للبلدان المعرضة لخطر التخلف عن الركب.
براجماتية جديدة للشرق الأوسط
وفق دراسة (IISS)، فقد شهد العام الماضي موجة من النشاط الدبلوماسي في المنطقة. وكان ذلك بهدف تهدئة الخصومات السياسية، وتعزيز النمو الاقتصادي.
وعلى سبيل المثال، فإن الإمارات العربية المتحدة عملت صراحةً على مواءمة سياستها الخارجية مع مصالحها الاقتصادية. فقلصت من بروزها في صراعات إقليمية، وتواصلت مع تركيا المنافسة الإقليمية لها. كما التقى وزير الخارجية عبدالله بن زايد الرئيس السوري بشار الأسد في دمشق. ضمن أحدث وأبرز خطوة تهدئة.
والأمر لم يتوقف هنا، بل سعت المملكة العربية السعودية بقوة إلى تحقيق أجندتها من خلال الشراكات الاقتصادية ومغازلة المستثمرين الأجانب.
وفي ضوء تلك التطورات الهادفة نحو البراجماتية الجديدة، قاد الأردن تقاربًا مؤقتًا مع نظام الأسد، الذي يخضع لعقوبات شديدة. وبينما لا يوجد تقدم مادي في الملف الإيراني السعودي، تواصل الجانبان في بغداد، وتوصلا إلى تجنب التصعيد. وهو اتفاق مستمر إلى الآن.
هذه كلها مؤشرات على البراجماتية الجديدة، تشير إليها الدراسة. وليس ببعيد عنها التطور في العلاقات المصرية التركية، والتي وصلت لذروة التوتر، قبل أن تقتضي الضرورة تقاربًا مؤقتًا، شهدته القضية الليبية وأيضًا أزمة شرق البحر الأبيض المتوسط.
البراجماتية الجديدة تستهدف التعافي الاقتصادي
كان لهذا التحول البراجماتي الجديد وتغير العلاقات وتقارب الدول على هذا النحو، عدة أسباب، في مقدمتها الاعتبارات الأمنية لمواجهة التهديدات التقليدية. كما هو الحال في التقارب الإماراتي الإسرائيلي بشأن إيران.
إلا أن للدوافع الاقتصادية دورا هاما في هذا التحول أيضًا. حيث تعرضت الحكومات المختلفة لضغوط ما بعد كورونا، التي فرضت حتمية التعافي بشكل عام. وإن كانت هناك خصوصية لدول الخليج، صاحبة الأهداف الاقتصادية المحددة في رؤاها التحولية الطموحة.
وما جعل التحول نحو البراجماتية الجديدة أكثر إلحاحًا هو زخم الانتقال العالمي من الهيدروكربونات، والذي رسخته توصيات قمة المناخ «COP26» المنعقدة في جلاسيكو خلال نوفمبر الجاري.
التحرر من القيود التقليدية
بحسب الدراسة، لم يعد للصراعات التقليدية أولوية في الوقت الراهن. بل بدت كعبء وجب تجاوزه والتخلص منه. ولا مثال أبرز على ذلك التحول أكثر من العلاقات مع إسرائيل، والحصار المفروض على قطر، والتوترات مع تركيا. إذ أثبتت التجربة أنها تخلو من المنطق في فترة الأزمات الاقتصادية.
وقد عزز هذا التحول البراجماتي الأخير تراجع اهتمام الولايات المتحدة بالمنطقة. الأمر الذي حفز الخيال الاستراتيجي نحو خلق شراكات اقتصادية وأمنية وسياسية، لم يكن من الممكن تصورها في السابق.
إن ما حدث من تغير في توجهات الدول وعلاقاتها، بل وأهدافها المرحلية، جعل المستحيل ممكنًا. كما أنه أتاح إعادة تصور وجود تحالفات وشراكات جديدة تخلو تمامًا من القيود التقليدية، وفق ما توصلت إليه دراسة (IISS).
مصير القضايا الإقليمية في ظل التوجه نحو البراجماتية الجديد
لقد تراجعت القضايا الإقليمية المشتركة التي كانت قائمة على أسس عرقية ودينية في الشرق الأوسط بشكل كبير، وحلت محلها تحالفات جديدة، تخدم رؤى أوسع، وفق ما توضحه الدراسة. وقد ساهمت في ذلك عدة عوامل.
إذ اتسمت الفترة الأخيرة من الصراع الإقليمي الذي بدأ في عام 2011 في شمال أفريقيا، برؤى متنافسة على النظام السياسي، لا سيما بين الإسلاميين والسلطويين. وقد اجتذب هذا الصراع أطرافًا خارجية، منها روسيا، والولايات المتحدة وحلفائها، وإيران.
كذلك، لم يتم التوصل إلى حل رسمي لأي من نزاعات العقد الماضي، باستثناء ليبيا. وربما تم استبدال بعض النزاعات لعدد من الأسباب منها الإرهاق المرتبط بطول المدة. إلى جانب الجهد المبذول، إضافة إلى انتشار الوباء الذي لعب دورًا محوريًا في توجهات الاقتصاد العالمي.
وقد استدعى تراجع واشنطن عن المنطقة تحت حكم كل من ترامب وبايدن الحاجة الجماعية لتعميم الأمن الهيكلي، والاهتمام بحالة الضعف الواضحة في حل النزاعات، والعمل على استبدالها، في إعادة توجيه نحو النمو الاقتصادي.
وعلى سبيل المثال، فإن المعاناة التي لم تنته في سوريا واليمن، باتت معرضة لخطر التغاضي عنها. حيث تتطلع نظرات القوى الإقليمية إلى آفاق أوسع على حساب مثل هذه القضايا العالقة.
واتساقًا مع ذلك، فإن التضامن القائم على الهوية العربية أو الإسلامية حلت محله التحالفات القائمة على المصالح المشتركة. ومنها على سبيل المثال تلك المعاهدات التي أبرمتها الإمارات مع إسرائيل والهند، في وقت كانت فيه الدولتان معاديتين لسكانهما الأصليين العرب والمسلمين.
وأيضًا، واصلت العديد من الدول العربية تطوير علاقات تجارية ودفاعية مع الصين. ذلك على الرغم من معاملتها لسكانها المسلمين من الأويجور. وعلى هذا الأساس يمكن قياس حجم التضامن المبني على أسس عرقية أو دينية مقابل اعتبارات أخرى.
المجموعتان المتصارعتان.. شبح انقسام الشرق الأوسط
لا يزال الطريق طويلاً كي تصل المنطقة للازدهار المشترك. رغم الترحيب بالنهج الجديد الذي أعطى الأولوية لتحقيق النمو الاقتصادي، واتباع النهج البراجماتي، في سبيل وقف التوترات الجيوسياسية.
إذ تبقى هناك مخاطر تحف ذلك التوجه الجديد. وهي متعلقة بحالة الانقسام المحتملة في الشرق الأوسط، حيث ستتدفق الفوائد على دول الخليج الأكثر ثراءً بالفعل. وهو ما يُحدث انقسامًا حقيقيًا وعميقًا بين البلدان ذات المستقبل العالمي المثير، وتلك العالقة في الماضي المؤلم، بحسب الدراسة.
ويمكن القول إن حسابات الأطراف الإقليمية الرئيسية قد تغيرت فيما يتعلق بالتزاماتها أو مصالحها في التدخل في ظل البراجماتية الجديدة، وأصبح التفكير في مخاطر أي تدخل عسكري أو سياسي تفوق الفوائد.
رؤية النظام الجديد.. الاقتصاد أولا
هنا، تختتم الدراسة الصادرة عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، بأن الرؤية الاقتصادية هي المهيمنة على المنطقة، وليس السياسية فقط. فلم تعد هناك جاذبية للهوية العربية أو الإسلامية حتى بين الإسلاميين أنفسهم. لقد تحول التوجه بقوة نحو تقديم شكل جديد من الاقتصاد بدلا من المجتمع.
وهذا يجعل المنافسة الإقليمية على الأعمال التجارية والاستثمارية العالمية شديدة، في ضوء استهداف الدول تحقيق أهداف اقتصادية تحولية.
هناك دلائل واضحة على أن الإمارات والمملكة العربية السعودية، اللتين تتمتعان بأعلى مستوى من الطموح، والأكثر عرضة للانتقال من الهيدروكربونات، تجدان نفسيهما في ديناميكية أكثر تنافسًا، لتحقيق اقتصاد متكامل ومتنوع. ولكن على المدى الطويل، من المرجح أن تصبح هذه المنافسات جزءًا من إعادة تشكيل أوسع للاقتصاد الإقليمي، ليشمل مجال نفوذهما شركاء اقتصاديين وأمنيين في شرق البحر الأبيض المتوسط، كاليونان وإسرائيل، وآسيا، وكذلك باكستان والهند والصين.
ومن المتوقع أن يكون أكثر المستفيدين من التحول البراجماتي الجديد -وفق استنتاجات الدراسة- اقتصادات الخليج القوية. إلا أن الأمر سيكون أكثر صعوبة على بلاد الشام وشمال أفريقيا، التي تبدو عازمة أكثر على تحمل الديناميكيات التقليدية للشرق الأوسط، وإدارة المشاكل المحلية الملحة والأجندات المألوفة للفقر والتطرف والإرهاب.
ستدفع الاستراتيجية الجديدة الاقتصادات الرئيسية في المنطقة إلى الالتزام باحتواء منافساتها، وتعزيز حل النزاعات والتنمية في البلدان الأكثر تضررًا بالصراعات. وهذا بدوره سيتطلب احتواء أولئك الذين يعانون من عدم الاستقرار وعلى الأخص الأردن ولبنان.