في صباح 21 نوفمبر الجاري، انطلق حاخام يهودي -أو ما بدا كذلك- سيرا على الأقدام نحو باب السلسلة. أحد الأبواب المؤدية إلى المسجد الأقصى، في البلدة القديمة في القدس. وهيئة الحاخام سمحت له بالمرور دون تدقيق من أمن الاحتلال المتواجد في المكان، على النقيض مما يفعلونه مع ذوي الهيئات العربية.
ثوان معدودة، دار فيها بضع كلمات بمخيلة الحاخام، و… «كارلو»، محلي الصنع مُتشوّق للاستخدام، ورصاصات مُتحرقّة صوب الجنود والمستوطنين. قتلت رصاصاته مستوطن وأصابت ثلاثة آخرين بجراح. قبل أن يُردى قتيلا.. وقد رادَى عليها من قبل.
لم يكن هذا الحاخام سوى فلسطيني مقدسي على هيئته، اسمه: فادي أبو شخيدم. وقد جاوز الأربعين من عمره.
ولم تكن هذه العملية سوى تطورا نوعيا آخر في العمل الفدائي المتصاعد مؤخرا بالقدس المحتلة والضفة الغربية. على وقع ما بعد «هبة مايو»؛ وحسابات المواجهة الجديدة وليدتها.
اقرأ أيضا| فلسطين: أمَّا بعد
تفاصيل العملية
لم تمض سوى دقائق معدودة، حتى تكشفت بعض التفاصيل. أظهرت مقاطع فيديو، على وسائل التواصل الاجتماعي، صوت دوي الرصاص وصراخ العشرات من الجنود بالعبرية: أنقذونا، أنقذونا.
ثم توقف الدوي
لاحقا ظهر المزيد عن منفذ العملية. فأبو شخيدم يعمل مدرسا للغة العربية في المدرسة الرشيدية في القدس. التي اقتحمها جنود الاحتلال برفقة كلاب الأثر واستدعت بعضا من طالباته للتحقيق. وفي مخيم شعفاط شمالي القدس، حيث عاش فادي. اقتحم عدد كبير من عناصر وحدتي «اليمّام» الخاصة و«حرس الحدود»، منزله بعد حصاره ومنع الأقرباء من دخوله، قبل أن يعتقلوا ابنته وشقيقه وابن شقيقه.
«ساحة البطولة أن تقف أمام الظالمين. ساحة البطولة أن تقول للظالم ابتعد عنا». هكذا قال أبو شخيدم قبل أيام من عمليته البطولية، وقد كانت كلماته حقا، ما دفع الآلاف من أهالي شعفاط للاحتشاد في الشوارع احتفاءً ببطولته. فيما يؤشر عمّا يدور تحت الرماد.
لم تضيع حركة حماس الكثير من الوقت. وأعلنت أن منفذ العملية هو القيادي في الحركة بمخيم شعفاط. وأن «رسالة العملية البطولية تحمل التحذير للعدو المجرم وحكومته بوقف الاعتداءات على أرضنا ومقدساتنا. وأن حالة التغول التي تمارسها ضد المسجد الأقصى وسلوان والشيخ جراح وغيرها، ستدفع ثمنها».
العملية أتت بعد نحو يومين فقط من حظر بريطانيا لحركة حماس، وتصنيفها «منظمة إرهابية». في موقف يتماشى مع موقفي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وبالطبع استغلها رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت، قائلا للحكومة إنه «في مثل هذا الصباح، يمكن للمرء أن يستمد الدعم من القرار (البريطاني) بتصنيف حماس، وما يسمى جناحها السياسي، منظمة إرهابية».
ويقول الباحث في الشأن الإسرائيلي نهاد أبو غوش: «سارعت إسرائيل إلى اتهام قيادة حماس بالمسؤولية عن العملية. وإن كانت كل الدلائل تشير إلى طابع العملية الفردي مع الإقرار بانتماء الشهيد أبو شخيدم لحركة حماس. الدوائر الإسرائيلية سارعت للكشف عما أسمته شبكات من الفدائيين ومخططا واسعا لحماس، وخلايا مسلحة، ووسائل قتالية، وادعت أن هذه الشبكة يجري توجيهها من الخارج وتحديدا من القيادي صالح العاروري، وربطت بين هذه الشبكات وعملية القدس وما جرى في قريتي بروقين وبدو في شهر سبتمبر الماضي».
ويضيف لـ«مصر 360». أن إسرائيل تدعي أن حماس تريد الهدوء في غزة والتصعيد في الضفة. والحقيقة أن إسرائيل هي التي تريد الهدوء في غزة وتريد فصلها نهائيا عن الضفة بينما تواصل تنفيذ مخططات الضم وتهويد القدس في الضفة. وهذا ما يراكم القهر والسخط والغضب لدى جميع الفلسطينيين ويستدعي ردات فعل فردية وجماعية، عفوية ومنظمة، وفي ضوء استمرار مخططات الضم وانسداد الآفاق أمام أي حل سياسي فإن كل خيارات التصعيد متوقعة».
شعبية حماس المتزايدة
تلك العملية سلطت الضوء على تصاعد متسارع في المواجهة بين حماس -التي تقود الكفاح الفلسطيني المسلح بحكم الوقائع- وإسرائيل. في القدس وفي الضفة الغربية. حيث أشد مخاوف الإدارة الصهيونية من تمدد شعبية الحركة.
ويتجلى ذلك بوضوح في تصريح وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس. الذي قال فيه إن بلاده لن تسمح لحماس بموطئ قدم في القدس الشرقية. وقال: تحاول حماس إشعال الوضع داخل إسرائيل، وبالأخص في يهودا والسامرة (الاسم التوراتي للضفة الغربية). هذه محاولة خطيرة وقد فشلت. لن نسمح لها بتحويل يهودا والسامرة إلى غزة، كما لن تحصل على موطئ قدم في القدس الشرقية».
صحيفة «معاريف» مثلا قالت إن قوة حماس المتصاعدة في الضفة والقدس. تشير إلى «عهد جديد»، في ربط ديني بالـ«العهد القديم».
وأوضحت أن المؤسسة الأمنية والجيش الإسرائيلي. يشعران بالقلق من أن الأشهر التي انقضت منذ عملية «حرس الأسوار» (الاسم الذي أطلقه الاحتلال على العدوان الأخير على قطاع غزة المحاصر والذي استمر 11 يوما). عززت حركة حماس على الأرض، لا سيما في ما يتعلق بدعم الشارع الفلسطيني.
نقاط التماس في الضفة
والتصعيد يشمل كل نقاط التماس في الضفة، وحماس جزء من هذه المواجهات التي تشارك بها أيضا حركة فتح. كما وقع في عدة مواقع في جنين وفي موقع بيتا والخان الأحمر وداخل مدينة القدس، بحسب أبو غوش، كما تشارك فيها الجبهة الشعبية وهي التنظيم الأكثر استهدافا بالقمع والاعتقالات خلال الشهور الأخيرة وتحديدا منذ عملية عين بوبين. وحركة الجهاد الإسلامي هي الأبرز في مواجهات جنين وتتعرض لاعتقالات مستمرة في بيت لحم وقرى طولكرم، والجبهة الديمقراطية تنشط في العيسوية وأبو ديس على مدار العام، وحزب الشعب وقيادته هو الأبرز في مواجهات بيت دجن.
و«هكذا نجد أن المواجهات تنتشر على امتداد الوطن. ولكن ما ينقصها هو اعتماد استراتيجية وطنية موحدة وقيادات وطنية موحدة على مستوى المواقع والمحافظات، وضمان تكامل واتساق فعاليات المقاومة الشعبية والجماهيرية مع أشكال النضال السياسي والجماهيري الأخرى، سياسية وقانونية ودبلوماسية، وهذا يستوجب الإقرار بحاجتنا جميعا إلى الشراكة الوطنية، فعدونا موحد بحكومته وجيشه ومستوطنيه وحتى قوى المعارضة لديهم تشارك في المعركة لتصفية حقوقنا بينما نحن منقسمون ومتشرذمون وكل فصيل له أجنداته واستراتيجيته»، يشدد السياسي الفلسطيني.
اقرأ أيضا| مخيم جنين: زنابق المقاومة تُنبت دوما من بين الشقوق
قلق السلطة
بالتزامن مع القلق الذي تبديه أجهزة الأمن الإسرائيلية من اندلاع موجة جديدة من العمليات الفلسطينية المسلحة. فإنها في الوقت نفسه تسلط الضوء على ما تتخذه السلطة الفلسطينية من مواقف متشددة في الأيام الأخيرة ضد أي محاولة من حماس لإظهار قوتها بالضفة الغربية خلال احتفالات إطلاق سراح أسراها من السجون الإسرائيلية بعد قضاء محكومياتهم.
وحسب صحيفة «جيروزاليم بوست» فإن تزايد شعبية حماس. يثير استياء السلطة الفلسطينية التي أدت سياساتها إلى تزايد شعبية حماس في القدس. وأن حركة فتح تدفع العديد من الفلسطينيين، ومنهم سكان القدس الشرقية، إلى ذراعي خصمها حماس. بعد أن نجح قادتها في خلق قنوات تواصل مع العديد من سكان القدس الشرقية، واتصال مباشر مع بعض عائلات حي الشيخ جراح، المهدد بالتهجير.
وكان زعيم حركة حماس إسماعيل هنية على اتصال مباشر مع عائلات الشيخ جراح. واتصل هاتفيا أيضا بعدد من سكان القدس الشرقية. ومنهم سيدة احتجت على ما تزعم إسرائيل أنه أعمال ترميم بالقرب من قبر ابنها بجوار باب الأسباط.
وغالبا ما يجد المنتسبون لحماس، مثل أبو شخيدم، ممن يعيشون تحت حكم السلطة الفلسطينية أنفسهم في السجون الفلسطينية أو دون وظائف. فوفقا لتعبير الصحيفة اليمينية «لو كان أبو شخيدم يعيش في رام الله أو نابلس لكان قد اعتقل أو طُرد من وظيفته منذ زمن بعيد».
يشير أبو غوش «السلطة الفلسطينية، ومعها حركة فتح وعموم الحركة الوطنية الفلسطينية في أزمة عميقة ومستحكمة بسبب المآل الذي انتهى إليه اتفاق أوسلو. وثبوت أن هذه الطريق من المفاوضات الثنائية بالرعاية الأميركية الأحادية والقيود والشروط المجحفة لن تقود إلى دولة، إسرائيل تمارس سياسة تبدو في الظاهر متناقضة تجاه السلطة فهي تضيّق عليها وتصادر أموال المقاصة وتستبيح المناطق المصنفة (أ) وتعمد إلى إحراج قادتها ورموزها أمام شعبها، وفي نفس الوقت تقدم مبادرات لتحسين الحياة الاقتصادية وتطلب من دول العالم دعم السلطة، هذا التناقض يمكن تفسيره إذا علمنا أن إسرائيل تريد أن تختزل دور السلطة في وظيفتين فقط هما حماية أمن إسرائيل، وتخفيف عبء التعامل مع خمسة ملايين فلسطيني وشؤونهم الحياتية وخدماتهم عن إسرائيل».
ولذلك هي لا تريد انهيار السلطة بل تريدها ضعيفة ومعتمدة على إسرائيل، وليست قوية بحيث تستطيع اتخاذ قرارات وطنية لا ترضى عنها إسرائيل، لذلك ليس أمام المؤسسة الفلسطينية سوى العودة لقرارات المجلس الوطني الفلسطيني بدورته 23، بتعبير السياسي المقدسي لـ«مصر 360»، والتي تنص على استعادة الوحدة الوطنية وإعادة تعريف العلاقة مع الاحتلال، وإعادة صياغة دور السلطة ووظائفها لتقتصر على تأمين صمود الناس وأداء الوظائف الخدمية، بينما مهمة قيادة النضال السياسي والجماهيري هي من اختصاص منظمة التحرير وفصائلها والتشكيلات الموحدة المطلوبة وخاصة القيادة الوطنية الموحدة.
اقرأ أيضا| الهندسة الأمنية في الضفة الغربية.. من النشأة إلى التنسيق
مخاوف متزايدة
وخلال الفترة الماضية. اعتقلت أجهزة الاستخبارات العسكرية التابعة للسلطة رجلا من جنين تلقى اتصالا هاتفيا من هنية ليقدم تعازيه في وفاة ابن أخيه، المقتول برصاص الجيش الإسرائيلي. واعتقل جهاز الأمن الوقائي التابع للسلطة الفلسطينية مُعلما من بيت لحم قال لطلابه إنه يحترم حماس أكثر من العلم الفلسطيني.
وخلال الأسابيع القليلة الماضية، اعتقلت قوات الأمن التابعة للسلطة أكثر من 35 عضوا من أعضاء حماس في الضفة الغربية. دون أن يُسمح لها باعتقال أو حتى استجواب أي شخص يحمل بطاقة هوية أو جنسية إسرائيلية. فيما أقالت خطيبَي مسجد عبَّرا مؤخرا عن دعمهما لحماس.
وبعد العملية الأخيرة. أعلن الجيش الإسرائيلي اعتقال أكثر من 50 عنصرا من حركة حماس، وزعم ضبط أحزمة ناسفة ومتفجرات كانت ستستخدم لتنفيذ عمليات تفجيرية داخل إسرائيل، وذلك في إطار إحباط شبكة تابعة لحماس كانت تعمل في الضفة الغربية. وأشار البيان إلى أن العملية استهدفت «بنى تحتية تخريبية» في مناطق الضفة الغربية كانت ستستخدم في الضفة والقدس.
شبكة حماس في الضفة
وتبدو إسرائيل قلقة من تنامي قوة حماس مقابل ضعف السلطة، وقد حذرت صحيفة «هآرتس» من «انتفاضة جديدة».
وتقول إن تل أبيب قلقة من مستوى تعقيد شبكة حماس في الضفة الغربية، مقابل ضعف السلطة الفلسطينية، وأن قدرة حماس على إنشاء خلايا محلية فرعية في الضفة، تمهيدا لسلسلة هجمات، كانت ستجعل من الصعب على السلطة الفلسطينية السيطرة على مدن الضفة مما سيجعل العلاقات بينها وبين إسرائيل أكثر صعوبة.
واعتبر العميد نيتسان نوريئيل، الرئيس السابق لهيئة مكافحة الإرهاب، أن «شروط الانتفاضة الجديدة في الأراضي الفلسطينية قد نضجت»، والتي تشير إليها أحداث العنف في القدس في الأيام الأخيرة، بما في ذلك هجوم إطلاق النار الذي قتل الجندي آدم كاي.
رد حماس
ويبدو أن حماس ترد على الخطوات المتسارعة في القدس التي جرت في الشهر الماضي. من اعتداءات في باب العامود وتوسع في التضييق على النشطاء واستفزازات ممثلوا اليمين المتطرف. كعضوا الكنيست إيتمار بن غفير وبتسلإيل سموتريش من حزب «الصهيونية الدينية». في محيط الحرم القدسي وغيرها من محاولات إحياء المسيرات بداخله.
اقرأ أيضا| التصعيد الإسرائيلي المتسارع في القدس: سياقات ودلالات
ويعد ذلك جزءا من معادلتها الجديدة التي تشمل الضفة والقدس، والتي كانت سببا في اشتباكها مع الهبة الشعبية التي جرت في مايو/أيار الماضي، ومحاولة لخلق جبهة جديدة في ظل تعثر استثمار انتصارها في غزة كما كانت تتوقع.
وأكد إسماعيل هنية، في مطلع الشهر الجاري «أننا مستعدون للدخول في مقاومة شعبية في الضفة الغربية تتطور إلى انتفاضة ضد الاحتلال».
ويرى المحلل السياسي الفلسطيني عدنان أبو عامر أن القلق الإسرائيلي من هذه الساحة ما زال في ذروته. ولعل آخرها ما رافق جنازة القيادي بالحركة وصفي قبها، الذي توفي متأثرا بوباء كورونا. «على الرغم من أن وفاة قبها جاءت طبيعية في ظل ما تعيشه الأراضي الفلسطينية من كارثة كورونا. فإن جنازته شكلت ما يشبه استفتاء على ما كان يحمل الفقيد من مبادئ وأهداف وأفكار. تمثل قاسما مشتركا لجميع الفلسطينيين. بعيدا عن حالة الاستقطاب القائمة على الساحة الفلسطينية. بدليل أن المشاركين في جنازته جاؤوا من كل الأطياف السياسية والتوجهات التنظيمية».
هوس إسرائيلي
وأشار إلى حالة «الهوس» الإسرائيلية التي صاحبت الجنازة، فقد عد الاحتلال بمختلف وسائله الإعلامية وتقاريرها الإخبارية أن ما شهدته جنازة قبها يعد فشلا ذريعا للجهود الأمنية المستمرة منذ أكثر من 15 عاما ضد قوى المقاومة في الضفة الغربية، بدليل أن الجنازة رافقها خروج عشرات المسلحين والملثمين الذين يهتفون باسم كتائب القسام، الجناح العسكري لحماس، التي كان قبها أحد قادتها في الضفة الغربية.
يؤكد أبو غوش أن دولة الاحتلال تخشى من أن نشاطات المقاومة المتفرقة يمكن أن تنمو وترتقي لتصبح حالة دائمة وشاملة ونمط حياة للفلسطينيين تحت الاحتلال، ونجاح مخططات الاحتلال ومشاريعه يتطلب إذعان الفلسطينيين واستسلامهم لشروطه، بينما المقاومة بمختلف أشكالها تؤكد أن الصراع لم ينته ولن ينتهي إلا بانتزاع الحقوق الوطنية الفلسطينية.
هذه المقاومة يمكن أن تنمو وتتصاعد وترتقي إلى ما يشبه نموذج العصيان الوطني الشامل. «كل الظروف الموضوعية مواتية لذلك». بحسب المحلل الفلسطيني. ولكن تبقى الظروف الذاتية وبالتحديد علاقات الفصائل والقوى السياسية الفلسطينية ببعضها البعض. هذه التطورات سوف تهز صورة الاستقرار والأمان التي تسعى إسرائيل لتعميمها وترويجها. ويمكن لها أن تساهم في استنزاف طاقاتها وجهودها وتؤثر على سمعتها ومكانتها. إن لم يكن لدى الحكومات فعلى الأقل لدى الشعوب، و«هذا يؤسس لمرحلة جديدة من النضال الوطني الفلسطيني ضد مشاريع تصفية القضية والحقوق الفلسطينية وفرض نموذج الأبارتهايد الإسرائيلي في فلسطين».