ثمة عالم سري موازٍ لا يُراد لشعوب العالم معرفة تفاصيله، لكن مناوشات حروب التجسس والمراقبة تكشف جانباً من هذه المغارات عندما تصل الصراعات لساحات المحاكم، حين تكتشف إحدى الدول أنَّها وقعت ضحيةً للتنصت، أو يكشف عن استخدام سيئ لأنظمة مراقبة تُمكن الحكومات من تعقب منتقديها. عندها تتسرب المعلومات، وتبدأ وسائل الإعلام الحديث، في خجل، عن عالم ما وراء التكنولوجيا.
الأحد، 28 نوفمبر، اتّهم القضاء الفرنسي شركة نيكسا تكنولوجي الفرنسية، ببيع معدات مراقبة للحكومة المصرية تمكنها من تعقب المعارضين، والنشطاء، وذلك بعد حوالى أربعة أشهر من اتهام أربعة مديرين تنفيذيين ومسؤولين في الشركة.
فرنسا التي امتعضت من محاولات التجسس على صناع سياساتها تمتلك غرفة رئيسية في المخبأ السري للمراقبة والتتبع، من خلال شركات تكنولوجية تصنع علانية أجهزة مراقبة في سوق مفتوح، لكنها تحتفظ بجزء من منتجاتها ذات الطبيعة الخاصة للساسة والحكومات.
لذلك ليس مستبعدًا أن تنتقل الحروب الميدانية إلى حروب ما وراء التكنولوجيا، والتي بدت ملامحها خلال السنوات الماضية، لكن خطورة تلك المرحلة ليس في نطاقها الجغرافي بقدر تحديثاتها المستمرة، والتي تجعل أحاديث الغرف المغلقة للساسة على الهواء مباشرة لدى الخصوم؛ وهو ما فطنت إليه شركات كبرى وشخصيات نافذة؛ ينفقون ملايين الدولارات على برامج وأنظمة حماية ضد الاختراق، حتى تلك الدول الفقيرة تخصص ميزانيات لهذا الغرض ربما تفوق ميزانيات الغذاء لشعوبها.
في هذا التقرير نسلط الضوء على قدرات بعض برامج التجسس الفرنسية التي باتت خلال الفترة الأخيرة حديث العالم، بينما يسأل عامة الناس عن حقيقة هذه البرامج وإمكانياتها. وتجدر الإشارة إلى أن الشركات الخاصة متعددة الجنسيات تمتلك ذراعًا طويلاً في هذه الأنشطة، من خلال تطوير برمجيات خبيثة وأنظمة تجسس ومراقبة، لكنها ليست ضمن محاولة التتبع التالية.
نكسا تكنولوجيز.. نوافذ العالم مفتوحة أمام الشركة الفرنسية
تنتج شركة نكسا تكنولوجيز (Nexa Technologies) الفرنسية، معدات المراقبة وأجهزة التتبع، وتستهدف على نطاق واسع الشركات، والحكومات، مع اهتمام أقل لدى الأفراد، نظرًا لمساحة التكنولوجيا التي توفرها الشركة في عمليات التتبع والمراقبة، والتي لا يهتم بها الأفراد بشكل كبير.
ووفق تعريفات تركتها الشركة عبر موقعها الإلكتروني، فإن مجال إنتاجها يتنوع بين: معدات المراقبة المنزلية، معدات مراقبة أجهزة الحاسوب والهواتف المحمولة، أجهزة التتبع”.
تحليل شبكة البيانات الضخمة
لكن منتجات الشركة متفوقة في تحليل البيانات الضخمة،. ولذلك تقدم الشركة خدمات لعملائها في تحليل مليارات الأحداث، ومن ثمّ دمج البيانات من مصادر غير متجانسة، وفهم السلوك الرقمي.
واحدة من المجالات المهمة التي تقول الشركة إنها بارعة فيها هي مراقبة الإنترنت، من خلال مجموعة نظم تقوم باعتراض الإنترنت، تتوفر هذه النظم من خلال 3 طرق هي: مجسات IP، مستشعرات واي فاي، اعتراض بيانات الأجهزة المحمولة، لذلك تقوم برامج الشركة باكتشاف البيانات على بعد عشرات الكيلومترات.
مراقبة مواقع التواصل الاجتماعي
ليست مراقبة الهواتف المحمولة فقط أو البيانات الموجهة للأفراد أو الكيانات، لكن الشركة تتيح لعملائها مراقبة أي هدف، سواء فرد أو كيان على الشبكات الاجتماعية، من خلال المصادر المفتوحة، التي تتيح للمحليين الكشف عن البصمة الرقمية.
توفِّر الشركة الفرنسية منتجات لمراقبة المكالمات الصوتية على الهواتف المحمولة، والتقاط واعتراض ومعالجة الهواتف الذكية، سواء كان في حالة استخدام أو إغلاق، وهو ما يتيح للجهات المستخدمة لهذه البرامج التجسس على المستخدمين صوتيًا حتى في أوقات غلق الهاتف، لذلك أضافت شركة “أبل” في أحدث إصداراتها العام الجاري 2021 ميزة جديدة، أعلى الشاشة تظهر علامة زرقاء في حال فتح الميكروفون أو الكاميرا، وتظهر عادة عند إجراء المكالمات الهاتفية، وفي حال ظهورها بدون استخدام الهاتف يعني أن الهاتف مراقب عبر واحدة من برامج التجسس.
أجهزة حماية
بالإضافة إلى ذلك، توفر الشركة الشركة معدات اعتراض للإشارات الساتلية التي تستخدم الفضاء الخارجي للوصول إلى الأهداف، وهي بذلك تقدم حماية للجهات التي تقوم بعمليات مراقبة للكيانات، حيث تسمح معدات الشركة بمراقبة المحطات ذات الخوارزميات الفريدة والمعقدة.
انطلاقًا من هذه الميزة، تقدم منتجات الشركة ميزة أخرى لالتقاط هذه الإشارات الساتلية، وتقوم بتحليلها، ثم تقوم باكتشاف أجهزة الإرسال، وتحليلها ومعرفة مصدرها ومن ثمّ تسجيلها، وتوفير تقرير للجهات المستخدمة حول طبيعة الإشارة المرسلة.
مراقبة السجون
واحدة من المنتجات التي توفرها الشركة، وتقول إنها تساعد على حفظ الأمن وكشفت التهديدات الأمنية، تتعلق بمعدات مراقبة السجون وتحديدًا الكشف عن الهواتف المحمولة في السجون، وأجهزة تنصت تعمل عن بعد. كما تتعقب هذه المنتجات الاتصالات الإلكترونية، من خلال عنوان بريد إلكتروني أو رقم هاتف، أو تطبيقات هاتفية.
برمجية Cerebro.. محتويات الإنترنت في حوزة “أمسيس“
قبل اكتشاف تورطها في انتهاكات، جراء بيعها منتجات لأنظمة ديكتاتورية، منها الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، كانت شركة نكسا تكنولوجيز تسمى “أمسيس”، وتورط برمجية التجسس Cerebro، وهي برمجية تتيح القدرة على المراقبة الشاملة للاتصالات عبر تقنية “Deep Packet Inspection”، بما في ذلك المكالمات الصوتية والرسائل النصية. فضلاً عن رسائل البريد الإلكتروني والرسائل الفورية، وشبكات التواصل الاجتماعي المختلفة وعمليات البحث على محركات البحث.
تغطية بلد بأكمله
المختلف في هذه البرمجية التي تسمى أيضًا Eagle، قدرتها على تغطية بلد بأكمله، من خلال فرض عملية مراقبة واسعة النطاق على شبكة الإنترنت في نطاق بلد كامل، ومن ثمّ تقوم بحفظ بيانات الاتصالات بالشبكة، بما في ذلك عناوين IP.
كما تقوم هذه البرمجية بتفتيش محتويات البريد الإلكتروني، وعمليات التصفح والبحث على الإنترنت، وتتبع الصفحات المتصفحة وجمعها في ملف واحد. للدرجة التي تجعل إدخال مستخدم ما كلمة واحدة على محرك البحث حتى تقوم التقنية بالتقاطها وتخزينها، شريطة أن تكون هذه الكلمة من كلماته المفتاحية، على سبيل المثال في حال تثبيت كلمة “إرهاب” ضمن الكلمات المفتاحية للنظام فإنها يقوم بالتقاط وتخزين كل عمليات البحث والتصفح المتعلقة بالكلمة، وبيانات المتصفح وبريده الإلكتروني.
تحديد مواقع الهواتف المحمولة
من خلال التقاط Cerebro الكلمة المفتاحية، يحيلها مباشرة إلى برمجيات تقوم بتتبع معلومات المستخدم، ومن ثم تحديد مواقع الأجهزة المستخدمة، لاسيما الهواتف المحمولة، حتى وإن كانت مغلقة، بالإضافة إلى جمع معلومات بشأن عدد مرات البحث عن الكلمة نفسها وتواريخ البحث والتصفح. كما يقوم البرنامج بتحليل بيانات المستخدمين وتصنيف سلوكهم، وجمع معلومات ذات الصلة في مليارات المحادثات المسجلة.
“كورتيكس فورتيكس” يتنصت على المكالمات
طورت شركة “إيكروم سنريز” (Ercom-Suneris) جهاز للتنصت على الهاتف وتحديد الموقع الجغرافي، أطلق عليه اسم كورتيكس فورتيكس (Cortex vortex)، وبدوره يقوم بتتبع المكالمات الهاتفية تسجيلها وتخزينها، وفق برنامج يخضع للتصنيف، حسب الكلمات الرئيسية المفتاحية التي يجرى إعدادها مسبقًا.
وزوّدت الشركة الفرنسية الجهاز بعدّة وسائل لاعتراض الاتصال. بالإضافة لبرمجية تحفظ وتعالج المعلومات، تسمى Cortex يمكن استخدامهما لاعتراض المكالمات والرسائل النصية ومراقبة حركة الإنترنت أو تحديد الموقع الجغرافي.
محرك البحث Exalead يجمع البيانات
أما شركة “داسو سيستيم” (Dassault Systèmes)، وهي الفرع التكنولوجي لشركة صناعة الأسلحة الفرنسية للوزن الثقيل والمصنع لطائرة رافال، قامت بتطوير محرك البحث Exalead وهو المسئول عن تسليم نتائج ذكية مبنية على قواعد بيانات، ويقوم بربط قواعد البيانات المختلفة في مكان واحد.
كوزموس.. رقمنة البيانات
أما شركة كوزموس للبرمجيات الفرنسية، فهي متخصصة في الحلول البرمجية والرقمنة، اتهمت بتزويد بعض الأنظمة بمعدات مراقبة إلكترونية. وهي من الشركات الكبرى في مجال تقديم حلول محتويات الإنترنت والوسائط المتعددة، وقدمت خدماتها إلى كبرى المؤسسات في الشرق الأوسط، ولديها علاقات نافذة مع دولة الإمارات العربية المتحدة التي تولت موقع مهرجان دبي للتسوق وموقع الوراق التراثي ومطار أبوظبي الدولي، وغيرها من المواقع الإلكتروني الرائدة، والتي يرتادها جمهور واسع عربيًا.
تتهم الشركة باستخدام برامج، من خلال برمجياتها الرقمية لتتبع رواد المواقع التي تتكلف بإنشائها أو تطويرها، وهي بذلك تشارك في تجميع بيانات ضخمة عن المستخدمين وطبيعة اهتماماتهم، بالنظر إلى الصحفات التي يترددون عليها، لاسيما لدى موقع الوراق الذي يحتوي على كمية ضخمة من الكتب.
اتهامات وتحقيقات
في عام 2013، تحدث خمسة ضحايا ليبيون أمام قاضي التحقيق الفرنسي عن عملية تعذيب تعرضوا لها بداية 2011، عندما خضعوا للاستجواب حول محادثات لهم، خاصة عبر “فيسبوك”، رصدتها أجهزة المخابرات الليبية، وكانت القضية تتعلق بتزويد شركات فرنسية نظام الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي بأجهزة إلكترونية، استعملها للتجسس وملاحقة وقمع المعارضين.
وكانت القضية التي كشفها صحفيون من “وول ستريت جورنال”، تتعلق بأن “أميسيس”، جهّزت مركزًا للتجسس على الإنترنت في طرابلس الليبية، من خلال نظام لتحليل النشاط السيبراني، اطلع من خلاله النظام الليبي على الرسائل المتبادلة عبر الشبكة، وهو ما سمح بتوقيف واعتقال عشرات المعارضين، والتنكيل بهم.
ظلت القضية تراوح مكانها في المحاكم الفرنسية إلى أن كشف موقع سيرفيلانس ديسكلوز (Surveillance Disclose) الإلكتروني، جانبًا آخر من شبهات حول الشركات الفرنسية، ويتعلق بإقامة نظام سيبراني للسلطات المصرية بموافقة السلطات الفرنسية، بينما اتهمت الشركات بالمساعدة في “قمع المجتمع والتضييق على المعارضين”.