لم تُحرز الدولة الحديثة 1805 – 2021 م تقدما ملموسا على طريق الديمقراطية، باستثناء الديمقراطية الليبرالية المتعثرة 1919- 1952م، وكل ما أحرزته الدولة الحديثة فيما يختص بالديمقراطية هو الاحتفاظ بجوهر الاستبداد الموروث عما قبلها وأعني به استبعاد الشعب تماما من معادلة الحكم التي كانت مناصفة بين العثمانيين في استانبول عبر ممثلها في القلعة وبين المماليك الذين استأثروا بالسلطة الواقعية على الأرض طوال القرن الثامن عشر، فقد كانت السيادة للعثمانيين، وكان الحكم للماليك، وكان الشعب معصورا ومحصورا بين استغلال أصحاب السيادة واستغلال أصحاب الحكم، وظلت هذه العادلة قائمة حتى جاء الغزو الفرنسي 1798م، وإلى أن ظهر في الصورة محمد علي باشا الكبير 1805.
احتفظت الدولة الحديثة بالاستبداد الموروث وأعني به استبعاد الشعب من معادلات السيادة والحكم والثروة والتعامل معه باعتباره كينونة سلبية مكتوب عليها الوفاء بما يطلبه الحكام من جبايات مثلما هو متوقع منها لزوم الهدوء والصمت والسكينة الأبدية والصبر على ما ينزل بها من مظالم وكوارث وملمات، لقد كانت الدولة الحديثة -منذ محمد علي والذين بعده من سلالته ومنذ جمال عبدالناصر والذين جاءوا من بعده- تطلب من الشعب أمرين اثنين فقط ولا ثالث لهما: أداء ما عليه من فروض مالية وتجنيد عسكري ثم التزام جانب الوداعة والهدوء والسكينة. فعندما جاءت الغزوة الإنجليزية المعروفة بحملة فريزر 1807م هبَ الشعب المصري للمقاومة، لكن محمد علي لم يعجبه ذلك، وقال ليس على الرعية جهاد لكن عليها تقديم الأموال المطلوبة لنفقات الجند والسلاح، وكذلك عندما قامت ثورة 23 يوليو 1952م أذاع الضباط الأحرار -بعد عزلهم للملك في 26 يوليو 1952م- أن كل المطلوب من الشعب هو أن يلزم الهدوء والسكينة حتى يتمكن أبناؤه في القوات المسلحة من السير بقضيته في أمان.
الدولة الحديثة كانت ومازالت مخلصة وأمينة وحفيظة على البنية التحتية للديكتاتورية الموروثة عبر القرون، والتي تقوم -في جوهرها- على استبعاد الشعب من المعادلات الثلاث: السيادة والحكم والثروة. ثم زادت عليها ما كانت تعجز عنه الديكتاتوريات القديمة، زادت من أدوات وإمكانات التحكم والسيطرة وتطويع الشعب في مجموعه، ثم في إقصاء أو تهميش أو ترويض أو احتواء أو إدماج أو -عند اللزوم- استئصال أي معارضة حقيقية وجادة وذات خطر.
لقد استطاعت الدولة الحديثة إلى يومنا هذا أن تستخدم كل ما هو حديث للاحتفاظ باستبدادها القديم الجديد، استخدمت كل أدوات الحداثة لتعميق البنية التحتية للديكتاتورية المزمنة، استخدمت التعليم والتجنيد والثقافة والصحافة والبرلمانات والانتخابات والقوانين والدساتير وكل ما هو من سمات الدولة الحديثة تم استجلابه واستخدامه، لكن مع توظيفه في إثراء البنية التحتية لديكتاتورية الدولة.
فلا تقل السلطات المطلقة التي يتمتع بها حاكم اليوم عند خواتيم الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، عن السلطات المطلقة التي كان يستمتع بها حاكم الأمس في البدايات الأولى للدولة الحديثة في مطالع القرن التاسع عشر، لقد استمتع حكام الدولة الحديثة سواء من سلالة محمد علي أو من ضباط الجيش بسلطات ضخمة لم يعرفها حكام الديكتاتوريات القديمة حتى نهاية القرن الثامن عشر. فالديكتاتورية الحديثة نجحت في:
1 – وحدانية رأس السلطة، وتربعه على ذروتها، دون منافس ولا منازع ولا مزاحم، فقد نجح محمد علي في سنوات حكمه 1805- 1848م أن يصل إلى السلطة، ثم يتخلص من كل منافس على السلطة، ثم يحتفظ بالسلطة حتى فقد عقله وأقعده الجنون وأعجزه عن ممارسة مهام السلطة، ثم وهذا هو الأخطر أنه أدرك بالغريزة السياسية أن البقاء في حكم مصر لا يكفي له أن يهيمن على الداخل ويتخلص من المنافسين ويسكت الشعب، لكنه أدرك أن حكم مصر يلزمه اللعب الماهر على التوازنات والتناقضات الدولية طالما أن مصر بلد مهم ومحل للصراعات الدولية لأنها محل للمصالح الدولية المتناقضة.
2 – هذه القاعدة التي أرساها محمد علي عند التأسيس هي أهم ما يميز الدولة الحديثة في مصر، فلم تعرف -في وقت واحد- أكثر من باشا ولا أكثر من خديو ولا أكثر من سلطان ولا أكثر من ملك ولا أكثر من رئيس جمهورية سواء كانت جمهورية جديدة أو كانت جمهورية قديمة. لقد وضعت الدولة الحديثة نهاية حاسمة للميراث المملوكي الذي هيمن على القرن الثامن عشر حيث كان يتصارع على رأس السلطة أكثر من مملوك في وقت واحد.
3 – ثم نجحت الدولة الحديثة -بصورة حاسمة- في تقنين وشرعنة آليات انتقال السلطة من حاكم سابق إلى حاكم لاحق، وكانت هذه من أهم إنجازات اتفاقيات لندن 1840 – 1841 م حيث قررت تداول السلطة في سلالة محمد علي دون سواه بموجب توافق دولي ملزم، وهذا ضَمِن تحولا سلميا هائلا وعظيما كانت مصر تفتقده طوال القرن الثامن عشر، وهذا التحول -هو أهم ملامح الدولة الحديثة- ضَمِن انتقال السلطة وفق القانون وليس وفق القوة ولا بالاحتكام إلى السلاح كما كان هو السائد من قبل، حتى حين سعى الخديو إسماعيل لتورث أكبر أنجاله فإن ذلك تم بقانون، وحين تم عزل الخديو إسماعيل 1879 م فإن ذلك تم بقانون ولو شكلي، وعندما عزل الإنجليز الخديو عباس حلمي الثاني 1914م فإنهم لم يخرجوا عن التوافق الدولي وأحلوا محله عمه السلطان حسين كامل -وهو من أنجال الخديو إسماعيل- ولما مات السلطان حسين كامل 1917م جاءوا بشقيقه السلطان ثم الملك فؤاد، وعندما عزلت ثورة 23 يوليو الملك فاروق عينت نجله الطفل أحمد فؤاد.
4 – ثم حافظت ثورة 23 يوليو على هذه الأسس التي أقرتها الدولة الحديثة، لكن انتقال السلطة سلميا لم يعد وفق توافق دولي على أساس اتفاقية لندن 1840 – 1841م، لكن صار -في العهد الجمهوري- وفق استفتاءات شعبية على شخص واحد فقط دون منافس، أو وفق انتخابات شكلية لا تختلف عن الاستفتاءات من حيث الجوهر، لكن كلتيهما -الاستفتاءات الشكلية والانتخابات الشكلية- الوسيلة المعتمدة لنقل السلطة وإضفاء الشرعية على الحاكم الجديد بما يوصد الباب ويغلقه أمام أي تشكيك أو نزاع أو صراع على شرعية السلطة .
5 – دائما، طوال تاريخ الدولة الحديثة – كان يوجد من داخل أسرة محمد علي من يرى أنه الأحق والأجدر برأس السلطة، وكان يطمح إليها ويطمع فيها، وكذلك كان في العهد الجمهوري من يرى في نفسه الكفاءة والأهلية والجدارة أكثر من الحاكم، وربما سعى هؤلاء الطامحون في السر أو في العلن، لكن ذلك لم يكسر القاعدة التي أرستها الدولة الحديثة وهي الاعتراف بمن في السلطة بصفته الواحدة التي لا تقبل الازدواجية ولا القسمة ولا التعدد، وذلك -في حد ذاته- إنجاز بغض النظر عما يرافقه من انحراف في استخدام السلطة أو إساءة توظيفها.
6 – قبل ظهور محمد علي باشا الكبير 1805م، ظهر غيره من المماليك المغامرين الأذكياء الذين فهموا ما آلت إليه الدولة العثمانية من ضعف، ومن ثم راودتهم أحلام الانفراد بمصر والاستقلال بها، أدرك ذلك وسعى إليه علي بك الكبير 1728 – 1773م، وهو مملوك جورجي أو قوقازي أو روسي، وسبق محمد علي باشا الكبير في الاستقلال بحكم مصر والشام، ومثله حاول محمد بك أبو الدهب، ثم الثنائي مراد بك وإبراهيم بك، وكانت روسيا -في إطار حربها مع العثمانيين- تشجع هؤلاء المغامرين من المماليك على الاستقلال، كذلك فإن المغامرين من المماليك -في النصف الثاني من القرن الثامن عشر- أولوا اهتمامهم للعسكرية الحديثة سواء باستقدام ضباط يونانيين للتدريب أو استيراد مدافع البارود ومقتنيات الترسانة الأوروبية من السلاح، لكن الذى انفرد به محمد علي هو وعيه بأن:
أ – السلطة لا تكون إلا واحدة لا تقبل القسمة ولا التجزئة ولا تعدد المراكز ولا تناقض المصادر، ومن ثم أدرك أن التخلص من المماليك ضرورة موضوعية سواء بالاسترضاء والاحتواء أو الاستئصال، وقد استرضى من استرضى واستأصل من استأصل، وبات هذا تقليدا مستقرا ومستمرا ومعمولا به -بكفاءة ومهارة- في كافة عهود الدولة الحديثة منذ وضع هو -منفردا- جذورها وأرسى تقاليدها، فكل حاكم جديد -خديو كان أو رئيس- يعيد إنتاج هذه السياسة، سواء بالتخلص من رجال الحاكم السابق أو التخلص من الطامحين الجدد وربما التخلص من طبقة بكاملها مثلما فعلت ثورة 23 يوليو 1952 م بطبقة كبار الملاك الزراعيين والصناعيين والماليين التي سادت من منتصف القرن التاسع عشر حتى منتصف القرن العشرين.
ب – ثم أدرك أنه من المستحيل أن تكون مصر خارج دوائر الصراع الدولي على النفوذ والمصالح، بما يعني أنه يلزم الحاكم أن يكون له حلفاء دوليون يكفلونه ويحمونه ويرعونه، وعليه أن يتوقع أن يكون له أعداء دوليون يسعون ضده ويناصرون خصومه، ويظل محمد علي باشا الكبير -هو إلى يومنا هذا- أذكى من لعب على التناقضات الدولية بكفاءة وجدارة تفوق التصور، استفاد من فرنسا دون أن يكون تابعا، واتخذ موقف الحذر من بريطانيا دون التورط في عداوة صريحة، وبنى أمجاده من ضعف الدولة العثمانية واقتطع سلطانه من لحمها وشحمها دون أن يقطع معها شعرة معاوية، وقد تفاوتت حظوظ اللاحقين عليه سواء من سلالته أو من ضباط الجيش في ممارسة هذه اللعبة الدولية، وتقريبا لم يتقنها أحد مثلما أتقنها هو، ومازالت تمثل تحديا أمام حكام مصر حتى اليوم والغد.
7 – قبل الدولة الحديثة، كانت مصر مجرد ديار مصرية في إطار عثماني إمبراطوري واسع، يتكون سكانها من مماليك بيض وافدين من منابع شتى، ورقيق سود قادمين كذلك من منابع مختلفة ولأعراض مختلفة، وفلاحين لا يخرجون من قراهم، وعربان لا يكفون عن الإغارة على الفلاحين، ومغاربة من شمال أفريقيا، وجاليات روسية وفرنسية ويونانية وإيطالية إلى آخره، كانت فكرة السلطة المركزية الواحدة من الهشاشة إلى حدود العدم، بصورة يمكن شرحها بإيجاز شديد حين تعلم أن مماليك الوجه البحري ومماليك الوجه القبلي اشتبكوا ضد بعضهم في ثلاث حروب كبرى على تخوم الوجهين القبلي والبحري بين عامي 1786 – 1787م.
8 – الدولة الحديثة كانت ومازالت خليطا من التحضر والإجرام معا، خليطا من الارتقاء إلى ما هو أفضل والتدني إلى القسوة والغلظة إلى حدود الوحشية، ذات مرة عرض إبراهيم باشا -النجل الأكبر لمحمد علي- تعليم الجنود وأبناء الجنود ورعايتهم، فرفض محمد علي الاقتراح، فقال له إبراهيم: إن نابليون كان يفعل ذلك، فقال له مؤسس الدولة الحديثة: أوروبا كلها كانت تفعل ذلك، ثم ندمت على ذلك، وعرفت أن تعليم الرعية خطأ، يكفي تعليم الجنود كيف يكون القتال. هذا إبراهيم نفسه -والذي أعجله المرض حتى قضي عليه فلم يحكم غير ستة أشهر- لم يكن طوال تاريخه منذ جاء مصر 1807م يتورع عن ارتكاب المذابح دون رادع، سواء مذابح للخصوم من السياسيين مثلما أحرق ستمائة من المماليك وهم عرايا نزع عنهم ملابسهم وجردهم مما يستر عوراتهم، أو مذابح في بيته حين قطع رؤوس عدة جواري ومربيات اتهمهن بالإهمال مما تسبب في موت أحد أنجاله الرضع، أو في ميادين القتال التي سجل فيها انتصارات عظيمة وارتكب فيها كل الموبقات.
9 – منذ محمد علي باشا الكبير إلى اليوم، فإن فضل الدولة الحديثة يعود إلى فكرة المؤسسات كمحتوى للدولة ومضمون له وليس فقط مجرد أدوات، فكرة الجيش الواحد المنظم وليست الجيوش ولا الفرق، فكرة التجنيد الوطني وليس استجلاب المماليك والمرتزقة، فكرة التعليم المنظم، فكرة الضرائب المنظمة، فكرة القانون الموحد، فكرة الشرطة الموحدة، وصولا إلى استعارة الدساتير الأوروبية، كل ذلك هو ما يجعل قارئ التاريخ حين ينظر إلى القرون الثلاثة الأخيرة: الثامن عشر حيث ضعف الدولة العثمانية وبروز فكرة الاستقلال وبدايات النظر إلى ما تحرزه أوروبا من تقدم وصولا إلى صدمة اللقاء وجها لوجه مع جيوش نابليون، ثم القرن التاسع عشر مع نجاح محمد علي فيما أخفق فيه من سبقه من المغامرين المماليك، ثم الثورة العربية وصولا إلى صدمة الاحتلال الإنجليزي في الثلث الأخير من القرن، ثم القرن العشرين ونصفه الأول يدور حول ثورة مدنية 1919م ونصفه الثاني يدور حول ثورة ذات طابع عسكري 1952م، هذه القرون الثلاثة هي من تشكل الربع الأول من القرن الحادي والعشرين والذي مداره على ثورة 25 يناير 2011م وقد بدأت شعبية ثم وقعت في يد القوى الدينية ثم انتهت تحت القبضة العسكرية تولت حمايتها في أول عهدها ثم أجهزت عليها بعد عامين في 2013 . فباستثناء القرن الثامن عشر فإن الدولة الحديثة ومؤسساتها تزاول عملها في إطار مؤسسات منتظمة لها صفة الاستمرارية والدوام رغم تغير الحكام ورغم تبدل توجهات الحكم وولاءاته ربما من النقيض إلى النقيض.
10 – من المنطقي أن تكون فكرة الديمقراطية غير واردة عند محمد علي باشا في المراحل الأولى من تأسيس الدولة الحديثة، فمقومات الديمقراطية وشروط نضجها تحتاج وقتا حتى تتبلور، فليس من العقل مطالبة حكام النصف الأول من القرن التاسع عشر أن يكونوا ديمقراطيين، خاصة وأنهم يعتبرون أنفسهم ملاكا للبلد استحقوا ملكيتها بالسيف وأخذوا على ذلك موافقة العالم كله آنذاك، وقد استمر هذا الاعتقاد يلازم الحكام من سلالة محمد علي باشا حتى منتصف القرن العشرين، لكن المصريين كافحوا من أجل معاني ومضامين الديمقراطية حتى لو لم يكونوا على وعي باسمها من قبل محمد علي باشا ومن قبل الدولة الحديثة، بذور هذا الكفاح -العفوي- وجذوره تعود إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، قبل غزوة نابليون وقبل ظهور محمد علي، هذا الكفاح الديمقراطي العفو لعب دورا في تجنيب الشعب ويلات الصراع بين المماليك، وعبر عن نفسه في مقاومة الفرنسيين، ثم تجلى بصورة أكبر في تعيين محمد على ثم تثبيته كلما حاول السلطان العثماني إزاحته ونقله إلى ولاية أخرى.
لكن غير المنطقي، هو أن الدولة كانت ومازالت، تعتقد -عن يقين- أن الديمقراطية لم يأت أوانها بعد.
فلماذا؟