يقول نيتشه إن الناس لا يرغبون في سماع الحقيقة، لأنهم لا يريدون أن تتحطم أوهامهم. وللسجون حقيقة أبشعها أن تفصل قضبان بين أم وصغيرها. حينها فقط تختلط المشاعر وتبتعد شيئًا فشيئًا عن إصدار الأحكام إلى مرحلة التأمل في مصير الحياة التي تولد من داخل أخرى خاوية ميتة، فقط عن طريق الحب.
في إطار دوكودرامي، يعتمد على تحويل الوقائع لدراما سينمائية، أراد المخرج الأوكراني بيتر كيركس في فيلمه «107 أمهات 107 MOTHERS» أن يطرق قلب المشاهد بدفقات من المشاعر، تداخلت جميعها في صور متقاطعة مترابطة، لسردية تستند إلى أحداث واقعية، عن 107 من النساء نزيلات أحد سجون أوكرانيا.
«107 أمهات».. صورة الحقيقة خارج الأرحام
يبدأ الفيلم من منطقة حيادية تمامًا بافتتاحية لمشهد سيدات يجلسن في انتظار قياس الطول والوزن ببطون منتفخة يملؤها أطفال، ينتظرون كشف الحجب عنهم، على وشك مغادرة رحمة الأرحام إلى عالم مغاير. بينما في لمحة بصر شديدة الصدامية تنتقل الصورة فجأة لمشهد ولادة أحد هؤلاء الأطفال، والصراخ سيد الحوار.
التأسيس لتلك الصدمة العنيفة هو جزء من هوية الحديث عن الفيلم، الذي لا يريد صانعه أن يخرج من قلب صلابة واقعيته وتسجيليته التي اعتادها في أعمال سابقة.
السجينة والسجّانة.. كلتاهما رهينتا قضبان
داخل مشهد واحد مؤسس بين السجينة الأم والفتاة السجّانة يبدأ المشاهد في إدراك كل ما يحتاج إلى فهمه عن السياق والقصة والمرأة التي قتلت زوجها. بينما تقضي فترة عقوبة سبعة سنوات.
تلد هذه المرأة طفلها في العام الأول من محبسها، حيث تنساب الأحاديث بينها وبين سجّانتها تلك الفتاة لم تتزوج بعد، وقد أورثها عملها بالسجن عادة التصنت على قصص وجوابات السجينات.
الصمت الذي يتحدث في «107 أمهات»
أراد صانع الفيلم بفترات الصمت الطويلة في مشاهده أن يظهر كيف تحيا هذه السجينة بالتفكير في المصير المنتظر لطفلها. بينما تعيش السجّانة حياة لا توجد فيها متعة سوى التصنت على السجينات. هوس اكتسبته بروتين عملها. وفي الوسط بين السجينة والسجانّة طفل يضع أقدامه المقدسة على أعتاب مجتمع سحوله يومًا إلى سلطوي مفارق للطبيعة التي ولد عليها.
ما الذي يمكن أن تعيش لأجله إنسانة تعرف مسبقًا أنها ستبقى أسيرة الغرفة التي تجلس فيها لسنوات قادمة؟ وكيف يمكن لسجّانة تسمع كل يوم مآسي قصص زواج سيدات سجنت أصحابها وقتلتهم أن تؤمن بالحب؟ من البطل الحقيقي لهذه القصة الدرامية؟
مشروع الرجل الذي يحرك كل شيء
تنساب فرشاة اللوحة المحكية دراميًا بين المشاهد المختلفة. فتستعرض قصص باقي السجينات. بينما يلتقط «تركيز focus» العدسة هذه المساحة التي يشغلها الطفل الوليد. هذا الصغير سيصبح الرجل الوحيد في أحداث لاحقة من هذا العمل الذي تحكمه النساء بشكلٍ كامل.
هنا تبرز مقاربة أخرى بين هذا الطفل مشروع الرجل الذي لا يتكلم كثيرًا بينما يحرّك كل شيء. والمرأة رهينة دائرة محاولات التصالح مع العالم المؤلم.
فقدان الحرية والأمومة
تُغلق الدائرة مع كل تحرك للمشاهد الفيلمية الممنتجة بخفّة وسلاسة، إلى أن تصل لنقطة صراع مفصلية. «ليزيا» التي ارتكبت جريمة عاطفية أدت إلى الحكم عليها بالسجن لمدة سبع سنوات، على وشك أن تفقد صغيرها ذي الثلاث سنوات. إذ عليه أن يترك السجن الذي لا ذنب له فيه إلى الميتم أو إلى التبني من قبل أقارب والدته، إن قبلت الأم حل خلافاتها السابقة معهم.
ما هو السجن في «107 أمهات»؟
الكاتب لورانس داريل يكتب في «جوستين» واصفًا مرارة السجن، فيقول: «عندما كنت طفلاً لم يكن مصير أي من شخصيات التاريخ المقدس يبدو لي أكثر بؤسًا من مصير نوح. ذلك بسبب الطوفان، الذي أبقاه محبوسًا في الفلك طيلة أربعين يومًا.. لم يكن قط بوسع نوح أن يرى العالم أفضل مما أتيح له أن يراه من الفلك، رغم أن هذا الأخير كان مغلقًا وأن الليل كان منتشرًا على الأرض».
هناك شيء مستقر في قلب كل ذلك يخص العالم الضيق الذي نرى أبطال «107 أمهات» من خلاله: السجن رغم كل شيء يبقى المكان الهادئ الأكثر وضوحًا لاتخاذ قرار مصيري يمكن البناء عليه بعد ذلك. قرار يحمل خطورة وصلابة المكان الذي يخرج منه.
لم يكن للنبي نوح أن يرى العالم أفضل من مكان حبسته وظلامه. وكذلك لم يكن في اليد حيلة من تغيير الماضي المؤلم لدى السجينة «ليزيا». وقد أدركت جيدًا كيف يمكن للحب رغم كل شيء أن يغير نظرتها للعالم. وكيف يمكن لكل القصص القاسية التي استمعت لها السجّانة على مدار سنوات طويلة أن تكون المؤسس لحياتها الجديدة، التي اختارت تجربتها.
شهادات حية تعترف فيها السجينات بارتكابهن ما يجعل فترات عقوبتهن مستحقة. لكن الفيلم يحكيها في إطار معاناتهن كسيدات حوامل داخل هذا السجن. هل يحملنا الفيلم على التعاطف مع المذنبات؟
الفيلم يتجاوز التعامل الأخلاقي مع القصة إلى مساحة تأملها. وربما للسبب ذاته خرجت القصة درامية. بعيدًا عن التعاطف أو عدم التعاطف يجد مشاهد «107 أمهات» نفسه أمام تأمل واجب في مصير الحياة التي تولد من داخل حياة خاوية ميتة، فقط عن طريق الحب. وأنه رغم كل شيء، يمكن الاعتماد على جملة الإمام الغزالي: «ليس في الإمكان أبدع مما كان».
الفيلم الذي رشحته أوكرانيا لتمثيلها في الأوسكار العالمي عُرض ضمن جدول الدورة الثالثة والأربعين من مهرجان القاهرة السينمائي، الذي انطلق قبل أيام، وهو المهرجان الوحيد في المنطقة العربية والأفريقية المسجل ضمن الفئة A في الاتحاد الدولي للمنتجين في باريس (FIAPF).