ما إن تداول الإعلام الرسمي خبر رحيل الفنان القدير أحمد خليل، حتى أنتجت وسائط الإعلام الاجتماعي نسختها الخاصة من التفاعل مع الخبر، وهي نسخة درجت على الظهور بأشكال مختلفة في السنوات الأخيرة، متنوعة التفاصيل مشتركة في المضمون، ملاحقة لأنباء رحيل الفنانين دون غيرهم، وهي في حالة رحيل “خليل” كانت تداول القصة التالية على نطاق واسع:
“من 7 سنين نزلت بوست عن حالة طالب ثانوية عامة متفوق يتيم وحلمه يدخل طب. كان الهدف من البوست نوجد كفالة طالب علم له. صديقة ليا (ربنا يرحمها) شيرت البوست، بعدها بساعة لقيت مكالمة من حد قالي أنا اسمى أحمد عبد الله والولد ده مبقاش يتيم ربنا بعتله أب، ممكن توصلينى بيه؟ (..) اديته رقم الطالب. بعدها بيومين الولد كلمنى قالي أنا قابلت أ/ أحمد خليل، وقالي كل اللى عاوزه من عنيا وأنا أبوك. أحمد خليل مين يا بنى؟ اسمه أحمد عبد الله. قالي لا ده أحمد خليل الممثل. كلمت أ.أحمد وشكرته وقولتله أنا معرفتش حضرتك. قالي أنا قاصد مقولكيش مين أنا. كلنا عباد الله. أنا عاوز العمل ده يبقى خبيئة يمكن ده يكون طريقي للجنة”.
مثل حالات مثيلة، ظهرت هذه القصة من لا مكان، وسرعان ما تم تداولها على مئات الصفحات العامة، وهي كهذا النوع من القصص، يمكن وصفها بالقصة المغلقة، لأنها تحكي عادة عن طرفين، الأول هو الشخص الراحل (وفي حالة خليل ثمة شخصان راحلان: الفنان والصديقة)ّ، والطرف الثاني هو الشخص المعرّف بالأحرف الأولى، أو بلا اسم على الإطلاق، إنه المستفيد من “الصدقة”، الذي لا يمكن معرفته أو الوصول إليه، بالطبع في حالة وجوده على الإطلاق.
سرعة توالد وانتشار مثل تلك المنشورات مؤخرًا في إثر أخبار رحيل الفنانين، والتي تنسب إليهم قصصًا عن عمل الخير يختلط فيها الواقع بالخيال، وقد حمل انتشارها وانتقالها حتى إلى المواقع الصحفية قدرًا من المبالغة و”الحماس”
لا يحتاج المرء إلى كثير من الانتباه كي يلاحظ سرعة توالد وانتشار مثل تلك المنشورات مؤخرًا في إثر أخبار رحيل الفنانين، والتي تنسب إليهم قصصًا عن عمل الخير يختلط فيها الواقع بالخيال، وقد حمل انتشارها وانتقالها حتى إلى المواقع الصحفية قدرًا من المبالغة و”الحماس”، وصل إلى وصف الفنانة دلال عبد العزيز في أحد المواقع المعروفة بعد رحيلها بلقب “الحانوتي” من باب المديح! في إشارة إلى حرصها على أداء “الواجب”، وعدم تفويت الجنازات ومجالس عزاء المعارف والأصدقاء، وينسب الموقع نفسه إلى الفنانة أنها كانت “تخفي” في دولابها العديد من الأكفنة الشرعية لمنحها إلى المحتاجين.
وقد منحت كارثة وباء كورونا المزيد من الزخم لقصص “الخير السري” بسبب اختطافها أرواح عدد غير قليل من الفنانين، فها هي رجاء الجداوي، التي رحلت بعد معاناة شهرين مع الفيروس القاتل، تظهر على السوشيال ميديا والمواقع الصحفية بصفتها “فاعلة الخير”، وقارئة القرآن، والتي لم تكتف فقط بتوزيع الطعام على المحتاجين بعد قرار إلغاء موائد الرحمن بسبب كورونا، بل إنها كذلك ساعدت في منح دور في أحد المسلسلات الكوميدية لفنان كان يعاني صحيًا، كما حكى بعد وفاتها الكوميدي أكرم حسني، مؤكدًا – كما في كافة هذه القصص- أنها “كانت بتعمل الحاجات دي من غير ما تعرف حد”.
يمكن العثور على نسخ أكثر من هذه القصص كلما عدت زمنيًا إلى الوراء، فها هو الفنان الراحل خالد صالح يبحث عن رجل محتاج في حواري منطقة شعبية كي يهديه سيارة ربع نقل تفتح له بابًا للرزق، وها هو جميل راتب لا يكتفي بالتبرع بكثير من ممتلكاته للعمل الخيري، بل تقول الحكاية إنه ابتنى قبل وفاته مسجدًا في محافظة المنيا، أما الشاعر “الفاجومي” أحمد فؤاد نجم، فتتعدد الأساطير حول ما فعله بالقيمة المالية لجائزة الأمير كلاوس التي نالها في أيامه الأخيرة، فتروي حكاية أنه مشى يوزِّع المال عائدًا إلى بيته حتى نفدت الجائزة! وتروي حكاية أخرى أنه وضع المبلغ كله في حساب مستشفى سرطان الأطفال، تتردد تلك الحكايات وتعيد إنتاج نفسها على الرغم من محاولات التصحيح المستمرة من أسرة الشاعر الكبير التي وضعت الأمر في نصابه المنطقي.
قراءة معدل التفاعلات مع هذه القصص على صفحات التواصل الاجتماعي، يمكن أن تلاحظ أنها نوع خاص من استتابة الفنانين، إذا أخذنا بسوء النية، ونوع من البحث عن إنقاذ لأرواح هؤلاء الفنانين إذا أخذنا بالنية الحسنة، أو لنقل الساذجة
إنَّ نظرة بها بعض التفحص في فحوى هذه القصص، وارتباطها بالفنانين من دون بقية المشاهير، وقراءة معدل التفاعلات معها على صفحات التواصل الاجتماعي، يمكن لها أن تلاحظ أنها نوع خاص من استتابة الفنانين، إذا أخذنا بسوء النية، ونوع من البحث عن إنقاذ لأرواح هؤلاء الفنانين إذا أخذنا بالنية الحسنة، أو لنقل الساذجة، إنها نسخة التواصل الاجتماعي الحديثة من قصص الماضي عن “توبة” الفنان قبل وفاته، أو رغبته في حرق أفلامه، أو محاولاته التعويض عن “ارتكاب” الفن، تنتشر تلك القصص مصحوبة بخطاب يبدو متسامحًا، فحواه أن من بين هؤلاء الفنانين – الذين ندينهم أخلاقيا- من قد يكونوا أفضل منّا، لا من جهة إسهامهم الفني أو الثقافي، ولا من ناحية إخلاصهم لعملهم وحبهم له، بل من خلال التبرع للمحتاجين وبناء المساجد وكفالة الأيتام وإجراء الصدقات، هكذا فقط يمكن أن “نسامحهم” على خوض حياتهم في غمار الفن، وأن ندعو لهم بالرحمة بضمير مستريح.