اتّهم القضاء الفرنسي شركة «نيكسا تكنولوجي» بالتواطؤ في أعمال تعذيب، بعد بيعها معدات مراقبة لمصر، كانت ستمكنها من تعقب معارضين، في شهر أكتوبر، كما كشف مصدر مطّلع على القضية. وأصدرت قاضية تحقيق مكلفة بقضية شركة «نيكسا تكنولوجي» قرار اتهام في 12 أكتوبر، بعد حوالي أربعة أشهر من اتهام أربعة مديرين تنفيذيين ومسؤولين في الشركة. وفي اتصال مع وكالة «فرانس برس»، رفض محامي «نيكسا تكنولوجي» فرنسوا زيمراي الإدلاء بأي تعليق.
في مطلع الأسبوع الحالي، كان هذا الخبر يملء -ويشغل- الصحافة في العالم. نشرته معظم المواقع والصحف الكبرى نقلاً عن وكالة «فرانس برس» الشهيرة. وكما هو واضح فإن الخبر القادم من باريس يخصنا في مصر بنفس الدرجة التي يخص فيها فرنسا والشركة الفرنسية المتهمة أيضًا «نيكسا تكنولوچي».
وبعيدًا عن التفاصيل: كان هذا الخبر مؤشرًا كاشفًا لأن الصحافة والسياسة في مصر قد دخلا غرفة الإنعاش إن لم يكونا قد وصلا لمرحلة الموت السريري بالفعل، لماذا؟ اتفضل معايا!
فرغم أهمية الخبر وخطورة ما به من تفاصيل ترتبط باتهامات للحكومة المصرية بشراء «معدات» لمراقبة المعارضين، لم تنشره وسيلة إعلام مصرية واحدة. ولم تتفاعل معه أي مؤسسة إعلامية لا بالسلب ولا بالإيجاب. وهو أمر كاشف لغياب وتغييب متعمد لدور الصحافة. بل حتى إذا افترضنا أن الصحافة في مصر الآن تدافع عن السلطة دائمًا وأبدًا؛ فقد كان عليها أن تشتبك مع هذه التفاصيل الخطيرة برد حكومي رسمي ينفي أو يقلل من أهمية الاتهامات المنشورة. ولكن ما حدث أن الصحافة تعمدت تجاهل المنشور بشكل كامل في لقطة، كاشفة لما حدث للصحافة خلال السنوات الأخيرة، بعد أن اختارت أن تبتعد عن كل ما هو جاد وحقيقي، واللعب في مساحة الأسلم، والهروب من كل اشتباك جاد نعرف ويعرف الجميع أنه أحد الأدوار القانونية والدستورية للصحافة في أي مجتمع ينشد التقدم وسيادة القانون.
الحقيقة أني لم أفهم أبدًا المنطق الذي يفكر به من قرروا الابتعاد عن الخبر الخطير، وغيره الكثير، وعدم الاشتباك معه. فهل يعتقد من يفكر بهذه الطريقة أن عدم الاشتباك مع خبر معين أو قضية محددة يأتي «إيثارًا للسلامة»، وحتى لا يلفت أنظار الناس، فيتابعون ويدركون الحقيقة؟! إن كان هذا هو المبرر فهو عذر أقبح من ذنب؛ فخبر الشركة الفرنسية بكل تفاصيله قد وصل للجميع، بعد أن نشرته معظم المواقع والصحف الكبرى في العالم. ناهيك بالطبع عن أن منطق التعتيم قد انتهى وسقط من العالم بعد الانفتاح الهائل في وسائل الاتصال والتكنولوجيا، فلم يعد هناك فرصة لأي حكومة في العالم أن تخفي الأخبار عن مواطنيها، حتى لو قررت صحافتها تجاهل الأخبار أو عدم التعليق عليها.
وربما يكون هذا التفكير «القديم والعقيم» يحمل في مضمونه جزءًا من الأزمة التي تعيشها الصحافة الآن. فالقاريء سيجد الخبر بتفاصيله إدا أراد، إذا لم يكن عندك فعند غيرك بكل تأكيد، والظن بأن التعتيم يفيد الحكومات هو الظن الذي يحمل الإثم بعينه وليس نصف الإثم فقط!
في السياسة أيضًا، يبدو خبر الشركة الفرنسية «كاشفًا» لأوضاعنا في مصر في هذه اللحظة. فرغم أن صحف العالم قد اهتمت بالتفاصيل، واعتبرت أن من واجبها تقديمها للناس، لم نر صوتًا مصريًا واحدًا يسأل أو يسائل أو يتحرى الحقيقة فيما نُشر. مصر بكل أحزابها وجماعاتها السياسية وبرلمانها وحكومتها لم تنتبه ولم تدرك أن هناك ما يدعو لأن نلتفت أو نواجه.
بالتأكيد، هناك حصار قاس على الحياة السياسية في مصر، وبالطبع هناك قيود واضحة مفروضة على المجال العام لا تسمح بالحوار ولا بالجدل السياسي. لكن مع ذلك ليس هناك ما يمنع أن يصدر حزب سياسي بيانًا يسأل فيه عن تفاصيل منشورة في صحافة العالم تخص مصر وحكومتها. وليس هناك ما يمنع رئيس حزب سياسي أو مسئول حزبي من أن يكتب تدوينة على مواقع التواصل، يسأل فيها عن طبيعة خبر الشركة الفرنسية، ومدى صحة المنشور ورد الحكومة على ما تتداوله الصحافة العالمية.
هذا عن الأحزاب السياسية، أما عن الحكومة، فلم تكن أفضل حالاً من هذه الأحزاب؛ فقد التزمت الصمت التام، ولم تنف أو تؤكد أو تناقش الخبر أصلاً. ولم تصدر كلمة واحدة عن مسئول، صغيرًا كان أو كبيرًا، يشرح لنا الموقف مما نشر، وكأن المنشور يتحدث عن سلطنة بروناي وليس عن مصر.
أما البرلمان، فلم يخيب ظننا أبدًا، ولم يشعر نائب واحد من مئات النواب أن هناك ما يستدعي أن يتقدم بسؤال أو طلب إحاطة حول الموضوع، حتى لو بمنطق الدفاع عن سمعة البلد التي يتحدثون عنها ليلاً ونهارًا، ويعتبرون أن فيلمًا أو أغنية أو تدوينة على «فيسبوك» يمكن أن تسيء لهذه السمعة. ناهيك طبعًا عن أن هذا النائب، في حال تقدمه بطلب الإحاطة، يمارس دوره الدستوري في الرقابة على الحكومة وعلى أموال الشعب المصري، الذي يُفترض أنه يمثله ويدافع عنه لنعرف فيما تُنفق تلك الأموال وبأي طريقة!
في الصحافة كما في السياسة، الكل يؤثر السلامة ويبتعد عن «وجع الدماغ»، ويغمض العينين عما يظن أنه «شائك». الكل يفعل ذلك حتى لو كان على حساب البلد وتقدمها، أو على حساب الشعب المصري وحقه في أن يعرف الحقيقة، تلك الحقيقة التي تغيب وسط دخان أسود من الصمت أو الخوف أو «تكبير الدماغ»!