يمكن تصور رابط قوي بين الصفحات الأربع الأول من رواية محمد خير “إفلات الاصابع”، وبين ما كتبه سيجموند فرويد، في “الطوطم والتابو” (1913)، والذي يتتبع فيه تطور الموقف الإنساني من الموت، من الموت الفردي والموت عامة، من الموت كأقصى تعبير عن العجز الإنساني. ففي الصفحات الأربع هناك علاقة مشحونة بطاقة هائلة بين أطراف مثلث: الأب (المتوفي قبل بضعة أشهر) والأم والابن، وهناك فاعلية متوترة للبط، وهناك ملامح مضمرة لعصاب مرتبط بالطقوس والشعائر الدينية.
أحد منطلقات فرويد، في كتابه تستند إلى فرضية دارون: “الناس كانوا في الأصل يعيشون قبائل، كل منها تحت سيطرة رجل واحد قوى، عنيف، غيور”.
ويتسأل، فرويد: ما هو الطوطم؟، ويجيب: في العادة هو حيوان يؤكل لحمه، مسالم، أو خطر مخيف، وفي النادر شجرة أو قوة طبيعية (مطر، ماء)، ذو علاقة خصوصية مع كامل العشيرة. فالطوطم هو اولًا الأب الأول للعشيرة، ومن ثم الروح الحامية لها، والمعين، الذي يرسل لها الوحي، والذي- إذا كان خطرًا- يعرف أبناءه ويصونهم. يٌقتل الحيوان الطوطم، الذي كان من قبل مقدسا، مرة كل عام، يٌقتل في مراسم خاصة على مرأى من جميع أعضاء العشيرة، ويٌلتهم ثم يٌناح عليه بعد ذلك. ويعقب الحداد احتفال كبير.
وينبه، فرويد، على إن عددا كبيرا من العادات والتقاليد في مجتمعات قديمة وحديثة مختلفة يتوجب النظر إليها كرواسب عن حقبة طوطمية. وإذا “كان الحيوان الطوطم هو الأب، فإن الوصيتين الرئيسيتين للطوطمية، الأمرين التابويين اللذين يؤلفان جوهرهما، وهما عدم قتل الطوطم وعدم الاستخدام الجنسي للنساء اللواتي ينتمين إلى هذا الطوطم، تتطابقان بالمضمون مع جرمي أوديب الذي قتل أباه وأتخذ من أمه زوجة؛ كما تتطابقان مع الرغبتين الأصليتين للطفل اللتين تشكلان- لعدم كبتهما كفاية أو لاستفاقتهما- نواة، ربما لجميع العصابات النفسية”.
أما عن “التابو” فيذكر فرويد، أنه يتشعب إلى اتجاهين متعاكسين: فمن جهة: مقدس، مبارك. ومن جهة أخرى: رهيب، خطير، محظور، مدنس. و”أن التقييدات التابوية شيء مغاير للمحظورات الدينية أو الأخلاقية، فهي لا ترجع إلى أمر من الله، بل تحظر نفسها من نفسها. المحظورات التابوية تفتقر إلى أي تعليل، ولا يٌعرف لها مصدر، هي غير مفهومة بالنسبة لنا، في حين تبدو بديهية لمن يقع تحت سلطانها”.
ويشدد فرويد على الصلة بين التابو وبين المعتقدات الخرافية والإيمان بالأرواح والدين “الأمر يتعلق باختصار بسلسلة من التقييدات، هذا وذاك محظور، وانتهاكه يستدعي القصاص التلقائي على أبشع صورة”، وقبل كل شيء يشغل “تابو الأموات” أهمية فائقة: “نحن نعلم، أن الأموات حكام أقوياء، وربما سندهش لو أطلعنا على أنهم يعتبرون أعداء”.
يبقى لدينا من “الطوطم والتابو” مما له علاقة بالصفحات الأربع الأول من “إفلات الأصابع“، فقرة طويلة نسبيا، لكنها هامة في سياق هذه القراءة، يفصل فيها فرويد بحثه في “الثلة الداروينية لبدايات الطوطمية”، فانطلاقا من ملاحظة داروين القائلة أنه في البداية كان “ثمة أب جبار غيور يحتكر لنفسه جميع النساء ويشرد الأبناء اليافعين”، يذكر فرويد الآتي: “ذات يوم اتحد الأخوة المشردون، قتلوا والتهموا الأب، وقضوا بذلك على الثلة الأبوية. وهم الآن يحققون التماثل معه من خلال فعلة الالتهام هذه، ويتملك كل واحد منهم قطعة من قوته. ولعل الوليمة الطوطمية، وهي ربما أول عيد للبشرية، هي استعادة وذكرى لهذه الفعلة الإجرامية الجديرة بالتذكر، التي بدأت معها أشياء كثيرة: التنظيمات الاجتماعية والقيود الأخلاقية والدين. هذه المشاعر نستطيع أن نثبتها- كمضمون لازدواجية عقدة الأب- لدى كل طفل وعصابي لدينا. لقد كانوا يكرهون الأب الذي وقف حجر عثرة جبارة أمام حاجتهم السلطوية ومتطلباتهم الجنسية، لكنهم كانوا يحبونه أيضا ويعجبون به. وبعد أن قضوا عليه وأرضوا كراهيتهم وحققوا رغبتهم بالتماثل معه، كان لا بد أن تظهر عواطف المودة المقموعة. وحدث هذا بصورة الندم، نشأ شعور بذنب يتطابق هنا مع الندم المحسوس به من قبل الجميع بصورة مشتركة. هكذا أصبح القتيل أقوى مما كان الحي، كل هذا كما نراه إلى اليوم في مصائر البشر”.
من المهم، هنا، التنبيه إلى أن هذا الرابط بين “الطوطم والتابو” وبين الصفحات الأربع الأول من إفلات الأصابع” لا يعني مطلقا البحث عن مطابقة بين ما تم تلخيصه من كتاب فرويد وبين ما أفضت إليه قراءة تلك الصفحات، التي تتضمن عناصر دالة وأخرى موحية منفتحة بإتجاه مثل تلك الأفكار والتصورات التي جمع فيها فرويد بين شذرات من أبحاث انثروبولوجية وما توصل إليه من أبحاث في إطار مدرسة التحليل النفسي، وأن ذلك الرابط ينشأ في صفحات الرواية الأولى، ولذلك فهو مجرد “فرضية” قد تثبت أو تضعف أو تنفى مع تواصل القراءة، التي علينا خلال كل جزء منها أن نتذكر كلمات فرويد هذه: “الطوطم ليس إلا بديل الأب، لعل الطوطم هو الشكل الأول لبديل الأب، والإله هو المتأخر الذي استعاد فيه الأب من جديد هيئته البشرية (…) وإذا كان التحليل النفسي يستحق أي اعتبار، فإنه- دون الانتقاص من الأصول والمعاني الأخرى للإله التي يمكن للتحليل النفسي أن يلقي عليها ضوءا- يجب أن يكون لعنصر الأب في فكرة الإله رجحان كبير. بيد أن الأب يكون عندئذ ممثلا مرتين في القربان البدائي، مرة كإله ومرة كأضحية طوطمية؛ ومع كل القناعة بقلة التنوع في الحلول التحليل- نفسية علينا أن نتساءل، ما إذا كان هذا ممكنا وأي معنى له. (…) في عقدة أوديب تلتقي بدايات الدين والأخلاق والمجتمع والفن، وذلك في تطابق تام مع ما أثبته التحليل النفسي، من أن هذه العقدة تمثل نواة جميع العصابات، على قدر ما استوعبتها أفهامنا حتى الآن. ومما يبدو لي مفاجأة عظيمة، أنه يمكن أيضا حل هذه المعضلات في نفسية الشعوب انطلاقا من نقطة ملموسة واحدة وهي: كيفية العلاقة مع الأب. وربما كان علينا أن ندرج هنا مسألة نفسانية أخرى: كثيرا ما كانت لدينا فرصة لأن نكشف عن الازدواجية العاطفية في معناها الدقيق، أي اجتماع الحب والكراهية تجاه نفس الموضوع، في جذور تكوينات حضارية هامة. نحن لا نعلم شيئا عن مصدر هذه الازدواجية، إنما يمكن للمرء أن يزعم أنها ظاهرة أساسية في حياتنا العاطفية”.
ثم سنترك فرويد، مؤقتا، فيلوح لي أننا سنعود إليه، لكننا سنستخدم جملتيه التاليتين كجسر يوصل إلى هشام شرابي: عرف التنظيم الاجتماعي ملوكا كالآلهة، نقلوا النظام البطريركي إلى الدولة. علينا أن نقول إن ثأر الأب المخلوع والمُنصب ثانية كان قاسيا. لقد وصلت سلطة الهيمنة إلى ذروتها.
في كتابه “النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي” (1991) يُذّكر هشام شرابي بمقولة فرويد عن “أولوية اللاوعي في النظام الذهني وبالأهمية المركزية لتجارب الفرد في طفولته وتأثيرها في تكوين شخصيته وتركيبه النفسي العام”. ويؤكد على أن مقولة النظام الأبوي (البطركية) تشير على السواء إلى بنى كبرى (المجتمع، الدولة، الاقتصاد) وبنى صغرى (العائلة والشخصية الفردية). أما ظاهرة النظام الأبوي المستحدث فتستمد معناها من تعبيرين أو واقعين يؤلفان بنيتها المادية، هما الحداثة والنظام الأبوي. والأبوية المستحدثة “تشكّل اجتماعي مهدورة طاقته، ومتميز بطبيعته الانتقالية وضروب شتى من التخلف والتبعية- وهذا كله متجسد في اقتصاده وبنية طبقاته، وكذلك في تنظيمه السياسي والاجتماعي والثقافي. وعلاوة على ذلك فهو تشكّل غير مستقر أبدا بالمرة، تُفسخه التناقضات والنزاعات الداخلية، ويمزقه “الحنين والندم والحزن”، على حد تعبير عالم النفس اللبناني على زيعور. والمجتمع الأبوي المستحدث كان نتيجة استعمار أوروبا العالم العربي الأبوي، بمعنى أن ذلك المجتمع كان محصلة لاقتران الإمبريالية بالأبوية.
وينبه شرابي إلى أن تحليله للأبوية المستحدثة ينطوي على افتراض أساسي وثيق الصلة بالمنظورين الماركسي والفرويدي، يقول بأن البنى العميقة في المجتمع والفرد “تعمل” بصورة مستقلة عن وعي الأفراد والجماعات. وبمعزل عن هذين المنظورين فإنه يستحيل المضي إلى ما هو أبعد من الأحداث الظاهرة ويتعذر بالتالي إدراك معنى البنى الكامنة. إن هذا كله، هو ما اثبتته بالفعل النظرية العلمية الأولى في حقل العلوم الاجتماعية التي قدمها ماركس، والنظرية النفسية التحليلية التي قدمها فرويد. و”أصبحت أومن أنه دون نظرية شاملة كهاتين النظريتين نبقى في موقع سطحي ساذج، نرى الأحداث تراكما فوضويا عبر التاريخ، ونعتبر سلوك الأفراد والجماعات تصرفات هادفة وعقلانية”.
ويشير شرابي إلى أن احدى سمات المجتمع الأبوي المستحدث، النفسية- الاجتماعية، الأساسية، هي: هيمنة الأب (البطريرك)، إذ إنه المركز الذي تنتظم حوله العائلة، بنمطيها المدني والطبيعي. وتبعا لذلك، فإن العلاقات القائمة بين الحاكم والمحكوم وبين الأب والابن هي علاقة عمودية: ففي كلتا الحالتين تقف إرادة الأب عن إنها الإرادة المطلقة، وتتجسد في المجتمع والعائلة إجماعا مفروضا يرتكز إلى العادة والإكراه.
أما التخلف “فيكمن في أعماق الحضارة الأبوية (والأبوية المستحدثة) ويسري في كل أطراف بنية المجتمع والفرد، وينتقل من جيل إلى آخر كالمرض العضال”. ويتخذ هذا التخلف أشكالا عدة تتميز عن بعضها بعضا بصفتين مترابطتين: اللاعقلانية والعجز. اللاعقلانية في التدبير والممارسة، والعجز عن التوصل إلى الأهداف التي نرنو إليها. اللاعقلانية في التحليل والتنظير والتنظيم، والعجز عن الوقوف في وجه التحديات والتغلب عليها.
ويستشهد شرابي بما ذكره، علي زيعور، في كتابه “التحليل النفسي للذات العربية: أنماطها السلوكية والأسطورية”، من أن” العائلة شديدة الوطأة، مما يهيّيء الولد لأن يطيع في شبابه. فالكثير من وسائلنا التربوية التقليدية لا تعدّه لأن يقارع ويناقش بقدر ما تنمي فيه الالتواء والازدواجية والاعتماد على الكبير (الأب، الأخ الأكبر، المتنفذ في القبيلة، الرئيس)”. ويرد، زيعور، القمع في العائلة إلى شيوع مواقف غير عقلانية وخرافية في صفوف غالبية الناس. والعائلة العربية المستحدثة تستمر في تغذية قيم التبعية ومواقفها، وهذه العائلة تخلق الفرد الخائف أبدا من الحياة والسلطة وهكذا فإنها تخلق من جديد إمكانية قيام حفنة من الأفراد ذوي النفوذ بتسلم السلطة وقيادة الجماهير.
كما يستشهد شرابي بمقولة المحلل النفساني الماركسي فيلهلم رايش: “بنية الفرد النفسانية تماثل بنية النظام الاجتماعي القائم”، ليخلص إلى أن “هذا معناه أن البنية النفسانية العربية تنتج من التنشئة الاجتماعية في ظل العائلة الأبوية المستحدثة”. ويشدد على أن ذلك “محصلة أوضاع اجتماعية يمكن تغييرها، وليس ناتجة عن “طبيعة” جوهرية”.
ويلفت شرابي إلى أن “النظام القائم في المجتمع العربي اليوم ليس نظاما تقليديا بالمعنى التراثي، كما أنه ليس معاصرا بالمعنى الحداثوي، بل خليط غير متمازج من القديم والحديث، من التراثي والمعاصر: نظام غريب يختلف عن أي نظام آخر.. وخلال المئة سنة الأخيرة حدث تغيير كبير في المجتمع العربي من جراء اصطدامه بالحضارة الغربية الحديثة. إلّا أن هذا التغيير لم يؤدِّ إلى استبدال النظام القديم بنظام جديد، بل فقط إلى تحديث القديم دون تغييره جذريا، فانبثقَ عنه النظام الأبوي المُستحدث وحضارته المُخضرمة التي نعيش في ظلها. وحجر الزاوية في النظام الأبوي (والأبوي المستحدث) يقوم على استعباد المرأة، و”هذا المجتمع لا يعرف كيف يُعرف ذاته إلا بصيغة الذكورية وصِفَتِها. وليس من الأنوثة من وظيفة فيه إلّا تأكيد تفوّق الذكر وتثبيت هيمنته”. وأنه لن “يكون هناك تغيير أو تحرير دون إزاحة الأب رمزا وسلطة، وتحرير المرأة قولا وفعلا”.
وهناك سمتان بارزتان للمجتمع الأبوي العربي متعلقتان بالصفحات الأربع الأولى من “إفلات الأصابع” يبرزهما، شرابي، الأولى هي: سيادة السيطرة الأبوية، فالطفل ينشأ وهو يشعر بأن أباه يضطهده، وأن أمه تسحق شخصيته. والصبي هو، في شخصيته الأساسية وإلى حد كبير، حصيلة عمل أمه لا أبيه، إنه من ممتلكاتها الخاصة، وهو موضوع اهتمامها وعنايتها الدائمين. ولذلك فقد يظل فاقدا للسيطرة على ذاته، متعطشا إلى إبراز ذاته وإلى اعتراف الآخرين به وإلى الحصول على المكانة الاجتماعية والسلطة.
السمة الثانية هي: سيادة ما يسميها بـ “العقلانية السحرية”، وهي عقلانية مشوهة لأنها ليست متجهة كليا نحو الواقع، ولكنها في الوقت نفسه ليست سحرية بالمعنى الكامل، أي بمعنى الهلوسة، وذلك لأنها لا تقتصر على العوامل اللاعقلانية بل تفسح مجالا للتفسير العقلاني.
ومن حيث هي تبرير نجد أنها غير مفككة وهي، عمليا، متماسكة الشكل. إن العقلانية السحرية تجعل الفرد يفترض، بصورة لا شعورية، أن ذاته والواقع يخضعان لقوى غير التي يمكنه أن يعيشها بالتجربة المباشرة، بمعنى أن هناك في التجربة العادية عنصرا خارج التجربة المباشرة يتخطى العقل.
أخيرا، يشدد شرابي على أن الأبوية المستحدثة هي السبب وراء كل محاولة يقوم بها المجتمع لردع الحداثة وللحفاظ على الوضع القائم.
ويلوح لي أيضا، كما حدث مع فرويد، أننا سنعود إلى شرابي مع الصفحات المتبقية من “إفلات الأصابع”.