في أحد بيوت الخلوة التابعة للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، قرأت راهبة “السنكسار” القبطي أثناء الليتورجيا، أي العبادة. والسنكسار هو الكتاب المخصص لرواية سير القديسين ضمن الطقس القبطي.
لم تمر هذه القراءة مرور الكرام، فقد استدعت جدلاً واسعًا في الشارع القبطي دفع الأنبا رافائيل أسقف كنائس وسط القاهرة والمرشح السابق على مقعد الباباوية للاعتذار شخصيًا عن خطأ الأم الراهبة التي كتبت اعتذارًا هي الأخرى.
وجاء اعتذار الأنبا رافائيل: “أعتذر شخصيًا عن هذا الخطأ فنحن غير معتادين أن تقرأ البنات أو السيدات أثناء الليتورجيا. فأنا لم أكن موجودًا أثناء حدوث هذا الخطأ”. ثم عاد ومسح اعتذاره بعد أن فتح ذلك أبواب النقاش الواسعة حول دور المرأة في الكنيسة القبطية.
وغالبًا ما يستند المؤيدون لضرورة صمت النساء في الكنائس إلى رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس 14: 34. والتي قال فيها: “لِتَصْمُتْ نِسَاؤُكُمْ فِي الْكَنَائِسِ”، “لأَنَّهُ لَيْسَ مَأْذُونًا لَهُنَّ أَنْ يَتَكَلَّمْنَ، بَلْ يَخْضَعْنَ كَمَا يَقُولُ النَّامُوسُ أَيْضًا”. ذلك أن رسائل بولس الرسول تشكل مع الأناجيل الأربعة أحد روافد العهد الجديد، إلا أن الكثير من اللاهوتيين قد أعادوا تفسير تلك الآية رجوعًا إلى لغتها الأصلية. وأنتجوا تفسيرات مغايرة عن المعنى اللفظي الذي تعتمده الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
مارك فلبس الباحث في اللاهوت الأرثوذكسي يرى أن موقف الأنبا رافائيل من واقعة قراءة الراهبة في الكنيسة يعبِّر عن وعي مخبوء داخل الكنيسة القبطية، ويبرهن على نظرتها للمرأة. ويقول: “اعتذار الأنبا رافائيل هو تجسيد كامل وحقيقي للعقلية القبطية ورؤيتها للحياة، والتي دائمًا ما تختلف عن إيمان الكنيسة الأرثوذكسية”.
“حركة الزمن” في قراءة النصوص الدينية
كما اعتبر مارك أن اعتذار الأسقف ينتج عداوة صريحة للمرأة صورة الرب. بل ينم عن رؤية مشوهة لوالدة الإله ذاتها التي صارت عنده كالصنم لا شخصًا حيًا وهي منفصلة عن طبيعتها الجندرية. مضيفًا: “العذراء حملت المسيح في أحشائها، بينما تمنع الكنيسة بني جنسها من النساء من قراءة الأناجيل فيها”. وهو حسب مارك: “الدين الطقوسي الشريعي الذي يحارب كنيسة المسيح”.
التاريخ لا يوجد في وعي الأسقف، وهو ما سماه حبيب بباوي: “الرؤية الأوطاخية للتاريخ”. أي عندما يتأله التاريخ ويتحول إلى حركة إلهية لا يدخل فيها العنصر الإنساني
ويشير إلى ما يسميه “حركة الزمن” في قراءة النصوص الدينية بقوله: “أي إدراك أننا لابد أن نقرأ مواقف آبائنا الرسل في سياقها التاريخي. فالتاريخ هنا لا يوجد في وعي الأسقف، وهو ما سماه حبيب بباوي: “الرؤية الأوطاخية للتاريخ”. أي عندما يتأله التاريخ ويتحول إلى حركة إلهية لا يدخل فيها العنصر الإنساني. فالزمن عند الأسقف زمن أوطاخي؛ أي زمنًا إلهيًا يغيب فيه البعد الإنساني كما يغيب هذا البعد نفسه في التعليم القبطي.
يعود مارك إلى جدلية الزمن في قراءة رسالة بولس الرسول فيقول: “هناك إغفال لتاريخية نص بولس الرسول، الذي لابد أن نراجعه بوعي كنسي مُعاصر، بإرشاد من روح الرب الذي لا يزال يعمل في الكنيسة”. ويضيف: “هذا النص الذي هو نتاج التاريخ والثقافة السائدة فيه والظروف التي تحكمه في لحظتها الآنية”. ووفقا لمارك فإن “التجلي الثاني هو جوقة بنات الكنيسة، اللائي يقدرن الآن على التعبير عن أنفسهن بحرية. ويستطعن الاعتراض على الأسقف بحكم التطور الزمني”.
دور المرأة في الكنيسة الأولى
بينما يأخذ ماركو الأمين الباحث في التاريخ الكنسي الجدل إلى زاوية أخرى، يبدأ فيها بتعريف كتاب السنكسار الذي قرأت منه الراهبة في الكنيسة. يقول: “السنكسار كتاب كنسي معنيٌّ بتسجيل سير القديسين. يقرأ على الحضور لأخذ الموعظة من فضائل القديسين. والكنيسة الوحيدة التي تقرأ السنكسار في القداس هي الكنيسة القبطية، وعلى ما يبدو أنه ترتيب طقسي متأخر. أي لم يكن معمولا به في تاريخ الكنيسة القديم”.
يشير الأمين إلى ما يسميه دور المرأة في الكنيسة الأولى أو كنيسة العهد الجديد. ويؤكد أن المرأة كانت تلعب دور الشماسة، كذلك فإن الكثير من تلاميذ ومساعدي بولس الرسول كانت من النساء. وهو الأمر الذي فعله السيد المسيح نفسه.
ماركو الأمين: الراهبات هنَّ من يقرأن كل القراءات. فما فعلته الراهبة أو المكرسة ليس عيبًا ولا خطأ، ولا يمثل أيَّ تعدٍ على تقاليد الكنيسة ونظامها الروحي
يضرب الأمين المثل بفيبي شماسة كنيسة كنخريا التي كانت تقرأ رسائل بولس الرسول، أستاذها في الكنيسة. ويقول: “جميع الكنائس التقليدية- شرقية وغربية- تشارك فيها المرأة كشماسة في الخدمة الليتورجيا (العبادة). سواء في ترتيب أدوات واحتياجات العبادة أو تنظيمها والاعتناء والمشاركة في القراءات والتراتيل. بينما المعروف في الكنيسة القبطية أن أديرة البنات تقوم فيها الراهبات بكل الصلوات والقراءات عدا الخدمة داخل الهيكل، وهي المنوط بها الرجال فقط فيقوم بها الكاهن والشماس”.
واستطرد الأمين: “لكن الراهبات هنَّ من يقرأن كل القراءات. فما فعلته الراهبة أو المكرسة ليس عيبًا ولا خطأ، ولا يمثل أيَّ تعدٍ على تقاليد الكنيسة ونظامها الروحي. مؤكدا أن اعتذار الراهبة والأسقف جاء إرضاءً لبعض الراديكاليين الأقباط ليس أكثر. وهو ما استدعى هجوم النسويات وكثير من الأقباط؛ فاضطر الأسقف لمسح اعتذاره.
لماذا اضطر أسقف طما إلى الاعتذار؟
في أبريل عام 2020، وأثناء الاحتفال بأيام الخماسين المقدسة، وهي الفترة التالية لعيد القيامة، انتشر فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي للأنبا إسحق أسقف طما، يسمح لعدد من المكرسات (راهبات يعملن بالخدمة المجتمعية) بالمشاركة في طقس قبطي معروفة باسم زفة القيامة. وذلك حول مذبح دير القمص يسى ميخائيل بطما. وهو الأمر الذي اعتبره بعض الأقباط مخالفة لطقس الكنيسة القبطية.
وجراء هذا الهجوم، كتب الأسقف اعتذارًا خطيًا جاء فيه: “أقدم اعتذاري الشديد إلى أبي حضرة صاحب القداسة البابا المعظم الأنبا تواضروس الثاني. وإلى آبائي المطارنة والأساقفة أعضاء المجمع المقدس، عن التصرف الذي بدر مني دون تدقيق، ولم يكن مناسبًا كنسيًا ولا طقسيًا. وكنت أقصد به أن أفرِّح قلب المكرسات بالقيامة”.
“أعترف أنني أخطأت، وأنني لن أكرر مثل هذه التصرفات؛ حفاظًا على سلامة الطقوس التي عاشت بها كنيستنا القويمة طوال تاريخها. وأرجو أن تسامحوني وتغفروا لي، راجيًا صلواتكم من أجل ضعفي. حاللوني واذكروني”. (الأنبا إسحق أسقف طما)
اعتذار الأنبا إسحق قريب الشبه باعتذار الأنبا رافائيل. فكلاهما يتعلق بإشراك الراهبات أو المكرسات في طقوس الكنيسة القبطية، وهو الأمر الذي يمثل جدلاً واسعًا في الساحة الكنسية. وتختلف تفاسيره بين كنيسة وأخرى. ففي حين تسمح الكنائس المصلحة مثل البروتستانتية برسامة المرأة قسيسة، تمنع الكنائس التقليدية النساء من نيل سر الكهنوت وتكتفي بقبول رهبنتهن.