لم يكن تأكيد البابا تواضروس الثاني على تخصيص 30% من ميزانية الكنائس لتنفق على الفقراء. إلا جزءا من برنامج الرعاية الاجتماعية الذي بدأته الكنيسة منذ ما يقرب خمسة سنوات. بعد أن لاحظ البطريرك أن التبرعات لا تذهب دائمًا لمستحقيها في ظل ظروف اقتصادية ضاغطة عاشتها البلاد. حين ارتفعت معدلات التضخم عام 2016 بشكل غير مسبوق بعد الإعلان عن تعويم الجنيه مقابل الدولار وهي نفس الفترة التي شهدت انطلاق هذا البرنامج.
برنامج الرعاية الاجتماعية الكنسي يشرف عليه القمص بيشوي شارل الذي يحمل منصبًا تم استحداثه مؤخرا. وهو سكرتير البابا للرعاية الاجتماعية إذ كانت تلك المهمة من نصيب أسقفية الخدمات الاجتماعية وحدها. قبل أن يرى البطريرك ضرورة أن تعمل الكنيسة في هذا المجال بجناحين وعبر عدة برامج تكفل لإخوة الرب الحياة الكريمة في ظل نظام كنسي لا مركزي. يتيح لأساقفة الإيبارشيات الإشراف على أموال التبرعات دون رقابة وهو ما استلزم استحداث نظام مركزي للتوزيع.
كيف تدير الكنيسة تبرعات الأقباط؟
في النظام الكنسي، فإن كل أسقف مسؤول عن ايبارشيته وما يرد إليها من تبرعات. حيث تضم كل إيبارشية مجموعة من الكنائس تقع في نطاق جغرافي واحد تتمايز ما بين مناطق الطبقة المتوسطة ومناطق الطبقة العليا والمناطق الفقيرة. ففي حين ترد تبرعات كبيرة لكنائس الطبقة العليا تقل التبرعات في الكنائس بالمناطق العشوائية. وهو ما يتطلب أن تتبنى كنيسة كبيرة كنائس أصغر ماليًا وخدميًا وهو الدور الذي يقوم به أسقف الإيبارشية المسؤول عن توزيع تلك الأموال وإدارتها.
جاء برنامج البابا تواضروس للرعاية الاجتماعية لضبط تلك التبرعات مثلما كشف القمص بيشوي شارل مسؤول البرنامج من قبل. حيث تم تأسيس قاعدة بيانات محكمة تضم كشوفا بأسماء إخوة الرب أي المحتاجين حسب تعبير الإنجيل. ويتم توزيع المعونات عليهم بنظام يسمى كشوف البركة فيحصل المحتاج على التبرع سواء أكان ماديا أو عينيا. بشكل ثابت يحفظ له كرامته ويمنع تكرار الحصول على التبرعات لنفس الشخص مما يتسبب في حرمان محتاج آخر.
برنامج الرعاية الاجتماعية نجح في السنوات الأخيرة في تخصيص كهنة للعمل بهذه الخدمة. هم الذين التقاهم البابا البطريرك أمس الأول حين أكد على ضرورة تخصيص نسبة الـ30% من أموال كل كنيسة للفقراء. إذ تنفق بعض الأموال في أعمال الإنشاءات والتجديدات داخل الكنائس أو في نطاق مختلف من الخدمة الكنسية. بينما رأى البابا أن الفقراء أولوية في هذا الصدد إذ أوصى المجمع المقدس من قبل أن يتم توزيع إيرادات الكنائس على النحو التالي: 30% لخدمة الرعاية الاجتماعية، و30% للإدارة والمرتبات و30% للمباني، و10% للطوارئ.
ما هي المبادرات التي أطلقها برنامج الرعاية الاجتماعية الكنسي؟
يوفر برنامج الرعاية الاجتماعية أشكالا مختلفة من المساعدات. ففي بعض الكنائس يتم توفير علاج مزمن تعمل الكنيسة على شرائه بالجملة لهذا الغرض لكي يصل إلى أيادي من يحتاجونه. كذلك فإن البرنامج يشمل كشف حالة لكل أسرة ويحرص على توفير فرص عمل لأفرادها. ومن ثم يتضمن معلومات عن الحرف التي يجيدونها أو المؤهلات التي يحملها أبناء هذه الأسر. وفقا لما كشفه أحد كهنة البرنامج لمصر 360 مؤكدا أن البيانات يتم إدخالها بالرقم القومي حتى لا نسمح بالتكرار أو الخطأ.
بينما أطلق البرنامج مبادرة أخرى تحمل اسم “بنات الملك” تعمل على توفير أموال لتزويج الفتيات. حيث تبدأ بإيداع مبلغ شهري من متبرعين للفتيات في سن صغيرة بحيث يتضاعف مع الوقت. لكي يوفر للفتاة مبلغا ماليا يكفي لسد الجهاز حين تصل سن الزواج فلا تضطر للزواج خشية الفقر.
في حين تأتي المبادرة الثانية باسم “علم ابنك” لتوفير دروس خصوصية أو مجموعات تقوية للطلاب المحتاجين بأسعار رمزية في الكنائس. حيث تتكفل الكاتدرائية بـ50% من النفقات ويدفع رب الأسرة ربع القيمة لضمان الجدية. بينما البرنامج الثالث تعمل فيه الكنيسة مع الدولة ويحمل اسم “أمان” ليضمن معاشا مستقبليا لأصحاب الحرف في سن من 40 إلى 50 عاما. إلى جانب ما يسمى بشنط البركة التي يتولى الآباء الكهنة توزيعها للأسر المحتاجة شهريا وتضم سلعا تموينية ومواد غذائية وفقا لما يؤكده كاهن الرعاية الاجتماعية.
كيف تراقب الكنيسة أموال التبرعات؟
في السنوات الأخيرة تفشت ظاهرة جمع تبرعات باسم الكنيسة من مجهولين. حتى أن الكثير من الكنائس دأبت على إصدار بيانات تنفي صلتها ببعض جامعي التبرعات من هؤلاء مع نشر أسمائهم في بيانات رسمية. في حين كانت لائحة الكهنة ومجالس الكنائس التي اعتمدها المجمع المقدس للكنيسة منذ سنوات تضم نظاما رقابيا يضمن عدم السماح بالتلاعب بتلك الأموال. حيث نصت على تعيين مراقب للحسابات من خارج مجلس الكنيسة لمراجعة القوائم المالية السنوية لكل كنيسة وإعطاء تقرير عنها للرئاسة الكنسية كل عام.
وتنص لائحة شؤون الكهنة، على أن يكون تلقى التبرعات والعشور من الأقباط عبر إيصالات رسمية مختومة من الكنيسة بدفاتر خاصة بها. فيما تقع المراقبة والتصرف فى أموال كل كنيسة على مجالس الكنائس.
أما بالنسبة للكهنة، فإن اللائحة حددت ثلاثة درجات للعقاب والمسائلة في حال التورط في أية انحرافات مالية. تبدأ بالنصح والإرشاد مرورا بالإيقاف عن الخدمة ثم الإحالة إلى مجلس شؤون الكهنة الفرعي. وقد تصل إلى الإحالة لمجلس أعلى وتنتهي بالشلح من الخدمة الكهنوتية بعد الحصول على توقيع البابا البطريرك.
من جانبه سرد أيمن عريان الباحث المتخصص في شؤون الكنيسة تاريخ خدمة الفقراء. الذي يعود لعصر الآبار الرسل وقال: “بعد صعود المسيح وتأسيس الكنيسة. بدأ الرسل والتلاميذ أثناء رحلة التبشير يلاحظوا وجود احتياجات اجتماعية للناس في الكنائس وسفر أعمال الرسل يضع جذور تأسيس الكنيسة”.
وأضاف: التلاميذ اتفقوا على ضرورة تدبير الاحتياجات المالية وتم منحها لشمامسة مشهود لهم بالنزاهة. حيث كانت تجمع الأموال وتوزع على المحتاجين سواء طعام أو ملبس أو غيره إذ عمل الشمامسة السبعة المختارين على تدبير تلك الخدمة الإدارية مضيفًا: “الفكرة هنا ليست الالتزام بالـ30% المخصصة للفقراء ولكننا نحتاج لمعرفة كيف تصرف أموال الكنيسة؟”. مجيبا: “في أحد الفترات كانت الدولة ترغب في وضع رقابة على أموال الكنائس لكن أموال الكنيسة. هي أموال تبرعات غير مدعومة من أي جهة بالدولة على العكس من الغرب إذ تخضع الكنائس لرقابة المؤسسات الحكومية ماليًا”.
بداية تأسيس الأوقاف الكنسية
وتابع الباحث في الشؤون الكنسية: “فكرت الكنيسة من البداية في كيفية الإنفاق. فعمل الأعيان على التبرع للكنائس سواء بأراضي أو بيوت أو غيرها ومن هنا تأسست الأوقاف الكنسية التي ينفق منها على المشروعات أو على الفقراء. وقد كانت تلك مهمة المجلس الملي الذي استكمل دور الشمامسة السبعة في كنيسة الرسل”. مؤكدًا أن المجلس المللي انعقد لسنوات طويلة في عصر البابا كيرلس الخامس الذي حكم الكنيسة لمدة 52 سنة. إذ شعر وقتها البابا أن هناك صراعا بينه وبين المجلس المللي المتحكم في الأموال واستمرت هذه الصراعات حتى عصر البابا كيرلس السادس. ولما جاء البابا شنودة الثالث عمل على تدجين المجلس الملي ليصبح مجلسا للوجاهة الاجتماعية دون أن يلعب أدوارا حقيقية ملموسة.
وأشار عريان إلى أن أوقاف الأديرة والكنائس كانت تخضع لتحكم الرهبان والأساقفة. مما أدى إلى خلل إداري وهنا ظهرت الحاجة إلى وجود مجلس ملي يُعنى بالرقابة على أموال الأقباط وتبرعاتهم. وعلى سبيل المثال كان أمين دير الأنبا مقار قبل القمص متى المسكين متحكما في الأموال والأراضي. دون رقابة حقيقية حتى جاء القمص متى وتم تغيير تلك الطريقة في الإدارة.
أما الآن _يقول عريان_ فإن أموال الكنيسة لا تحكمها قوانين ولوائح بينما كل السلطات مركزة في يد الأسقف. حتى إن أحد الأساقفة قد أكد على ذلك علانية، مضيفا: “بعض رجال الأعمال يقدمون تبرعات للأساقفة بالملايين. وكل ذلك لا يخضع لرقابة محددة دون وجود هيكل إداري ومحاسبي فكل شيء في يد الأسقف. وبشكل شخصي يسافر للعلاج في الخارج على نفقة الكنيسة ويؤسس مشروعات كنسية لا نعرف ريعها أو مكاسبها وحتى المشروعات التي تبنيها الكنيسة. تمنح لشركات مقاولات بعينها دون أن يدرك شعب الكنيسة هل قدمت أفضل عرض أم لا؟”.
واستكمل عريان: نتمنى أن تفصل الكنيسة العمل الإداري والشئون المالية عن العمل الروحي وشئون الكهنة. مضيفا: “قد لا تكفي الـ30% لسد احتياجات الفقراء ففي بعض الإيبراشيات يحتاج الفقراء إلى 70% لأن أوضاعهم الاقتصادية صعبة. بينما أعلن أحد الأساقفة العام الماضي أنه ينفق 10% فقط من أموال الكنيسة على الفقراء وباقي الأموال تدخل في مشاريع لا نعرف على وجه التحديد أين يذهب ريعها”.