أدركت تركيا والإمارات أن الحاجة إلى الذهاب نحو “نقطة التقاء” هو أقصر الطرق لتعويض خيبة الأمل العسكرية، التي جمعتهما طوال السنوات الأخيرة في مناطق النزاعات. وهي المتغيرات التي ترتكز على ما يفترض تسميته بـ”الإنقاذ المتبادل”، فبينما تحتاج تركيا إلى أن تمد الإمارات حبلاً إلى أنقرة لانتشالها من حفرة التدهور الاقتصادي، تريد أبوظبي ترحيل الخلافات السياسية مع أطراف سببت لها إزعاجًا، ومنها إيران التي تشير التحركات إلى أن الأتراك يمكن أن يكونوا وسيطًا سريع المفعول بين الدولتين.
محددات التباعد والتقارب
في ميزان السياسة تبدو الدولتان في كفتين متوازيتين من ناحية الرغبة في الذهاب إلى بعضهما.
فتركيا تريد تطوير علاقاتها مع الدول المنافسة لها في الشرق الأوسط، وعلى رأسها الإمارات ومصر.. وهي بذلك تدرك مدى تشابك الملفات في المنطقة، وتعي أن المصالحة مع السلطات المصرية تفرض تسكين- على أقل تقدير- الأزمات مع دول الخليج بعد عقد من الخلافات.
أما الإمارات، التي خسرت خلال العشرية الأخيرة نفوذها في مناطق بالشرق الأسط، خاصة في الملف الليبي ومحاولات تحجيمها في اليمن، باتت تدرك أن ما تجلبه الحرب أقل بكثير مما يمكن أن تجلبه الغرف المغلقة والاتفاقيات السرية، وهو ما يبدو واضحًا من تغيرات مفاجئة، مصحوبة بوتيرة تحركات سريعة، لا يمكن فصلها عن الحوار الإقليمي الدبلوماسي المفترض منذ فترة، لتصفير الأزمات.
عقد من الخلافات
على مدار عشر سنوات تبادلت الإمارات وتركيا الاتهامات بممارسة النفوذ خارج حدودهما، ووقفت الدولتان على طرفي النقيض في ملفات عدة، سواء سوريا أو ليبيا أو اليمن، لكن هذه السياسة أوصلتهما إلى طريق مسدود، بالنظر إلى أن العبء السياسي والاقتصادي لهذه التداخلات يتزايد بشكل مطرد، فضلاً عن أن تركيا عزلت نفسها في الشرق الأوسط، دعمًا لجماعات إسلامية، بينما اصطفت الإمارات إلى جوار “أنظمة ما قبل الربيع العربي”، وهي المعادلة التي أخرجت الدولتين خارج الحلبة بنتائج صفرية.
وصل البلدان إلى أقصى نقطة خلاف، عندما اتهمت أنقرة الإمارات بدعم محاولة انقلاب فاشلة على رئيسها عام 2016.. قابلها اصطفاف أنقرة إلى جانب قطر في خلافها السياسي مع دول خليجية أخرى ومصر.
بعدها أخذت علاقة البلدين طريقًا كان يبدو لدى المتابعين أنه طريق اللا عودة، لكن المصالح طغت على كل شيء، وما كان مستحيلاً بات ممكنًا, فعندما بدأ الشرق الأوسط يتهيّأ لمرحلة جديدة، وجد البلدان الحاجة إلى التعاون، حتى وإن كان من قبيل “الضحكة الصفراء” على وجوه الخصوم.
تحول مفاجئ
بداية التحول كانت في أغسطس الماضي، عندما فاجأ وزيرا خارجية البلدين الصحافة بالإعلان عن اتصال هاتفي، ثم زيارة مفاجئة وغير متوقعة لمستشار الأمن الوطني الإماراتي، طحنون بن زايد، إلى أنقرة، وقتها بدأ الجميع يتحدث عن تغيرات غير مفهومة في علاقة أكثر الخصوم بالمنطقة، إلى أن أجرى محمد بن زايد، ولي عهد أبوظبي، الحاكم الفعلي للإمارات، اتصالاً بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعدها خرج الأخير بتصريحات تعبر عن “رومانسية سياسية”، حين وصف الإمارات بـ”الدولة المحورية” و”الحاجة إلى التعاون” بين البلدين.
بعدها جرى الحديث عن اتصالات مكثفة على أكثر من صعيد بين البلدين، لا سيما على مستوى أجهزة الاستخبارات، إلى أن حطت طائرة محمد بن زايد في أنقرة، الأربعاء 24 نوفمبر الماضي. في لحظتها قرأت العملة التركية المنهارة، الأهداف من بين السطور، فكانت المفارقة أن صعدت الليرة بشكل ملحوظ أمام العملة الأمريكية، تعويضًا لخسائر متواصلة.
وقتها رأى اقتصاديون أن ذلك مؤشر على ارتياح الأسواق لخطوة التقارب، وفهمها السياسيون بأن إنقاذ الاقتصاد التركي يقابله مكاسب سياسية للإماراتيين.
لماذا التقارب؟
مع التسليم بأن التقارب بين البلدين مبنيٌ على ماضٍ يحمل تراكمات من خيبة الأمل بأقل مرادفات الفشل السياسي، ومستقبل يفرض تصفير الملفات، ثمة معانٍ ودوافع لدى الطرفين جرى الاستناد إليها لرسم ملامح هذه الصفحة الجديدة.
ماذا تريد تركيا من الإمارات؟
ليس سرًا أن تركيا تريد من الإمارات دعمًا اقتصاديًا وإنعاشًا عاجلاً لاقتصادها المتداعي، وعملتها التي تشهد انهيارات تاريخية.
ومع بلوغ التضخم 19% وارتفاع تكاليف المعيشة، اضطرت البنوك الحكومية التركية إلى بيع 128 مليار دولار من الاحتياطي الأجنبي العام الماضي لدعم الليرة.
لذلك كانت العملة التركية المحلية أول المتفائلين بالعقود الاقتصادية التي وقعها محمد بن زايد في أنقرة، حيث جرى إنشاء صندوق بقيمة عشرة مليارات دولار لدعم الاستثمارات في تركيا المضطربة اقتصادياً، والتوقيع على 10 اتفاقيات تتعلق بمجالات الطاقة والمصارف والنقل والتكنولوجيا والبيئة.
بخلاف الطموحات الاقتصادية لتركيا، تريد أنقرة من أبوظبي مساعدة للخروج من وحْل السياسة المنغمسة فيه بملفات عدة.
أولاً تطمح تركيا أن توقف الإمارات دعمها للأكراد في سوريا، والاتفاق على مقاربة للحل في ليبيا واليمن، وهما ساحتان يتنافسان فيهما للحصول على نفوذ لم يصل إلى مرحلته النهائية، ثم الملف السياسي الاقتصادي المتعلق بمساندة أنقرة في مساعيها للحصول على جزء من كعكة غاز المتوسط، وتسكين الخلافات مع اليونان، لا سيما في ظل علاقة أبوظبي الجيدة مع أثينا.
في المقابل ماذا تريد الإمارات؟
كما الحال بالنسبة لتركيا، تريد الإمارات من أنقرة أهدافًا في مسارين، الأول اقتصادي، ولكنه ليس شبيهًا بالرغبة التركية.
أبوظبي تريد امتيازات استثمارية واستحواذات، على غرار المكاسب القطرية التي حققتها خلال سنوات القطعية بين تركيا والإمارات.
الدوحة حققت اختراقًا كبيرًا في الاقتصاد التركي بالاستحواذ على 10% من أسهم بورصة إسطنبول، بالإضافة إلى ميناء أنطاليا، وتدشين أكبر مراكز للتسوق في إسطنبول.. كما حصلت على امتيازات لمشاريع تنموية بمليارات الدولارات.
هنا يجد الرئيس التركي نفسه مندفعًا للقبول بزبون خليجي آخر، لانتشال الاقتصاد التركي والعملة التي فقدت نحو 40% من قيمتها خلال العام الحالي فقط، ما يعني أن الإمارات تضع قدمها على ميزان الاقتصاد التركي، حينما تريد للكفة أن تترنح سترفع قدمها، ربما ليس بالحجم والتأثير الكبيرين، ولكن تبقى أحد المؤثرين، وهو ما اتضح من صعود سريع للعملة التركية بمجرد وصول محمد بن زايد إلى أنقرة.
حصلت الإمارات على دعم تركيا، خلال فوز مرشحها الضابط الإماراتي أحمد ناصر الريسي برئاسة الإنتربول. رغم اعتراضات وجدل واسع أثارته منظمات حقوقية دولية من خلال بيان وقعته 19 منظمة اتهمت فيها الريسي بارتكاب انتهاكات في مجال حقوق الإنسان.
وفي 25 نوفمبر الماضي، انتخبت الجمعية العامة للمنظمة الدولية للشرطة الجنائية (الإنتربول) خلال مؤتمرها السنوي في إسطنبول، اللواء الإماراتي أحمد ناصر الريسي، رئيسًا للإنتربول.
ورغم أن المصالح الاقتصادية ليست كافية لحل الخلافات السياسية بين البلدين، فهي قد تشجع على مزيد من التقارب.. بيد أن مصير ملفات إقليمية يرتبط في جزء منه بعلاقات المنافسين الدوليين.
شواهد وتدرج.. منع الأذى
البلدان أصدرا إشارات في السابق، تشير إلى أن قطار التقارب بدأ يتحرك، بدءًا بتخفيف حدة التلاسن الإعلامي بين الطرفين، ومعالجة ملفات أمنية معقدة استمرت لسنوات، عندما ألزمت الإمارات زعيم المافيا التركي، سادات بكر، الصمت، بعدما أحدث زلزالاً في الأوساط التركية بعدما لجأ إلى إمارة دبي، ومن هناك أطلق عبر موقع يوتيوب سلسلة حلقات تتضمن اتهامات بالفساد لشخصيات بارزة ومقربة من الرئيس التركي، وكانت تشير إلى أن تأثيراتها مدمرة على النظام.
ردت تركيا على الخدمة الإماراتية، بالإفراج عن فلسطيني يحمل الجنيبة الأردنية أحمد الأسطل، الذي بدأت محاكمته بتهمة التجسس لصالح جهاز الاستخبارات الإماراتي، ثم تبادل البلدان تصريحات على المستوى الدبلوماسي والاقتصادي تحمل مغازلة مفاجئة.
تغيرات إقليمية
المحادثات التركية الإماراتية جاءت في أعقاب محاولات من أنقرة لتنقية الأجواء مع السعودية ومصر، وهما الحليفتان للإمارات، بالإضافة إلى مباحثات تجري بين الأطراف الفاعلة في المنطقة، ما بين إيران ودول الخليج العربية ومصر والأردن، في محاولة لرسم معالم مرحلة جديدة يراد لها أن تكون خالية من التوترات.
يضاف إلى ما سبق، عدم تحقيق أيٍّ من الدولتين مكاسب لافتة في ساحات المنافسة الخارجية، بعدما تحولت بعض الدول الهشة إلى ساحات حرب ومواجهة عسكرية، ودعم الأطراف المتناحرة، لكنها لم تسفر عن حسم أيٍّ من الملفات لصالح طرف يعنيه، بل زاد المشهد تعقيدًا، كما هي الحال في ليبيا, فضلاً عن التغيرات الجارية في علاقة دول خليجية بسوريا، أحد أهم الملفات المعقدة بالنسبة لتركيا.
ورغم البطء الذي تتحرك فيه مسارات الحوار الإقليمي، فإن العلاقة بين تركيا والإمارات بدت أسرع من ناحية معالجة تطبيع العلاقات، ومن ثم تأثيرات ذلك على ملفات الشرق الأوسط، من بينها الأزمة السورية والخلافات في شرق المتوسط وليبيا.
ما موضع إيران في التطورات؟
وجدت الدولتان في فتور العلاقات مع واشنطن، فرصة للتقارب، مع توجهات الرئيس جو بايدن الجديدة الهادفة إلى الانسحاب من المنطقة.. في ظل التهديدات القادمة من إيران باتجاه دول الخليج، وهو ما وضع تركيا في موقع الوسيط الجيد بين الخليجيين والإيرانيين من أجل التوصل إلى حلول لتخفيف التوترات بين الجانبين.
يتفق ذلك مع ما تسرَّب من أنباء عن اتفاق مرتقب لتدشين طريق بري يبدأ من ميناء الشارقة مرورًا بإيران، ومنها إلى تركيا لنقل المنتجات الإماراتية خلال 8 أيام، بعد أن كان نقل البضائع من ميناء الشارقة إلى ميناء مرسين التركي عبر مضيق باب المندب وقناة السويس والبحر الأحمر يستغرق 20 يومًا.
وبالتزامن مع متابعة تداعيات التقارب التركي الإماراتي وعلاقته بإيران، وصل مستشار الأمن القومي الإماراتي، الشيخ طحنون بن زايد، الاثنين، إلى العاصمة الإيرانية طهران.
وذكرت قناة “العالم” الإيرانية في تقرير أن أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني أكد أن “الأمن والاستقرار المستديمين لن يتوفرا إلا عبر التعاون بين بلدان المنطقة، وأن زيارة الوفد الإماراتي تعتبر صفحة جديدة تمهد لتعزيز وتنمية العلاقات الثنائية في المجالات كافة”.
التداعيات المحتملة
بناء على ما سبق، فإن التداعيات المباشرة للتقارب التركي الإماراتي لن تذهب بعيدًا عن الدوافع السابقة، سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية، أو ملفات الشرق الأوسط، والتغيرات الإقليمية.
آثار اقتصادية
التطورات الاقتصادية السابقة ترشح لتغلغل إماراتي، أو على الأقل وجود قوي في الاقتصاد التركي.
في المقابل تحاول أنقرة معالجة أزماتها المتراكمة وانتشال عملتها المتداعية، حيث تمثل الإمارات ثاني أهم شريك اقتصادي بالنسبة لتركيا.. وبلغ التبادل التجاري غير النفطي بين البلدين نحو 8.9 مليار دولار خلال 2020، أي ارتفع بنسبة 21%، عن مثيله في 2019، حيث قدر حجم التبادل التجاري بقيمة 7.3 مليار دولار.
ملفات إقليمية
يرشح أن تشهد ملفات المنطقة تغيرات خلال الفترة المقبلة، سواء في ليبيا أو اليمن وسوريا، لا سيما أن القطيعة قادت إلى تدهور في العديد من ملفات الشرق الأوسط. لذلك من المنتظر أن تسفر هذه التفاهمات عن تفكيك التعقيدات فيما يخص الصراع الدائر من خلال تحييد مسببات النزاع.
أمن البحريْن
سعت تركيا نحو إيجاد موطئ قدم على البحر الأحمر، حيث وقعت اتفاقا مع جيبوتي في عام 2016 بقيمة مليار دولار بهدف إنشاء منطقة تجارية حرة بمساحة تبلغ 12 مليون متر مربع.
كما أطلقت أكبر قاعدة عسكرية لها في الصومال في عام 2017.. وقدمت 30 مليون دولار إلى الصومال في شهر أغسطس 2021.
كذلك حصلت تركيا على امتياز تطوير ميناء “سواكن” في السودان، إلى جانب الاتفاقيات الأمنية والاستثمارات بين البلدين، وتسببت هذه التحركات في زج القرن الأفريقي إلى صراع بين الدول المشاطئة للبحر الأحمر وتركيا.
وكذلك بالنسبة لأمن البحر المتوسط، حيث انتهكت تركيا قانون البحار الدولي من خلال قيامها بالتنقيب عن النفط والغاز قبالة قبرص وجزيرة كريت اليونانية، ردا على اتفاقية منتدى غاز شرق المتوسط.، ما وضعها تحت طائلة عقوبات الاتحاد الأوروبي.. كما تمتلك قواعد عسكرية في سوريا والعراق وقطر وقبرص، ما يهدد الأمن البحري في المتوسط.
أيضا أسهمت الخلافات في شمال أفريقيا إلى تضارب مواقف الدول الأوروبية، وبالتالي اضطراب المشهد الأوروبي إزاء صراعات الشرق الأوسط.. لذلك أيِّ توجه نحو تسكين الخلافات، يمكن أن يسهم في تخفيف حدة التنافس والتقاطب، وتحقيق أمن البحرين الأحمر والمتوسط.
تراجع دور الفاعلين غير النظاميين
خلال فترة توتر العلاقات بين دول النفوذ بالشرق الأوسط، خاصة تركيا والإمارات، تصدرت المشهد أذرع سياسية غير نظامية تمت الاستعانة بها كوقود للحرب المشتعلة، وكذلك عناصر المرتزقة والميليشيات المسلحة.. لذلك فإن الذهاب نحو حل الخلافات يعني تقليل الاعتماد على هذه الأذرع في الصراع.
الأثر على مصر
باعتبار القاهرة حليفة “أبوظبي”، فإن تركيا تريد تحسين العلاقات مع مصر، لأسباب قريبة من دوافع التقارب مع الإمارات.
فمنذ مايو يخوض الطرفان، المصري والتركي، مفاوضات تتحرك ببطء نحو تطبيع العلاقات، بدءًا من الجوانب الاقتصادية، وصولاً إلى الملفات السياسية والأمنية.
القضايا الخلافية الرئيسية بين تركيا ومصر تتمثل في غاز المتوسط والملف الليبي وعلاقتها بجماعة الإخوان المسلمين، وهي تقريبًا نقاط الخلاف بين أنقرة وأبوظبي، ذلك يعني أن معالجة أيٍّ من تلك الخلافات بين البلدين الأخيرين، سيكون لها بالتبعية تأثير على علاقة تركيا ومصر.
اقرأ أيضًا| مصر وتركيا.. استكشاف بطيء لملفات معقدة
اقرأ أيضًا| نُذر التصعيد بشمال سوريا.. حسابات تركية معقدة وتحديات رادعة