توسعت الدولة خلال السنوات الأخيرة في التعليم الجامعي الخاص. وقد بدأته بإنشاء الأقسام بجامعات الحكومة، كنوع من تدبير الموارد المالية والاعتماد على الذات. وذلك بغرض تقليل الإنفاق، منذ عهد وزير التعليم العالي الأسبق، الدكتور هاني هلال.
ودخلت الدولة منافسا قويا في قطاع التعليم الجامعي. كما توسعت في إنشاء الجامعات الخاصة على أربعة أنماط: أهلية، وخاصة، وجامعات باتفاقيات إطارية، وأخرى أنشئت باتفاقيات دولية معتمدة من وزارة التعليم العالي.
وفقاً للموقع الإلكتروني لوزارة التعليم العالي، فإن قائمة الجامعات الخاصة المعتمدة في مصر خلال 2021 بخلاف الرسمية التابعة للدولة تبلغ نحو 26 جامعة.
ويبلغ عدد الجامعات الدولية المعتمدة 8، هي: العلوم والتكنولوجيا بمدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا، المصرية اليابانية للعلوم والتكنولوجيا، الأمريكية بالقاهرة، جامعة إسلسكا، الجامعة الألمانية الدولية بالعاصمة الإدارية “GIU”، جامعة سنجور، وجامعة برلين الألمانية بالجونة.
وتضمن قائمة الجامعات باتفاقيات إطارية 10 جامعات كالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا والنقل البحري، والجامعة العربية المفتوحة. وكذلك أفرع الجامعات الأجنبية المعتمدة في مصر، وفقًا لقانون 162 لسنة 2018.
وقد انتهى البرلمان مؤخرا من تعديلات قانون تنظيم الجامعات، الذي سمح في المادة 11 منه للجمعيات الأهلية والمجتمع المدني والأشخاص الاعتباريين بإنشاء جامعات أهلية عن طريق المساهمة أو المشاركة والتبرع من أجل ذلك.
شهادات الجامعات تحت شعار “كله بتمنه”
ورغم أن المادة السابقة تنص على ألا تكون الجامعات الأهلية هادفة إلى الربح، فإن الجامعات الأهلية التي أنشأتها الحكومة خلال الفترة الأخيرة من ميزانية الدولة حققت أرقاما قياسية أعلى من نظيرتها الخاصة. فقد سجل سعر كلية الطب بجامعة “نيوجيزة”، و”المنصورة الجديد” 190 ألف جنيه على سبيل المثال.
وفي الوقت الذي ترتفع فيه أسعار الكليات بالجامعات الخاصة والأهلية بشكل فلكي، فإن جودة التعليم بها أقل بكثير من نظيرتها الحكومية، وفقا لشهادة أكاديميين متخصصين في التعليم الجامعي.
ويرى الدكتور هاني الحسيني، أستاذ الرياضيات بكلية العلوم جامعة القاهرة وعضو حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات، أن التعليم في معظم الكليات الخاصة “يعاني تدني الجودة، خريجوه أقل كفاءة بكثير من جريجي الجامعات الحكومية”. وهو يردّ ذلك إلى “انعدام المراقبة على العملية التعليمية داخل هذه الكيانات الجديدة”. بينما يشير إلى أن نظام التعليم يسير بشكل روتيني أشبه بـ”الكورسات”. وخدمة التعليم بهذه المؤسسات لا تخرج عن كونها تقوم على أساس “خدمة الزبون” و”كله بثمنه”.. “دا طالب داخل يشتري الشهادة بفلوسه!”.
مراقبة الجودة في الجامعات
لم تضع الدولة قبل إنشاء الجامعات آليات لمراقبة جودة التعليم. كما أنها لم تحدد أدوات بحثية للأقسام المستحدثة بها. وفضلاً عن ذلك، فإن كل أعضاء هيئة التدريس العاملين بها منتدبون من خارجها، ويعملون “مؤقتا”. فلا تسمح لهم ساعات العمل بإقامة أي أنشطة بحثية ومشاركة الطلاب فيها. ما يجعل خريجي هذه الكيانات أقل كفاءة من نظيرتها الحكومية.
يستكمل “الحسيني” بأن كثرة الضغط على المستشفيات الجامعية لقبول أعداد كبيرة من المرضى يدفع الغالبية العظمى من أعضاء هيئة التدريس للعمل داخل المستشفى بطريقة الموظفين. فقد انشغلوا عن عملية البحث والدراسة. وهو ما ينذر بوضع أسوأ في كليات لا تمتلك مؤسسات علاجية لتدريب طلابها، على حد قوله.
ويصف “الحسيني” المشهد التعليمي بـ”عدم الوضوح في تحقيق المستهدف منه”. لأن الواقع يبرز أن الهدف هو المنافسة على جني الأرباح فقط. فحجم الرقابة ضعيف وهيئة الجودة والاعتماد، المنوط بها المتابعة، دورها روتيني ولا تقوم بتطبيق الجودة في الجامعات الأساسية حتى يتسنّى لها المتابعة في الجامعات الخاصة.
هجرة الكوادر
اللافت في الأمر هو هجرة العديد من أساتذة الجامعات الحكومية للعمل بالجامعات الخاصة. وذلك لتحسين دخولهم بسبب ضعف رواتب الحكومة. الأمر الذي يهدد بتجريف الكوادر العلمية والبحثية بها.
الدكتور خالد سمير، الأستاذ بكلية طب جامعة عين شمس، يرى أننا بحاجة إلى ضبط الهيكل الوظيفي وتحقيق العدالة في الرواتب بالجامعات الحكومية. وذلك لتحقيق التفرغ، ووقف هجرة الأساتذة إلى الجامعات الخاصة.
ويعتبر “سمير” أي محاولة لإصلاح الوضع الحالي هي عملية “عودة إلى الخلف”. إذ أن هذه المؤسسات التعليمية تعاني بشدة من التشوه بالهيكل الوظيفي. هذا فضلاً عن ضآلة الرواتب وعدم التفرغ. وقد انتقلت العدوى إلى العديد من المؤسسات البحثية والتعليمية، على حد قوله.
وهو يطالب بتحديد هيكل ثابت للأقسام العلمية بالجامعات الخاصة. بالإضافة إلى فتح باب التعيين بها، وإجراء مناقشة محايدة للموضوع، بعيدًا عن المصالح الخاصة. مع وضع ضوابط تكون من خلالها هذه المؤسسات غير هادفة للربح، بمنتهى الموضوعية والشفافية. إلى جانب وضع نظام يحافظ على تكافؤ الفرص على أساس المقدرة العلمية، لا المالية.
تقليل الإنفاق
ذهب “الحسيني” إلى أن الحكومة شرعت في خصخصة التعليم منذ 20 عاما عندما بدأت في إنشاء الأقسام الخاصة لتقليل الإنفاق والتمييز بين الدارسين وبعضهم على أساس مادي، ووسّعت من الطبقية التعليمية بهذه الخطوة، وطرح تساؤلات حول توسع الحكومة في إنشاء الجامعات الأهلية الجديدة:
هل هذه المؤسسات التعليمية مملوكة 100% للحكومة؟ أيها تم الإعلان عن الهيكل العلمي واللائحة الداخلية لها؟ هل الأقسام العلمية لها مجالس؟ ومَن يدير الجامعة، حقوق هيئة التدريس، حقوق الطلاب؟ وهل تم وضع لوائح داخلية منظمة للعمل بها؟
وأشار إلى أن الحديث يدور حاليا بإعلان شراكات مع جامعات أجنبية “مرموقة”. لكن لا توجد أي شراكة معلنة حتى الآن. كما لم يتم تعيين هيئة تدريس في الجامعات الأهلية الجديدة.
تنشأ الجامعات الأهلية على مشاركة مجموعة من المساهمين عن طريق التنازل، أو التبرع بمبالغ مالية، أو أملاك عينية، لصالح جهة اعتبارية لإنشاء جامعة أو عن طريق الاكتتاب العام. وهي لا تهدف إلى الربح بشكل أساسي، وإنما تستهدف تقديم خدمة تعليمية وبحثية بسعر مناسب لفئة من غير القادرين على استكمال مشوارهم التعليمي على نفقاتهم الخاصة. تمامًا كما أنشئت جامعة القاهرة سنة 1908 قبل ضمها بعد ثورة 1952 وإعلانها جامعة حكومية.
الدكتور إيمان يحيى، الأستاذ المتفرغ بكلية طب جامعة قناة السويس، يرى أن التعليم ليس تجارة حتى تقوم الدولة بإنشاء جامعات استثمارية تحت اسم “جامعات أهلية” وهي تهدف إلى الربح ومستواها التعليمي “متدنٍ للغاية”، حسب قوله.
وذكر “يحيى” أن الدستور المصري ينص على مجانية التعليم، مشيرا إلى أن أعتى الدول الرأسمالية لديها تعليم جامعي مجاني، مثل السويد، وفي أمريكا تتيح العديد من البرامج والمنح للمتفوقين والموهوبين استكمال الدراسة بالجامعة وتسهل منح قروض ميسرة بفوائد بسيطة جدا تسدد بعد التخرج، لأن الجامعات لا يمكن أن تكون هادفة للربح وتتخلى عن دورها الأساسي في البحث العلمي والتعليم.
وأكد أن هذه السياسات تؤدي في النهاية إلى تجريف القيادات والأساتذة من الجامعات الحكومية وانتدابهم في الخاصة بشكل يضر بالجهتين، الحكومية والأهلية.
سوق العمل وطرح الجامعات
هل التعليم الجامعي في مصر الآن يحتاج إلى مزيد من إنشاء الجامعات أم يحتاج إلى عملية ربط بين التخصصات العلمية واحتياجات سوق العمل وتطوير التعليم الصناعي والفني بما يخدم الاحتياجات الأساسية للسوق؟
هنا يشير الدكتور خالد سمير، الأستاذ بكلية طب جامعة عين شمس، إلى أن إصلاح التعليم يبدأ من دراسة سوق العمل وتحديد احتياجاته وتوجيه التخصصات العلمية على أساس هذه الاحتياجات، لا على أساس مجموع الثانوية العامة وكليات القمة. وهو يلفت إلى أن حجم الخريجين عشرة أضعاف قدرة سوق العمل، وغالبية التخصصات غير مطلوبة ولا يعمل أصحابها بشهاداتهم.
وكشف أن مرحلة التعليم الجامعي في كل العالم قائمة على البحث العلمي والتخصص. لذلك فإن 45% من قوة سوق العمل بهذه الدول من خريجي التعليم الأساسي المؤهلين والمدربين في كل التخصصات.
وقال “سمير” لـ”مصر 360″: “الدول لا تقوم على التعليم الجامعي فقط، لكن لا بد من عمل خريطة بالنواقص ودعمها، مع التعليم الفني والصناعي، للدفع بالإنتاج وتحديد المستهدف”.
وأكد الدكتور هاني الحسيني، أستاذ الرياضيات بكلية العلوم جامعة القاهرة، أن مصر تحتاج إلى إرادة سياسية وقناعة بأن العلم عملية استراتيجية لا بد من فتح مناقشة واسعة حولها. على أن تشمل هذه المناقشات النقابات والهيئات والمؤسسات المعنية. وتطرح خلالها أفكار ورؤى حول الاستفادة من تجارب دول أخرى في جودة التعليم. بما يخدم رفع مستوى التعليم الجامعي.
يقول الدكتور حسام بدراوي، مدير مؤسسة النيل بدراوي للتنمية، إنه من الضروري ضم وزارتي التعليم العالي، والتربية والتعليم، ودمجهما لتحقيق تكامل في التخصصات التي يحتاج إليها سوق العمل.
ويوضح: “التعليم الفني هو ركيزة التصنيع، وكل التقارير التنافسية عن مصر سيئة.. لأن التعليم الفني لا يؤهل العامل الفني للعمل.. في حين أن منح درجات لترخيص المهن يضبط الحياة ويضع كل واحد في إطاره، فالتعليم الفني نظام إدارة، وليس جراجا للفاشلين في التعليم العام”.