تثبت تداعيات الأوبئة الاقتصادية بأن التاريخ يعيد نفسه في الأحداث والمسببات لكن يظل الفارق في كيفة التعاطي مع الأزمة في جميع مراحلها وإستراتيجيات الدول وخطة تحركاتها في منع وصولها لجميع القطاعات وتقليص تأثيراتها على معدلات النمو والتشغيل ومستويات المعيشة.
تمثل الإشكالية الأكبر في تداعيات الأوبئة في تغييرها في طبيعة الأنظمة الاقتصادية بالكامل ونقل بعضها من أقصى اليمين إلى اليسار وفقا لنجاح أي نموذج للمواجهة، بما يجعل الكثيرون يتوقعون حاليا اتجاه قبلة العالم نحو الاقتصاد الموجه الذي تتزايد في تدخلات الدولة في النشاط الاقتصادي وتقليص مبدأ الاقتصاد الحر الكامل.
في أزمة 1929، اتجهت القطاعات الحيوية في أقوى الاقتصاديات التي تنتج مبدأ الاقتصاد الرأسمالي نحو الاتجاه الاشتراكي، كشركة الفحم البريطانية والمترو الفرنسية التي تم تأميميها، كما تبنت الدولتين قرارات بتقديم دعم مباشر للحرفيين والمزارعين والمستثمرين ومساعدتهم في الإدارة ويبدو أن الأمر سيتكرر مجددًا في الاقتصاد العالمي حاليًا.
يحبس الكثير من الاقتصاديين أنفاسهم خوفًا من تكرار نموذج 1929 بالكامل فيما يتعلق بتنامي التطرف الاقتصادي، فحينها وصلت أنظمة دكتاتورية إلى السلطة وتم وقف حركة التجارة العالمية وتقليص التبادل التجاري وانتهجت الكثير من الدول سياسة الاكتفاء الذاتي ومنع التصدير للخارج.
تمثل الخيارات المفتوحة أمام الدول حاليا بتحفيز الاقتصاد عبر زيادة الانفاق الحكومي بنسبة 10% من الناتج المحلي الإجمالي، لكن سلوك غير كاف لوحده، فمثلما يحمل منافع في منع تفشي البطالة والحفاظ على النمو الاقتصادي لكنه سيتسبب في رفع الديون الحكومية العالم المقبل بنسبة 20%.
وطالب الدكتور محمود محيي الدين، المبعوث الخاص للأمم المتحدة لأجندة التمويل لعام 2030، في مؤتمر عبر الفيديو كونفرانس أخيرًا، بإعطاء الأولوية لمنع الركود في الاقتصاد العالمي، بسرعة تحفيز قطاعات الانتاج والتوزيع ومراعاة أن إجراءات الأزمة المالية السابقة في 2008، غير مناسبة لنقلها حرفيًا لعلاج الأزمة الراهنة.
ويقول محيي الدين إن الدول عليها إعادة ترتيب أولويات الإنفاق، في ظل انخفاض أسعار الفائدة، بما يحقق وفرًا في خدمة الدين، يمكن إعادة توجيهه، ويجب مراجعة الموازنات العامة، والخطط الاستثمارية، إذا لم يتم إدراك ذلك الأمر قبل إقرارها.
ويرى الخبراء أن الحلول قصير الأجل للحكومات تقوم على الحد من الخسائر الناجمة عن الركود الاقتصاد العالمي وضعف الطلب الشرائي لمنع حدوث أزمات مالية هيكلية للمؤسسات الصناعية والتجارية وألا تتعرض للإفلاس ومعها جيوش من العاملين، فدعمها ماليًا أوفر من السماخ بسقوط وإعادة تأسيس غيرها.
لكن يبدو أن أفضل الحلول مواجهة تداعيات كورونا على الاقتصاد العالمي هي التشريح الاقتصادي بمنعنى التعامل مع كل قطاع على حدى وحل مشكلاته أو إعادة استثمار أصوله غير المستغلة، ليشبه الأمر بتفكيك الماكينة المتوقفة عن العمل وحل مشاكل أجزائها وإعادة تجميعها في النهاية.
سياحة مبتكرة
بالنسبة لقطاع السياحة، تقول كارولين فرويند، الرئيسة السابقة للخبراء الاقتصاديين بمكتب منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالبنك الدولي، في مقال باللغة الإنجليزية على موقع البنك الدولي، إن الوجهات السياحية في العالم عليها ابتكار سبلٍ جديدة لتحقيق بعض الإيرادات في ظل الإحجام عن السفر.
تبدو تجربة مدينة مانشستر البريطانية خير مثال على ذلك بعدما أطلقت “برنامج أنا أحب مانشستر” و”استمتع في منزلك”، لتقديم جولات الافتراضية وشرح صوتي للوجهات السياحية، ومحاضرات عبر الإنترنت حول كيفية الطهي في مطاعمهاوفنادقهاالشهيرة وخدمات المُنتجعات الصحية التي تضمها، وكذلك أستونيا التي أطلقت حملة ترويجية على “تويتر”بعنوان “زُر إستونيا لاحقاً” بدلا من “زر إستونيا” حاليًا.
ووضعت كارولين توصيات بتقليل خسائر الإيرادات عبر إلغاء رسوم تغيير موعد الحجز، ليحث السائحين على تأجيل رحلاتهم بدلاً من إلغائها، وإعادة توزيع العاملين لديها أو أصولها السياحية فيما يتعلق بالصحة العامة كاستغلال فريق الضيافة الجوية في فرص فحص الزائرين بأجهزة الحرارة، أو استخدام الفنادق كمنشآت للرعاية الصحية أو الحجر الصحي.
التصنيع لمنع تدهور التصنيع
يبدو “التصنيع لمنع تدهور التصنيع” كفزورة تحتاج إلى حل لكنها الحل الأساسي لمشكلة أساسية تواجه صناعة الأغذية العالمية حاليًا، فإغلاق المطاعم والفنادق وتخوف البشر من الغد وسعيهم للاكتناز السلع طويلة العمر، سبب مشكلتين أزمة وفرة في السلع سريعة التلف في أماكن من العالم وجوع في أماكن أخرى ويمثل التصنيع الحل الوحيد.
تمثل صناعة الألبان عالميا مثال حي على ذلك، فمنتجوها في أمريكا يهدرون كل يوم 14 مليون لتر بسبب تعطل طرق الإمداد، ويتكرر الأمر في بريطانيا التي يتم فيها إهدار حوالي خمسة ملايين لتر عرضة للتلف أسبوعيًا والحل المثالي يتمثل في مصانع سريعة لتجفيف الألبان ما يمنحها عمرًا إضافيا يصل إلى 9 أشهر.
يتكرر الأمر ذاته مع محاصيل الخضرات الطازجة والورود التي تتحول بالصناعة إلى سلع يمكن تخزينها، وربما تمثل صناعة الدواجن مثال حي على ذلك فالمزارع الأوروبية تضطر حاليا إلى تدمير عشرات الآلاف من البيض المخصب قبل تحويلها إلى أفراخ صغيرة لعدم القدرة على بيعها عالميًا.
تغيير النشاط
تكشف دراسة لشركة “باين آند كومباني” أن المبيعات العالمية للسلع الشخصية الفاخرة التي تشمل الملابس والمجوهرات والساعات ومنتجات التجميل والإكسسوارات ربما تتراجع بنسبة تتراوح بين 50 إلى 60 بالمائة حتى نهاية يونيو المقبل، ما يهدد بإغلاق عشرات الملايين من المحال التجارية والمنشآت.
ولم تستطع الكثير من المصانع عالميًا مواكبة الازمة بصورة سريعة خاصة أن لديها ركود ومخزون كبير للبضائع يعود لمرحلة ماقبل كورونا لم يتم تصريفه قبل أن تعيد هيكلة نفسها لاستغلال الظروف، وتحويل نشاطها من الملابس إلى إنتاج الكمامات القطنية المعالجة وملابس الوقاية من الأخطار الطبية والتي عززت من المبيعات.
ويعتبر خبراء اقتصاد أن كورونا يمثل فرصة لإعادة النظر في إستراتيجيات الدول لاقتصادية واستثمار مواردها الداخلية في التصنيع وإعادة توطين الكتلة البشرية خاصة في الريف الذي هجره أصحابه بحثا عن العمل في المدن الكبرى العيش على أطرافها في أحياء عشوائية عبر دعم مستلزمات الزراعة ما يزيد من عائدها ويمنح العاملين فيها حياة جيدة بعائد محترم.
ويقول الخبير الاقتصادي رشاد عبده إن الدول المستوردة مثل مصر يمكنها الاستفادة من حالة الهدوء الاضطرارى في استيراد كثير من السلع في البدء لعملية تصنيعها محليا، وتقليص الاستيراد الذي يمثل ضغطا مستمرا على الاحتياطيات النقدية في الدول العربية التي تعتمد على الاستيراد من الخارج .
حماية مجتمعية
تؤكد جميع المؤسسات المالية الدولية خاصة صندوق النقد والبنك الدولي على ضرورة تبادل الخبرات بين الدول في المواجهة ومن بينها سياسة تخفيف الأعباء الضريبية وتأجيل أو تخفيض ضريبة الدخل والعقارات والقيمة المضافة، مثلما فعلت نيوزيلندا التي أعلنت عن إعفاءات ضريبية واسعة النطاق، وميانمار التي أصدرت قراراً بالإعفاء من ضريبة الدخل المسبقة على الصادرات بنسبة 2%.
تقول سييلا بازارباسيولو، نائبة رئيس البنك الدولي، إن دعم الاقتصادالعالمي يجب أن يتواكب مع الحماية المجتمعية بزيادة الإنفاق على الصحة لمنع تفشي العدوى، وتقديم تحويلات نقدية وخدمات الطبية المجانية للفئات الأشد احتياجا يمكن أن تساعد في تطويق تفشي المرض والحد من أضراره المالية.
وتشدد سييلا على ضرورة مساندة القطاع الخاص وأن تركز البنوك المركزية في الدول النامية على التحرك السربع لمواجهة اضطراب حركة الأسواق المالية، عبر خفض أسعار الفائدة وضخ السيولة لاستعادة الاستقرار المالي وتعزيز النمو، مع فتح المجال بصورة أوسع للبنوكالتجاريةبزيادةالتمويلالتجاري،وتقديمرأسالمالالعامللمنشآتالأعمال.