أمضى الأربعيني سعيد الجعفري 10 سنوات في القاهرة كسائق ميكروباص على الطريق الدائري، حتى بات له صديقًا يكفيه شر السؤال. فهل يبقى حال هذه الصداقة على ما هو عليه بعد شهر من الآن؟
في 4 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أعلن الفريق كامل الوزير، وزير النقل، عن بدء التجهيز لتشغيل الأتوبيس الترددي (مطار القاهرة- محطة مترو عدلي منصور). وذلك خلال ترأسه أعمال الجمعية العمومية العادية لشركة الاتحاد العربي للنقل البري والسياحة «السوبر جيت». حينها كشف الوزير عن موعد منع سير الميكروباص على الطريق الدائري. فقال إنه سيتم منع الميكروباص من السير على الطريق الدائري فى النصف الأول من 2022، وتحديدًا مطلع يناير/كانون الثاني المقبل. معلنًا أنه لن يسمح لأي ميكروباص بالسير على الدائري عقب انتهاء تطويره وتحديثه. وأنه سيتم تخصيص أتوبيسات (BRT) لتكون بديلة للميكروباص على الدائري. حيث تقوم الوزارة حاليًا بإنشاء حارات ومسارات ومحطات الأتوبيسات الترددية.
«شعب الدائري» يخشى «الترددي»
ينحدر «الجعفري» من محافظة قنا بأقصى صعيد مصر. له ولد وبنتان. وقد انتقل للعيش بأسرته في حي فيصل بمحافظة الجيزة خلال عام ثورة 25 يناير. وهو منذ ذلك التاريخ لا يسلك إلا «الدائري». حيث يقطع الكيلومترات يوميًا، حاشد في سيارته الوافدين من سلالم «الدائري»؛ أحد أهم المحاور المرورية التي نفذتها الدولة لربط محافظات القاهرة الكبرى.
«سمعنا عن الأتوبيس الترددي وماعرفش مستنينا إيه في السنة الجديدة».. يقول «الجعفري»، وهو ينفث دخان سيجارة كليوباترا بغضب، بعد أن غادر آخر الركاب سيارته أعلى موقف المريوطية.
منذ إعلان وزارة النقل عن الاستعانة بأتوبيسات كهربائية ذكية تسمى «أتوبيسات ترددية» للسير على الطريق الدائري، بداية من 2022، كبديل للميكروباصات، ولا يتوقف الجدل عن شكل الطريق الذي يمر بأكبر 3 محافظات من حيث كثافة السكان (القاهرة – الجيزة – القليوبية). وهو جدل متعلق أولاً بأسعار تذاكر «الترددي» ومدى مناسبتها للمسافة، وآخر له أبعاد اجتماعية بمصير آلاف الميكروباصات التي ستغادر «الدائري» لتستقر أدناه.
تكشفت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن إجمالي عدد المركبات المرخصة بمحافظات الجمهورية حتى نهاية ديسمبر عام 2020 يصل إلى 10.8 مليـون مركبة. وذلك مقابل 11.5 مليون مركبة في نهاية ديسمبر عام 2019، وبنسبة تراجع بلغت 6.1%. بينما تأتي محافظة القاهرة في الصدارة، بعدد مركبات 2.4 مليون مركبة، وبنسبة 22% من إجمالي التراخيص الممنوحة للمركبات في تلك الفترة. وتليها محافظة الجيزة بعدد 1.2 مليون مركبة بنسبة 10.9%.
مزايا الأتوبيس الترددي
تروج الحكومة للأتوبيس الجديد الذي يعمل بالطاقة النظيفة، كهربائية أو غاز طبيعي، بأنه سيحد من التلوث، وسيرشد الطاقة، ويقلل الحوادث، فضلاً عن تحسين الصحة العامة والارتقاء بالأداء الاقتصادي. فهذه الأتوبيسات تتميز بانخفاض كلفتها الاقتصادية مقارنة بمترو الأنفاق. إذ نجد أن تنفيذ 7 كيلومترات من المترو تعادل تنفيذ 425 كم من مسار الأتوبيس الترددي السريع.
في إطار خطة تطوير الطريق الدائري لـ«الترددي الجديد» تمت إزالة 2000 منزل، ما كلف الحكومة نحو 4 مليارات جنيه تعويضات للأهالي. وستصل توسعة الطريق إلى 7 حارات باستثناء منطقة المنيب 8 حارات بكل اتجاه بدلا من 4.
من المقرر أن يتسع هذا الأتوبيس لـ170 راكًبا كما يمكنه نقل نحو 4 آلاف راكب في الساعة على «الدائري». وهذا الرقم طبعًا أغرى وزارة النقل للتضحية بمشروعات أخرى أقل جدوى كالخط الخامس لمترو الأنفاق «مدينة نصر-الساحل». فالتكلفة التقديرية كانت 62.4 مليار جنيه لهذا المترو. في حين أنه لن ينقل أكثر من 80 ألف راكب في الساعة في الاتجاه الواحد.
ومع ذلك ورغم المزايا العديدة للأتوبيس الترددي، فإنه يواجه إشكاليات؛ أهمها للمواطن العادي ما سيدفعه ليصل إلى وجهته في ظل الاستغناء عن الميكروباص.
إلى الآن، لم يتم تحديد سعر تذكرة «الترددي». ويتوقع كثيرون ألا يقل السعر عن 10 جنيهات كأقل سعر لمثيله مما تترواح تذاكره بين 10 و15 جنيهًا.
لا إجابات من المسؤولين
حاول «مصر 360» التواصل مع أكثر من مسؤول بالنقل البري لاستبيان قائمة أسعار الأتوبيس الجديد والتصورات النهائية لخطوط سير الميكروباص. لكنهم رفضوا الحديث.
«وليد إبراهيم» يسكن بمدينة بدر بشرق القاهرة، ويعتمد على الميكروباص للانتقال إلى عمله بوسط القاهرة. يرى أن زيادة سعر «الترددي» عن 10 جنيهات تجعله مكلفًا، حتى لو كان آمنًا ونظيفًا.
نقاشات المواطنين عن سعر التذكرة اتجهت إلى «غياب العدالة عن إدارة المرفق» و«الخوف من فرض تعريفة موحدة لجميع المحطات». ما دفع البعض للمطالبة بتطبيق نظام المحطات.
«أحمد سامي» موظف يسكن بحدائق أكتوبر، يستقل أكثر من مواصلة باتجاه عمله في حي الدقي عبر «الدائري». يدفع «سامي» في رحلاته إلى العمل 10 جنيهات؛ بواقع 4 جنيهات لواحدة و3 للأخرى. لكن باعتماده على «الترددي» سيدفع 10 جنيهات أخرى لأن الأتوبيس ملتزم بخط سير محدد.
وجه آخر للحكاية يطرحه «إسماعيل شندي» يتمثل في أن خطة النقل الذكي سترحم الركاب من استغلال سائقي الميكروباص ووقوفهم العشوائي. بالإضافة إلى شكاوى المواطنين الدائمة من سلوك السائقين. سواء مسجل الصوت الزاعق أو المشاجرات اليومية.
صراع التذكرة والمسافة
ميدانيًا، يبدو الوضع مشتعلاً بين سائقي السرفيس. فالجنوبي سعيد الجعفري لا يفكر إلا في قوت أسرته حال تغيير خط سيره والمنافسة بينه وبين سائقي الخطوط الأساسية. هذا بخلاف الوقت المهدر في الرحلة الواحدة. إذ أن رحلته من موقف البحوث إلى فيصل لم تكن تستغرق أكثر من 25 دقيقة لكن الآن سيستغرق الأمر ضعف هذه المدة.
تقول التقديرات الرسمية إن الأتوبيس الترددي وخطة تطوير الدائري الجديدة سيحظران نحو 213 ألف ميكروباص من السير على الدائري. وسيتم السماح لها بالوقوف أسفل المنازل الجديدة لإعادة نقل الركاب من المحطات الرئيسية داخل المدن مع تغيير خطوط سيرها.
«عمر الكابتن» سائق على سرفيس دائري قليوب يصف الأتوبيس الترددي بـ«الكابوس وخراب البيوت» لمن يعمل على «الدائري». يقول إن الأجرة التي يحصلها من رحلة واحدة على «الدائري» لا تعوضها أي أجرة داخل خطوط المدن.
اقتسام «الدائري»
«الكابتن» -وهو لقبه في عالم سرفيس قليوب- لا يبدو مقتنعًا برواية الحكومة أن القرار هدفه القضاء على عشوائية المواقف وتقليل الحوداث. وهنا يقترح أن تنظم الحكومة عمل المواقف واقتسام الطريق بين الأتوبيسات الترددية وبين الميكروباص.
هذا الطرح يتبناه أيضًا مجدي صلاح أستاذ هندسة الطرق والمرور بجامعة القاهرة. فالرجل لا يشجع إلغاء الميكروباص تمامًا على الأقل حاليًا. لقد أكد أننا فقد نحتاج إلى تنظيم هذه الوسيلة وليس إلغائها.
يقارن «صلاح» بين الميكروباص والتوكتوك كنموذج للنقل الأهلي. يقول إن الأخير وسيلة عشوائية يقودها مراهقون يستغلونها في ارتكاب الجرائم. أما الميكروباص مشكلته في عدم انتظام الخدمة والعشوائية في المواقف.
لا يتعاطى عادل ترك الرئيس السابق لمشروعات الطرق والكباري، والذي بدأ في عهده الاعتماد على شبكة النقل الذكي، مع ما سماه «الأحكام المسبقة على الأتوبيس الترددي». يقول إن هذا المشروع يضمن للمواطنين حركة آمنة ونظيفة ومحترمة بسعر متوازن بدلاً من ميكروباصات عشوائية. ويضيف في اتصال هاتفي مع «مصر 360»: «يهمنا حل تكدس المكروباصات والعشوائية على الدائري وتنظيم صعود المواطنين».
الانضباط وتقليل التكلفة أهم
لا يكترث «ترك» بالأصوات الرافضة لخدمة الأتوبيس الترددي بدعوى قطع أرزاق كثيرين. يقول إن الهدف إنهاء زحام الدائري وتقليل التكلفة التي تعانيها هيئة الطرق والكباري في مصر وذلك “بالبحث عن حلول ذكية وأكثر انضباطية كهذه”.
ووفق دراسة أعدها البنك الدولي في 2014 قُدرت كلفة زحام القاهرة الكبرى بما يعادل 3.6% من الناتج المحلي الإجمالي. وتمثل هذه النسبة نحو 30 مليار جنيه.
وقد وفرت شبكة الطرق الجديدة التي نفذتها الدولة نحو 13.4 مليار جنيه سنويًا وتمثل 44% من فاتورة خسائر حوادث الطرق كل سنة. ويجب هنا أن نشير إلى دراسة حديثة للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء تقول إن خسائر الطرق في مصر من الحوادث سنويًا نحو 30 مليار جنيه.
وبحسب وزارة التخطيط فقد أدى زيادة الإنفاق على الطرق والكباري في مصر منذ 2018 لخفض وفيات الطرق بنحو 5% في 18/2019 وبنسبة 44% في 19/2020.
كلفة الزحام في مصر تقل تدريجيًا وسيكون الطريق الدائري حلقة جديدة في هذا الإطار. هذا ما يقتنع به المسؤول السابق بوزارة النقل عادل ترك والذي أكد أن أي تطوير في هذه الشبكة يستهدف 4 عناصر: توفير الطاقة، توفير التلوث، توفير الوقت، والراحة النفسية. ويقدر ما تحقق منها بنسبة 60%، وبعد اكتمال “الدائري” سترتفع هذه النسبة إلى 90%.
بالنظر إلى الجانبين المختلفين ورغم اقتراب الأتوبيس الترددي من دخول ملعب «الدائري» فعليًا، لا يزال الأمر يحتاج إلى مزيد من الدراسة للمنظومة الاقتصادية والاجتماعية بشكل متكامل.