كشفت أزمة وزير الإعلام اللبناني جورج قرداحي الأخيرة مع دول الخليج، عن جملة من الحقائق التي كانت في السابق محض تحليلات، إلى أن وُضِعت على الطاولة أمام الجميع. حقائق تبدو قاسية للغاية على اللبنانيين، ومستقبلهم، وسيادة بلادهم، أمام آخرين ينهشون الجسد المتداعي سياسيًا.
طبيعة المشهد اللبناني الذي تتقاذفه أجندات خارجية في مصارعة على النفوذ بين دول إقليمية وغربية، دخل مرحلة أكثر علانية فيما يحلو للبعض تسميتها بـ”التبعية المطلقة”، على خلفية طلب فرنسي باستقالة قرداحي الذي لم يجد فرصة للرفض. في المقابل أظهرت دول الخليج سطوتها على الجارة الضعيفة اقتصاديًا وسياسيًا، في مشهد لم يخل من الإذلال المقزز، لأن أحد الذين تربوا على موائدهم قذف في وجههم حقيقة أن حرب اليمن “عبثية”، بينما تنفخ إيران لا تزال عبر أذرعها لتزكية كل مسببات الانهيار المؤسساتي في لبنان.
وبينما كان الجميع يحدِّق في تبعات الاستقالة وسياقها السياسي والاجتماعي، إذا بأحدٍ ما أراد أن يرمي قنبلة صوتية على المشهد، مفادها أن قرداحي حصل على 2.2 مليون دولار من خزينة الدولة كتعويض مادي ومعنوي عن الضرر الذي لحق به، عقب استقالته من منصبه كوزير للإعلام في حكومة نجيب ميقاتي بلبنان.
سواء كان قرداحي هو من ربح المليون أم غيره، رغم الصمت الرسمي إزاء التسريب، فإن ما حدث يعني أن لبنان لا يزال كقطعة زهر يلقيها اللاعبون على الطاولة، وهو ما يجعل الوصف الذي كان سببًا في شيطنة المشهد ألصق بلبنان كما هو أصدق في اليمن، ما يعني أننا أمام مشهدين ينافسان على العبثية.
أبعاد مشهد ما قبل الاستقالة
بداية الأزمة.. عبثية حرب اليمن
عودةٌ على بدء، فإن تصريحات لقرداحي قبل توليه منصبه بشهر، جرى تداولها على نطاق واسع بعد استلام مهامه. كان ينتقد فيها التدخل العسكري بقيادة السعودية في اليمن، ويصف الحرب اليمنية بالعبثية، وهي التصريحات التي أثارت غضب دول الخليج، ما دفع السعودية والكويت والبحرين والإمارات إلى استدعاء سفرائها من بيروت ومطالبة سفراء لبنان لديهم بالمغادرة.
وعندما احتدمت الأزمة التي تمسك الخليجيون فيها باستقالة قرداحي من منصبه، رفض الأخير حتى مجرد الاعتذار. فضلاً عن الاستقالة، وقال إنها آراء شخصية، وأنه لم يخطئ في حق أحد. ولم يتهجم على أحد. توالت بعد ذلك محاولات من الداخل اللبناني لإقناع وزير الإعلام بالاستقالة. لكنه تمسك وقال إن بلاده لا تتلقى إملاءات من الخارج، وأنها دولة ذات سيادة.
انتقلت الأزمة بين لبنان والخليج إلى مستوى آخر من التعقيد، وهي غير مرتبطة فقط باستقالة وزير الإعلام. بقدر معالجة أطر عديدة في علاقة البلد المنهارة اقتصادياً مع الدول النفطية الغنية. وهنا كان الحديث يدور حول تجميد مساعدات، بل والتضييق على لبنانيين يعملون في الخليج.
أبعد من قرداحي.. اشتباك سعودي إيراني
مظاهر الخلاف خلال الأسابيع الماضية، أثبتت أن الأزمة أبعد من رأي جورج قرداحي حول الحرب في اليمن، باعتبارها تعكس اشتباكًا سعوديًا إيرانيًا. يدفع اللبنانيون ثمنه. وتتابعت على مدار الأشهر الأخيرة مظاهره. بدءًا بمنع الرياض استيراد الخضر والفواكه من لبنان بسبب تهريب المخدرات، أو تجميد المنح والودائع لدى بنوك لبنان. فضلاً عن التخلي عن حكومة ميقاتي التي يبدو أن أغلب تركيبتها ليست على هوى الخليجيين، وإن كانت تصادف هوىً لدى الفرنسيين أصحاب الكلمة العليا.
ومنذ تعاظم دور حزب الله في لبنان تراجع بالتبعية دعم السعودية الحليفة التقليدية للبنان. ومعها بات لبنان ساحة لمبارزة بشدّ الحبل بين الرياض وطهران. ثم جاءت تصريحات مسؤولين لبنانيين محسوبين أو قريبين من الحزب لتصنع حقيقة أن لبنان ينضم إلى العراق واليمن وسوريا والبحرين. كساحات المواجهة بين الدولتين الإقليميتين ذواتا البعد الديني.
الحوار الاستراتيجي الجاري بين السعودية وإيران، بالتزامن مع عمليات شد وجذب في لبنان. يرشح للقول إن الرياض تضغط في لبنان لتحجيم دور حزب الله بهدف موازنة التنازلات في ملفات أخرى، لاسيما باليمن. وهنا ينطبق المثل القائل إن العشب هو من يموت عندما يتقاتل فيلان، ولبنان يبدو العشب الذي يستضيف جولات الحروب بالوكالة.
الاستثمار الفرنسي.. هل حقًا توجد مبادرة؟
بينما يتضح من المشهد أن سلطوية خليجية تمعن في إضعاف الدولة اللبنانية، فإن الدور الفرنسي يبقى البوابة التي تقرر من يعبر ومن يعود أدراجه. وهي بذلك علاقة زبائنية تديرها باريس مع الخليج، ذلك أن المحاولات الخليجية طيلة الأسابيع الماضية. بكل ضغوطاتها وابتزازها لم تساوِ طلبًا عبر الهاتف من ماكرون لنجيب ميقاتي باستقالة قرداحي، قبل أن تهبط طائرته في الرياض.
المثير للدهشة أن الصيغة الفرنسية التي جرى نقلها لوسائل الإعلام قاسية على المتابع اللبناني. فبينما يقرأ البعض توجيه ماكرون باستقالة الوزير “قبل أن يصل الرياض” بأنها محاولة لتسهيل مهمة الرئيس الفرنسي. يتضح لدى المتابعين أن ما جرى تصديره على أنها “مبادرة” هي في الحقيقة شيء من الخيال. فالمبادرة كانت تعني في المقام الأول المفاوضات حول موقف متأزم بشأن إملاء دولة خليجية رغبتها على دولة جارة لإقالة وزير. وبما أن الأخير غادر منصبه فأين المبادرة؟ كما لم تقلْ فرنسا ما طبيعة المبادرة. وماذا تستهدف، وعلى ماذا تتفاوض؟ ثم جاء بيان مشترك يحمل مفردات مركبة تستهلك في المحافل الدولية، كحفظ الأمن ومن التدخل في شؤون الغير.
قرداحي استقال، وماكرون باع 80 طائرة رافال و12 مروحية للإمارات، في صفقة تصل قيمتها إلى 17 مليار يورو، كما وقّع عقودًا تجارية مع السعودية
الواقع أن قرداحي استقال، وماكرون باع 80 طائرة رافال و12 مروحية للإمارات، في صفقة تصل قيمتها إلى 17 مليار يورو، كما وقّع عقودًا تجارية مع السعودية، فقد أبرمت شركة “إيرباص” صفقة لبيع 26 مروحية مدنية إلى شركة سعودية، بينما وقعت شركة “فيوليا” الفرنسية عقدا لإدارة خدمات مياه الشرب في الرياض.
علاقة زبائنية
من الاستهزاء اعتبار أن مجرد استقالة جورج قرداحي تبرر هذه العملية الزبائنية، باعتبار أن ماكرون تسلّم ثمن الموقف، لكن أيضًا لم يمكن اجتزاء الموقف أو إبعاده عن الاستثمار الفرنسي في الحالة اللبانية، والتي بطبيعة الحال ترتبط بملفات أخرى، من بينها على سبيل المثال، اعتبر ماكرون أنّ مسألة معالجة السلاح النووي الإيراني لا يمكن أن تتم من دون إشراك “أصدقاء فرنسا” في المباحثات النووية في إشارة إلى ضرورة أن تشمل المباحثات دول مجلس التعاون الخليجي وفي مقدّمها المملكة العربية السعودية، وهو استعامل خليجي جديد لدولة أوروبية في مواجهة إيران.
إشارات ورسائل في الاستقالة
استقال قرداحي، بعدما وجد أن استمراره “نوعٌ من العبث”، ولذلك قرر التخلي عن منصبه “لمصلحة لبنان”. تاركًا بجوار موقفه إشارات ورسائل جمّة عن مجمل المشهد اللبناني وعلاقته بالخليجيين وفرنسا، وحديث السيادة اللبانية، التي نُحرت عدة مرات.
السيادة كما يقدِّمها قرداحي
“رفضت الاستقالة لأقول أولاً إن لبنان لا يستحق هذه المعاملة، وثانيًا لأقول إن في لبنان شعبًا له كرامته واستقلاله وعزة نفسه وسيادته.. ثم يختم حديثه أمام وسائل الإعلام بقوله إن قَبِل الاستقالة بناء على طلب من الرئيس الفرنسي ماكرون.
https://twitter.com/be4after/status/1467991743316463616?s=20
شكّل موقف قرداحي من السيادة أقصى درجات التناقض، فقبلها يقول أمام الكاميرات: “لا يجوز أن نظل في لبنان عرضة للابتزاز من أي أحد لا من دول ولا من أفراد ولا سفارات، وهم يملون علينا من يجب أن يبقى في الحكومة ومن يجب ألا يبقى، ألسنا دولة ذات سيادة؟”. ثم عندما تلقى توجيهًا فرنسيًا قال: “الفرنسيون يرغبون في أن تكون هناك استقالة لي تسبق زيارة ماكرون إلى الرياض وتساعد ربما على فتح حوار مع المسؤولين السعوديين حول لبنان”. أيهما يُصنف في خانة السيادة إذن؟!
التناقض الآخر الذي جاء في حديث قرداحي قوله إنه قرر التخلي عن موقعه الوزاري، بهدف حماية اللبنانيين الذين يتعرضون لمضايقات في دول الخليج، وسريعًا استحضرت اللجان الإلكترونية قوله خلال مرحلة التمنع عن الاستقالة إنه يعلم أن اللبنانيين في الخليج لم يتأثروا سلبًا بالأزمة التي أحدثها.
https://www.youtube.com/watch?v=Se053pWx-bM
وعندما كان يتمسك بموقفه الرافض للاستقالة كان قرداحي يتذرع بأنّ استقالته لا يمكن أن تكون “هبة”، فإذا كانت هناك دلائل بأن استقالته ستؤدي إلى إعادة العلاقات مع دول الخليج فسيقدم عليها فورًا، وفي لقاء آخر قال أمام وسائل الإعلام إن أحدًا لم يتحدث إلى اللبنانيين عن الضمانات متابعًا: “إذا بتيجي الضمانات اللي قولتها فأستقيل”. لكن الواقع يقول إن الخليجيين أو غيرهم لم يقدموا أية ضمانات.
هل استقالة قرداحي تعني شيئًا لدى السعوديين؟
هذا هو ثاني وزير لبناني تنجح السعودية والخليج عموما في إعفائه من منصبه في غضون شهور، فقد دُفع وزير الخارجية والمغتربين في حكومة تصريف الأعمال اللبنانية شربل وهبة في مايو الماضي للطلب من رئيس الجمهورية ميشال عون إعفاءه من منصبه. والدفع للاستقالة.
استقالة شربل كانت أيضًا بسبب ذلة لسان خلال لقاء تليفزيوني أغضبت الخليجيين، ما يعني أن على المسؤولين اللبنانيين إذا ما أرادوا الاستمرار في مناصبهم تحاشي اسم الخليج في أحاديثهم. أما الإشارة غير الأبرز تتمثل في أن الخليج يقيل ويبقي على من يريد في من يحكم اللبنانيين، أو كما قال جورج قرداحي قبل أن يستقبل.
من الناحية العملية فإن، الانتصار الوحيد الذي حققته السعودية طوال سنوات الحرب في اليمن كان الانتصار على قرداحي. باعتبار أن الرياض استماتت لتحقيق “انتصار وهمي” لا فائدة من ورائه، فالمواجهة مع الإيرانيين لا تزال قائمة. لذلك يكون من الحكمة التوقف عن تضخيم أهمية الحدث بالنظر إلى تأثيراته الإيجابية، سواء ما يتعلق بـقرداحي نفسه الذي لا يمثل ثقلاً في المشهد برمته، أو بقائه الذي لم يكن مفيدًا على الإطلاق إلا برمزية رفض الإملاءات الخارجية.
لكل ما سبق، يمكن قراءة البيان المشترك بعد لقاء ماكرون والأمير محمد بن سلمان على أنه، تجديد لدفتر شروط موضوع بحق لبنان منذ سنوات، فقد نجح ولي العهد السعودي في جرّ الرئيس الفرنسي إليه، فبدلاً من أن يعدِّل الأخير الموقف السعودي من لبنان حدث العكس، ربما للأسباب التي ذكرناها آنفا والمتعلقة بالاستثمار في المواقف والنفوذ.
استهزاء خليجي
اللافت في التعاطي الخليجي مع الاستقالة، حجم الاستهزاء الذي صدر عن دول الخليج سواء على مستوى الإعلام شبه الرسمي أو عبر منصات التواصل الاجتماعي، والتي حملت قدرًا من التقزيم للدولة اللبنانية، بقدر أبعد من مجرد خصومة مع وزير الإعلام.
https://twitter.com/abdullah113438/status/1466742549989756928?s=20
واحدة من أكثر المواقف وضوحًا جاء من خلال إذاعة قناة “العربية” السعودية خبر استقالة قرداحي باستهزاء، عندما قال مقدم النشرة: “في خبر عاجل غير مهم للغاية.. وزير الإعلام اللبناني يقدم استقالة من الحكومة.
أيضَا قناة “سكاي نيوز” الإماراتية قدّم حلقة كاملة ساخرة من الاستقالة، بدأتها بحديث قرداحي في مؤتمر الاستقالة وألحقتها بخطاب الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر عندما قرر التنحي عن منصبه، ثم تدخل مقدم البرنامج بقوله: قرداحي يستقيل ويعود لصفوف الجماهير، وبعدما استفاض في جرعة السخرية من الوزير المستقيل ومواقفه.
رسالة قرداحي لمحمد بن سلمان.. استمالة واستغاثة
انتهت الجولة، قرداحي استقال وماكرون عاد إلى الإليزيه بعقود مليارية، وعاد مقدم البرامج الشهير إلى الإعلام مرة أخرى، وفي أول ظهور أطلق رسالة إلى ولي العهد السعودي، يمكن اعتبارها استمالة أو استغاثة، حين طلب من الأمير محمد بن سلمان بأن يلتفت إلى لبنان عملاً بشمائل والده.
رسالة قرداحي التي لم تخلو من تعظيم وتمجيد في ولي العهد السعودي، قال فيها: “أقول لسمو الأمير محمد بن سلمان إنه لما تولى ولاية العهد أنا شخصيا وكثير من الناس استبشرنا كثيرا خاصة أنه بدأ عملية إصلاح وعملية تغيير في المملكة العربية السعودية لم يسبق لها مثيل”.
https://www.youtube.com/watch?v=4zgO1yDHrks
وتابع: “قلت إن هذا الأمير يبني الدولة السعودية الرابعة… فأنا أقول له (محمد بن سلمان) أنه بالهاشجاعة التي تصرف فيها في المملكة وبهذه الفروسية التي تصرف بها في المملكة وغيّر كل المفاهيم التي كانت سائدة يعني حرر كل شيء، بقدر أقول له ممكن بقرار منه أن يفرض سلام الشجعان في اليمن ويضع حدًا لهذه الحرب..”
وذكره بمواقف والده بقوله: “الملك سلمان، يطول بعمره، الذي أمضى كثير أيام من شبابه هون في لبنان والذي كان عنده أصدقاء كثر من اللبنانيين وكان يحب اللبنانيين كثيرا” ثم طالب ولي العهد بأن “يرجع شوي يلتفت على لبنان ويتذكر ماضي والده في لبنان”.
وخلال استضافته عبر فضائية “الجديد” اللبنانية”، قال قرداحي إن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي يعتقد أنه “ربح المليار وليس المليون بعد الاتصال المباشر مع الأمير محمد بن سلمان.. وننتطر النتيجة”، لكنه تابع: “أنا ربحت الملايين بعد التضامن الذي حصل معي في لبنان”.
إزاء ما سبق، يمكن للمتابع الإجابة على هذا السؤال: من ربح المليون في أزمة قرداحي؟: إيران- الخليجيين- الفرنسيين- كل ما سبق، كما يمكنهم الاستعانة بمواقف قرداحي المتتابعة.
اقرأ أيضًا| هل سيستعين لبنان بصديق لحل “أزمة قرداحي”
اقرأ أيضًا| أرقام وحقائق.. لماذا حرب اليمن عبثية كما وصفها قرداحي؟