قصة الدولة المدنية الحديثة في مصر – 1805م – 2021 م وإلى ما شاء الله- هي قصة الاستعباد الحديث، وهي – في الوقت ذاته – قصة الديكتاتورية المتصاعدة، التي يزيدها الزمن رسوخا، وتزيدها التكنولوجيا تمكنا، ولا يعرقل من تصاعدها ما يبرز بين حين وآخر من احتجاجات وثورات، ولا ما يُكتب من دساتير وعهود ومواثيق.
الاستعباد الحديث يختلف عن الاستعباد القديم الذي كان مداره على امتلاك السادة الأحرار للرقيق من العبيد بالبيع والشراء والهبة واستغلال طاقتهم البدنية في خدمة مصالح الأسياد، الاستعباد الحديث مداره على انفراد شخص واحد بحرية التصرف في بلد كامل وفي شعب بأسره بحيث يكون لهذا الشخص -منفردا- السلطة الكاملة في تقرير السياسات ورسم الأولويات وصناعة القرارات وتخصيص الموارد وتوجيه المصروفات وهندسة الحقبة الزمنية بكاملها -دون منازع ولا شريك ولا منافس من الشعب- حتى اللحظة الأخيرة من حياة هذا الشخص، فإذا ظهر منازع أو شريك أو منافس تم احتواؤه ثم استئصاله، وفي الغالب لم يكن هناك من قيود على سلطته المطلقة إلا من التوازنات الدولية، سواء من السلطنة العثمانية والفرنسيين والإنجليز في عهد محمد علي وسلالته أو الروس والأمريكان في العهد الجمهوري. الاستعباد القديم -وقد تم تجريمه وتحريمه دوليا- كان مداره على تحكم فرد في مصير فرد، الاستعباد الحديث مداره على تحكم فرد في مصير أمة. الاستعباد القديم كان مداره على حرية البيع والشراء، الاستعباد الحديث مداره على حرية الأمر والنهي .
الديكتاتورية ثم الديكتاتورية المتصاعدة هي الملمح الثابت من ملامح الدولة المصرية الحديثة، سواء منذ تأسيسها الأول على يد محمد علي باشا الكبير خلال سنوات حكمه 1805 – 1848م، أو منذ تأسيسها الثاني في عهدها الجمهوري على يد جمال عبدالناصر خلال سنوات قيادته الفعلية لمصر 1952 – 1970 م، فقد وضع كل منهما الأساس لمن جاءوا بعده، سواء من أبناء محمد علي وأحفاده، أو من ضباط الجيش. مع تسجيل عدة ملاحظات :
– الأولى: أن محمد على وعبدالناصر كلاهما ديكتاتور من الوزن الثقيل، كلاهما شخص استثنائي لا يتكرر إلا نادرا، وكلاهما صاحب مشروع كبير، ولم يكن كذلك أيُ من ورثة هذا أو ورثة ذاك.
– الثانية: بالرغم من أن خلفاء محمد علي ثم خلفاء جمال عبد الناصر جاءت بهم المصادفات لا أكثر، وكانوا -ومازالوا- من الوزن العادي جدا ومن المقاس المتوسط جدا، إلا أن هؤلاء الخلفاء حافظوا على ما ورثوه من ديكتاتورية محمد علي ثم ديكتاتورية عبدالناصر، وبعد الحفاظ عليها والانطلاق منها زادوا عليها ما سمحت به قوانين التعود والتكيف بمرور الزمن ثم ما سمحت به التكنولوجيا الحديثة والتنظيمات الادارية التي استجدت عبر ما يزيد على قرنين من الزمن .
– الثالثة: بينما يقوم الافتراض النظري على التسليم بأن المنطق كان يفترض أن تخف وطأة الديكتاتورية التي صاحبت تاريخ الدولة الحديثة بمرور الزمن إلا أن الواقع المنظور يثتب أن العكس هو الذي حدث، فديكتاتورية القرن التاسع عشر أشد منها وطأةَ وأثقل منها يدا ديكتاتورية القرن العشرين، وديكتاتورية القرن العشرين أشد منها وطأةً وأغلظ منها قلبا وأقسى منها كبدا ديكتاتورية أيامنا هذه في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، ولا يوجد مؤشر واقعي يقول إن القادم ربما يأتي مختلفا عن القائم، فالصمت هو سيد الموقف في الداخل، والفوضى هي سيدة المشهد في الإقليم، وهذا وذاك مما يخدم الديكتاتورية في صعودها الأخير .
– الرابعة: كذلك كان الافتراض النظري يستدعي أن يؤدي تعميم الطباعة الحديثة والتعليم الحديث والصحافة الحديثة والقضاء الحديث والبرلمانات الحديثة والوزرات والبيروقراطية الحديثة والدساتير الحديثة والتشريعات الحديثة والانفتاح المتزايد على أوروبا وأمريكا، كان الافتراض أن يؤدي بعض ذلك أو كل ذلك إلى تخفيف وطأة الديكتاتورية وتمهيد الطريق نحو الديمقراطية، ولكن الذي حدث على أرض الواقع الفعلي هو عكس ذلك الافتراض تماما، فقد ساعدت كل تلك التطورات الحديثة على ترسيخ أقدام الديكتاتورية المزمنة -المتجددة وإضعاف أي فرص محتملة لديمقراطية حقيقية.
– الخامسة: مبعث الدهشة في بقاء الديكتاتورية ثم تصاعدها من مطلع القرن التاسع عشر حتى هذه اللحظة من خواتيم الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، هو أن المصريين كانوا ومازالوا على درجة عالية من الإيجابية سواء بالرفض أو الغضب أو الاحتجاج أو الثورة، فلم تتوقف الفاعلية السياسية للمصريين منذ منتصف القرن الثامن عشر، سواء في مواجهة الحكام المحليين أو في مواجهة الغزاة الأجانب، حدث ذلك في مواجهة بكوات المماليك، ثم في مواجهة الجيش الفرنسي عند نهاية القرن الثامن عشر ومفتتح القرن التاسع عشر، ثم في مواجهة الجيش الإنجليزي 1807، ثم في مواجهة مزدوجة ضد الديكتاتورية والغزو الأجنبي معا في الثورة العرابية، ثم في الثورة من أجل الاستقلال والدستور ضد أسرة محمد علي والاحتلال معا في 1919 م وهي الحالة الثورية التي استمرت ثلاثين عاما أو يزيد وبلغت ذروتها بالثورة ضد الحكم الملكي الفاسد والكفاح المسلح ضد الاحتلال في مطلع الخمسينيات من القرن العشرين هو ما فتح الطريق لثورة 23 يوليو 1952م، ثم ثورة 25 يناير 2011م التي هي أعظم تعبير عن روح المصريين في مواجهة ديكتاتورية الدولة الحديثة وفسادها .
– السادسة: مبعث الدهشة كذلك، وهو ما يستعصي على التفسير، وما يستحق المزيد من التفكير، هو رغم كل ما قدمه المصريون -عبر قرنين أو يزيد- من كفاح ضد الديكتاتورية إلا أنها استطاعت بنجاح غير متوقع أن تستعيد مواقعها وتتربع على عرش اللحظة التاريخية وتمكن لنفسها أفقيا ورأسيا خلال السنوات من 2013م – 2021 م وإلى ماشاء الله لها أن تستمر، ديكتاتورية ذات إمكانات هائلة لم يستمتع بها المؤسس الأول محمد علي ولم يحلم بها المؤسس الثاني جمال عبدالناصر، ديكتاتورية وظفت وتوظف كل ما كان الظن أنه يخدم التحول إلى الديمقراطية. ديكتاتورية تملك حرية تصرف كاملة غير منقوصة في مصير الشعب دون ردود فعل مزعجة إلا نادرا جدا، وقد عرفت الديكتاتورية كيف تتجاوزها وتنتصر عليها بل وتتفادى تكرارها .
– السابعة: لقد وصلت ديكتاتورية الدولة المصرية المدنية الحديثة إلى ذروتها في السنوات الأخيرة، والعجيب الذي يستحق التأمل والدراسة والتدبر، هو أن هذه الطبعة من الديكتاتورية وصلت إلى تمامها وكمالها في العقد ذاته الذي شهد الشهر الأول من العام الأول فيه 25 يناير 2011م أعظم ثورات المصريين في التاريخ، فبقدر ما تعثرت الثورة تعافت الديكتاتورية، وبمقدار ما فشلت الأولى نجحت الثانية، وبقدر ما تاهت ثم ضلت ثم ضاعت ثم تلاشت الثورة فإن الديكاتورية عثرت على ذاتها ووجدت نفسها وصححت مسارها وأعادت طرح نفسها كحل وكمنقذ وكمشروع وطني وقومي للمستقبل سواء في مصر أو في الإقليم .
– الثامنة: الدولة المصرية الحديثة هي ضرورة ومصلحة دولية قبل أن تكون أداة تحكم وسيطرة داخلية، هي كذلك منذ الثورة الصناعية في أوروبا، يعني منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر حيث كان حكم مصر فعليا لبكوات المماليك بينما السيادة الاسمية عليها للسلطان العثماني، وكانت مصر طوال القرن الثامن عشر -يعني قبل ظهور محمد علي باشا بزمن بعيد- تسعي للاستقلال عن السلطنة العثمانية، وتكررت طوال القرن الثامن عشر عمليات خلع وعزل الولاة العثمانيين سواء بالعنف أو بالطلب من السلطان العثماني، حتى قال السلطان أحمد الثالث – 1703- 1730م – لوفد من المصريين سافروا إلى الآستانة بتكليف من شيخ البلد محمد بك جركس يطلبون عزل الوالي العثماني محمد باشا عام 1724م، قال السلطان: “التمسوا لكم باشا من خشب حتى تصنعوه على أهوائكم” . منذ ذاك التاريخ ومصر في قلب السياسة الدولية من مطامع الروس إلى الفرنسيس إلى الإنجليز إلى الأمريكان. هذا الوضع الدولى لمصر جعل المهم فيها هو بقاء الدولة ذاتها سواء كانت ديكتاتورية أو ديمقراطية، وإذا كان بقاء الدولة مشروط بمقدار قليل أو كثير من الديكتاتورية، فليكن ذلك، وهو بالفعل ما كان، وربما سيكون إلى أجل غير معلوم .
– التاسعة: الديكتاتورية ضمنت ومازالت تضمن بقاء الدولة واستمرارها واستقرارها، وهي ما تضمن لها التماسك واستعادة ذاتها بعد الثورات الشعبية وكذلك بعد الهزائم العسكرية، لكنها -أي الديكتاتورية -لا تضمن لها التقدم، فرغم أن الدولة الحديثة تعيش قرنها الثالث إلا أنها- بمعايير التقدم- مازالت دولة متخلفة، تعتمد على الخارج في السلاح والغذاء، وأكثر من نصف شعبها تحت خط الفقر بالتعريف الدولي للفقر، وقد سبقتها الكثير من الدول، لا أقول ألأوروبية مثلما كان الحال في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ولا أقول الدول الآسيوية كما حدث في النصف الثاني من القرن العشرين، ولكن مصر باتت مسبوقة من دول عربية ناشئة ومن دول أفريقية بازغة من العدم .
-العاشرة والأخيرة: المشكة الكبرى في الارتباط الموضوعي بين الديكتاتورية والدولة الحديثة ليس في كونه يأتي على حساب الديمقراطية، ولكن في كون هذا الارتباط بين الدولة والديكتاتورية يأتي على حساب التقدم نفسه، وفكرة التقدم هي الجذر والأصل والأساس الذي ترتكن وترتكز وتستند عليه الدولة الحديثة في تسويق نفسها للداخل والخارج وفي إضفاء المشروعية العملية والأخلاقية على سياساتها وتوجهاتها منذ محمد علي باشا إلى اليوم والغد. فمشكلة مصر-بعد كل هذا التحديث- ليست فقط في كونها باتت مسبوقة ممن هو جدير بسبقها وممن هو ليس جديرا بذلك، ولكن في كونها لم تعد تعرف كيف ولا من أين تدخل السباق، ولا تعرف كيف ولا من أين تبدأ مشوار اللحاق، وكل ما تستطيعه -بالجهد العسير- هو ضمان البقاء والاستمرار والاستقرار .
السؤال الآن: لماذا وصلنا إلى هنا؟ لماذا الديكتاتورية هي الحل؟ لماذا هي الضامن للبقاء والاستمرار والاستقرار؟ لماذا نضحي بالتقدم لنحصل على البقاء بأي شكل كان؟ لماذا كُتب على الدولة الحديثة أن تتبنى التقدم بينما هي -فعليا- الراعي الرسمي للتخلف؟ .
الكاتب والمفكر والقاضي الفرنسي إتيان دو لابويسي 1530 – 1563م له كتاب صغير عنوانه وموضوعه “العبودية المُختارة”، فكرته الرئيسية هي: “نحن عبيد لأننا قبلنا ذلك”، ورغم يقيني أنه لا يوجد إنسان يقبل العبودية في أي شكل كانت، لكن الإنسان الفرد يتقبلها ويتكيف معها بل ويتعود عليها حتى يعتقد أنها الأصل، وذلك كله تحت ثقل وضغط وقهر ظروف موضوعيىة جبرية أكبر من طاقة الإنسان الفرد المستعبد عن الوعي بها أو فهمها أو استيعابها ناهيك عن رفضها أو مقاومتها أو الثورة عليها، لكن وجهة نظره هي أن الديكتاتور فرد مثل أي فرد ونحن -الشعوب- من نسمح له بالطغيان .
المفكر المصري عباس محمود العقاد 1889 – 1964م كتب مقالا في مجلة الهلال عنوانه: “لماذا أنا ديمقراطي”، فكرته الأساسية فيها منطق معقول خلاصته: قد توجد أمم لا تستحق الديمقراطية، ولكن لا يوجد أشخاص يستحق أي منهم أن يكون ديكتاتورا يمنح نفسه حق التصرف المنفرد في مصير أمة .