منذ أيام أعلن وزير قطاع الأعمال هشام توفيق تغيير استخدام أراضي شركة الحديد والصلب التي تم تصفيتها. من أرض صناعية إلى عقارية، على أمل رفع قيمتها، وطرحها في مزادات عامة. والتي تعادل مساحتها بحسب الوزير مساحة مدينة مثل الشيخ زايد.
كانت إدارة شركة الحديد والصلب أعلنت في يونيو الماضي إيقاف العمل بمصنع الحديد والصلب بحلوان بشكل نهائي. تمهيدا لبدء إجراءات تصفيتها نهائيا، على الرغم من الاعتراضات العمالية والشعبية والنقابية الواسعة. والدعاوى القضائية لوقف قرار تصفية الشركة.
وقررت الجمعية العمومية غير العادية تصفية شركة الحديد والصلب بحلوان، معللة ذلك بالخسائر المستمرة. التي وصلت وفقًا لقرار الجمعية العمومية الى 8.2 مليار جنيه، وهي القيمة التي تمثل 547% من حقوق المساهمين. قائلة إن الشركة لم تستطع على مدار الفترة الماضية الإيفاء بمستحقات العمال من أجور، كما أنها غير قادرة على التطوير.
“أسمع كلامك أصدقك”
أما وزير قطاع الأعمال فقد قلل من قيمة الأراضي المقرر بيعها لدفع مستحقات العمال، وكذلك حقوق المساهمين. وفي مداخلة هاتفية مع معتز عبد الفتاح قال: “الأراضي مساحة شاسعة، وبلاش تسمعوا المضاربين في السوق أنها على النيل. نيل إيه.. النيل شريط صغير جدا في منطقة اسمها التبين ومفيش كورنيش أساسا.. قيمة الأرض مش زي ما أنتوا متخيلين والمساحة شاسعة. والأرض محتاجة إدخال مرافق للمطورين اللي هيشتروها.. إحنا شايفين المصلحة فين”.
في الوقت نفسه تتوالى التصريحات الرسمية التي تعلن مبدأ توطين الصناعة ونقل التكنولوجيا إلى مصر كأحد أولويات الدولة في التعاون مع الشركاء العالميين. وعامل تفضيلي في التعاقدات على تنفيذ المشروعات الصناعية في مصر، بهدف خفض اسعار المنتجات. وتنمية البيئة الاستثمارية، وامتلاك حقوق التصنيع والتصدير للدول المجاورة.
وكان رئيس الوزراء مصطفى مدبولي دأب على التصريح بأن ملف الصناعة يحتل أولوية قصوى على أجندة أولويات عمل الحكومة. مشيرا إلى أن النهوض بقطاع الصناعة يسهم إلى حد كبير في إحداث نقلة اقتصادية حقيقية.
اقتصاد تنموي أم ريعي؟
في مقاله أساطير اقتصادية: اقتصاد مصر الريعي اعتبر الباحث ودكتور الاقتصاد عمرو عادلي. أن عادة ما يقصد بالاقتصاد الريعي هي البلدان التي تعتمد في القسم الأعظم من دخلها على موارد تأتي من خارج الاقتصاد كالمعونات الأجنبية أو تحويلات العاملين أو العوائد المتصلة بالموقع كقناة السويس في مصر. أو على الموارد الطبيعية كالنفط والغاز الطبيعي، والتي لا يشارك في إنتاجها وتصديرها للخارج سوى عدد يسير للغاية من العاملين بالاقتصاد كحالة الصناعات الاستخراجية. والخلاصة فإن الاقتصاد الريعي يعتمد على موارد لا يسهم في إنتاجها بدرجة أو بأخرى.
ومع ذلك فقد تقلصت الموارد الريعية بالنسبة لمصر خلال سنوات وتناقصت بحسب مقال عادلي. بينما ظلت السياسات العامة في مصر خلال العقود الثلاثة الماضية عاجزة عن إكساب القطاعات غير الريعية تنافسية سواء في تصدير السلع والخدمات أو في جذب رؤوس الأموال الأجنبية. ما جعل مصر في وضعية شديدة الغرابة وهي الاعتماد المتزايد في علاقتها بالعالم الخارجي. على موارد ريعية متناقصة سواء بصورة مطلقة مع تحول مصر لبلد مستورد صاف للنفط في 2006 وللطاقة في 2012. أو بصورة نسبية كثبات نصيب قناة السويس من الناتج المحلي وإيراد الدولة.
وبين الريعي والإنتاجي يؤكد الباحث الاقتصادي إلهامي الميرغني أنه لا توجد دولة في العالم استطاعت تحقيق تنمية حقيقية بعيداً عن القطاعات السلعية وخاصة في الزراعة والصناعة.
ويقول الميرغني “منذ ابتليت مصر باقتصاد “المول والكمبوند”. تغيرت نظرة المصريين للأرض واستعمالاتها كانعكاس لرؤية الدولة للتنمية بالعقارات والمقاولات. وهو ما قاد مصر للمزيد من عجز الموازنة العامة وميزان المدفوعات وارتفاع الفقر إلى معدلات غير مسبوقة وتفاقم أزمة الديون المحلية والخارجية”.
مسيرة الخصخصة
أما لو تتبعنا مسيرة الخصخصة سنجد أن عدد المصانع التي استمرت في الإنتاج بعد البيع محدود جداً مقارنة بالمصانع التي تم تخريبها وتخريد معداتها وتحويلها إلى أرض مبان.
وللفساد مصلحة في استمرار تلك السياسات. وفي هذا الصدد يتذكر الميرغني عند بيع شركة طنطا للكتان كانت هناك فضيحة فساد كبرى. حيث تم بيع الشركة بمبلغ 86 مليار جنيه، ولكن عندما رفض العمال ومعهم قطاع من المصريين وطالبوا المستثمر برد الشركة للدولة. قال إنه دفع 230 مليون جنيه منهم 86 مليون في العقد والباقي خارج العقد. وإنه لم يشتري الشركة بغرض الصناعة ولكن لأنها تقع في قرية ميت حبيش بالقرب من طنطا. وHن الأرض ستباع مباني بقيمة 1.3 مليار جنيه وهو ما شجعه على الشراء، لكن إرادة المصريين أفشلت الصفقة الفاسدة.
وتابع الميرغني: “عشرات المصانع تمت تصفيتها لتتحول إلى أرض مباني. فالدولة المصرية تري ان العقار هو مستقبل التنمية ولذلك تستدين بالمليارات لبناء عاصمة جديدة وعلمين جديدة وغيرها”.
ومعها انتشر تبوير الأراضي الزراعية وتحويلها لأرض مباني وكذلك تحويل الأراضي الصناعية إلى أرض مباني على حد قول الميرغني. الذي اعتبر الحديد والصلب كارثة اقتصادية كبري، وحلقة من سلسلة سلب مصر عناصر قوتها الاقتصادية. ولن تكون الأخيرة فقد سبقتها القومية للأسمنت ومصر كفر الدوار للغزل والنسيج والحديد والصلب.
وكانت هناك محاولة مع شركة الدلتا للأسمدة ومصنع سماد طلخا وتم عمل رفع مساحي لأرض المصنع. لإنشاء مدينة سكنية وتوقف المشروع بنضال عمال سماد طلخا وصمودهم. كما تم تحويل مزرعة كلية زراعة المنوفية في قرية الراهب إلى أرض مباني وكذلك تم في العديد من كليات الزراعة وفق الميرغني.
دولة المقاولين
الدولة لا تعرف الزراعة والصناعة بل تعرف المقاولات والعقار هكذا يرى الميرغني. فبحسب رؤيته لا يوجد من يهتم بتدهور كل مؤشرات الأداء الاقتصادي والبيئي نتيجة تراجع المساحات الخضراء.
فللأمر انعكاس بيئي يتكرر الوضع نفسه وفقا للميرغني في حالة حديقة الأسماك، وحديقتي الحيوانات، والأورمان. وكذلك في المنصورة، والإسكندرية، فدولة المقاولين لا تعرف أي استعمال للأراضي سوي المباني.
ورغم ذلك لم تحل أزمة السكن وتوجد مليارات معطلة في غابات اسمنتية مهجورة. لارتفاع المعروض عن المطلوب، وعن امكانيات الطبقات المصرية العادية.
واعتبر الميرغني أن تحويل أرض قلعة الصناعة المصرية من الاستخدام الصناعي إلى الاستخدام السكني جريمة حقيقية في حق مصر ومستقبل الأجيال القادمة التي ستدفع فاتورة هذه السياسات الفاشلة.
فلن تبنى مصر بالعقار فقط، كما أن مستقبل الصناعة مظلم لأن الاعتماد على الخارج في توفير الآلات والمعدات والخامات وإقامة مصانع للتعبئة فقط كارثة. فضلا عن أخطار انخفاض نسب المكون المحلي، وكذلك تأثير سعر الصرف علي المصانع.
وحذر الميرغني من خطورة فتح أبواب الاستيراد بلا ضوابط وإغراق المنتجات الوطنية. وفي ظل غياب الحماية للصناعة الوطنية وتصفيتها سيقود للمزيد من الخراب ومن فقدان حرية القرار الاقتصادي الذي ستتحكم به شركات ودول خارجية وفق رؤيته.
“استقلال القرار الاقتصادي” كان أول ما نبه له النقابي صلاح الأنصاري. الذي تساءل عن مغزى تحويل أرض صناعية مثل أراضي الحديد والصلب إلى عقارات. فيما أن الظهير الصحراوي المحاذي للمنطقة وهو منطقة العين السخنة وجبل الجلالة وغيره. يصلح تماما لتلك الفكرة مع الحفاظ على أرض الحديد والصلب كأرض صناعية. مؤكدا أن الأمر يتعارض مع التصريحات الحكومية التي طالما تحدثت عن توطين الصناعة.
وسبق وان وجهت الدولة بالمراجعة الشاملة والحصر الدقيق لقطع الأراضي التي تم تخصيصها في السابق للأنشطة الصناعية. ولم يتم استغلالها على النحو المأمول في تنفيذ الأنشطة المستهدفة منها بالأساس. ودراسة أفضل السبل لتطوير الاستفادة منها في ضوء الاحتياجات الاستثمارية والتنموية الفعلية لكل محافظة. فضلاً عن مواصلة جهود إنشاء المجمعات الصناعية على مستوى الجمهورية لما تمثله الصناعة الوطنية من قاطرة للتنمية الاقتصادية.
أرض الحديد والصلب لا تصلح كعقار
في الوقت نفسه فجر الأنصاري مفاجأة تخص عدم صلاحية أراضي “الحديد والصلب” للبيع كعقار. ويشرح أسباب ذلك بحكم عمله أربعين عاما بالشركة وعلمه بكافة تفاصيل المصنع العملاق. حيث ينبه إلى أن صيانة الماكينات العملاقة كانت تتم عبر الحفر على عمق كبير تحت الأرض في كل عنبر من العنابر. وتزويد تلك المساحة بالكابلات، ومواسير المياه، والغاز، وغيرها من المرافق التي تخص الماكينات فقط. وأن أي محاولات للبناء محفوفة بالمخاطر، ومكلفة بشكل كبير.
وعدد الأنصاري خطورة غياب الصناعات الوطنية عن الساحة، والاعتماد على القطاع الخاص. الذي يسعى للربح بالأساس، ولاينتظر منه المشاركة في تنمية حقيقية، فالمسألة تخص الأمن القومي للبلاد. أكثر منها حسابات للربح والخسارة كما تحاول الحكومة أن تروج على حد قوله.
الأنصاري انتقد غياب الرؤية الاقتصادية الشاملة التي لم تضع في خططها أن إغلاق الحديد والصلب. يؤدي إلى غلق المصانع المعتمد عليها مثل الكوك، والتي بدورها تمد شركات السكر بالطاقة. فالأمر يشبه السلسلة في رأي الأنصاري، وما يحدث هو بمثابة النهاية لمستقبل الصناعة، التي كان النظر إليها يوما كأداة من أدوات القوة، والاستقلال.
ولا يعلم الأنصاري أسباب الدعوة لتطوير التعليم المهني، أو كيفية ذلك في ظل تراجع مستقبل الصناعة بهذا الشكل. بينما تكرر الدولة دعواتها للطلبة بتغيير مسارهم من التعليم الجامعي إلى المهني، في الوقت نفسه تتخلص من خيرة العمال عبر إغلاق المصانع.
وخلال العام الماضي كشف تقرير المؤشرات، الصادر عن مركز تحديث الصناعة ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية “يونيدو”. تراجع أداء الصناعات المصرية بنسبة 25.4%، منذ بداية أزمة كورونا.