في زحمة الحراك الإقليمي والدولي، وتسارع الأحداث، لم يرقب المتابعون حراكًا آخر لمصر كان مسرحه القاهرة، التي استضافت بشكل متتابع اجتماعات لمسؤولين يمنيين، حملت في عناوينها الرسمية جملاً اعتيادية من قبيل مباحثات التعاون المشترك، إلى أن لفت سياسيان يمنيان النظر إلى “جهد” مصري لاختراق الجمود السياسي في الأزمة اليمنية.
اللافتة جاءت في سياق مبادرة أطلقها رئيس الوزراء اليمني السابق، رئيس مجلس الشورى أحمد عبيد بن دغر، ونائب رئيس مجلس النواب عبدالعزيز الجباري. وتهدف إجمالاً إلى وقف الحرب والذهاب إلى حل سياسي، لكن بوجه جديد، وهو الجسم المحتمل تسميته «تحالف الإنقاذ».
وفي الوقت الذي تنقّل السياسيان بين مواقف الأطراف المؤثرة في المشهد، ودعيا إلى تجاوزها، ومن بينها الدور الأممي الذي اعتبره بيان المبادرة غير مجدٍ بدون إرادة وطنية جامعة. لكن اللافت في بيان الثنائي أن الطرف الوحيد الذي لم يطله النقد والتجريح أو الهدم هو مصر وجامعة الدول العربية. يقول البيان: «إننا ندعو ونرحب بجهودٍ نشطة لمصر وللجامعة العربية في هذا الشأن».
دوافع وراء الدور المصري المفترض
سريعًا دار الحديث حول: أيُّ دور لمصر في الملف اليمني؟ ثم يتجول الباحثون في فضاء الإنترنت فيعثرون على مشهد لم يأخذ حظًا وفيرًا من المتابعة والتحليل. وأيضًا يتضح أن ثمة تحركًا مصريًا نشطًا لتغيير معادلة الحرب للسلام في اليمن. وهو دور جديد تلعبه القاهرة في صمت، منذ سبتمبر الماضي.
ورغم أن حديث السياسيين اليمنيين لم يفصّل في طبيعة «الجهد» المصري، أو حدوده وطبيعته. غير أن ذلك يبدو متصلاً بانخراط مصري في الحوار الاستراتيجي الإقليمي حاليًا. ومع عقد مقاربة بين المواقف والسياسات الخارجية وحدود الأمن القومي لمصر يتضح أن للتدخل المصري أربعة دوافع رئيسية تتمثل في:
الأول: ينطلق من محددات الأمن القومي لمصر ومحاولة لتدارك انفجار الأوضاع في اليمن مع قرب سيطرة الحوثيين على مأرب التي ستجعل الجماعة الموالية لإيران متحكمة في مصير اليمن إلى حد كبير. ومعها يبقى الشريان الملاحي لمصر في خطر. وهو ما نبَّهت عليه القاهرة كثيرًا في خطاباتها إزاء الملف اليمني بأن تهديد باب المندب أو الملاحة في قناة السويس لا ينتظر تفكيرًا طويلاً من مصر لمنعه.
الثاني: فشل المملكة العربية السعودية في تمرير عدة مبادرات طرحتها للوصول إلى حل مع جماعة أنصار الله (الحوثيين). وقد جاءت في أعقاب استهداف الجماعة بشكل متواصل للأراضي السعودية. مع توسع سيطرتها ميدانيا في اليمن، وهو ما يعني أن الدور المصري في هذه الحالة يأتي إنقاذًا للموقف.
الداخل اليمني
الثالث: تدخل الحوثيين لأول مرة على خط الحرب الباردة بين إيران وإسرائيل. وهو ما يشير إلى تهديد الحركة الملاحية في البحر الأحمر. يظهر ذلك من خلال اتهام إسرائيل لجماعة الحوثي بالوقوف وراء الهجوم بطائرة مسيرة على ناقلة النفط “ميرسر ستريت” المملوكة لرجل أعمال إسرائيلي في بحر عمان، وذلك أواخر شهر يوليو/تموز الماضي.
الرابع: الحضور التركي المتزايد في المشهد اليمني، يثير شكوكًا حول ما إذا كانت أنقرة تحاول فتح جبهة جديدة ضد القاهرة في باب المندب. لاسيما بعدما ظهرت بكثافة خلال الفترة الماضية، من خلال دعم حزب الإصلاح بمحافظة تعز المطلة على البحر الأحمر. وذلك في سياق الضغط للحصول على مكاسب في الحوار الجاري حاليًا، أو حتى مستقبل علاقة البلدين، بعدما زاحمت مصر في ليبيا وإثيوبيا.
حراك صامت
ملامح الحراك الذي شهدته القاهرة بدأت بزيارة وزير الدفاع اليمني محمد علي المقدشي في نهاية شهر سبتمبر/أيلول الماضي. وقتها عقد المقدشي عدة لقاءات مع مسؤولين مصريين ويمنيين وعربًا في القاهرة. وكان على رأسهم الرئيس عبدالفتاح السيسي، ووزير الدفاع محمد زكي.
جاء الموقف المصري على لسان الرئيس السيسي ووزير الخارجية بدعم كافة الجهود للتوصل إلى حل سياسي شامل للأزمة اليمنية. كما تحدث المقدشي عن تطلع بلاده لاستمرار مصر في دعم الجهود السياسية لاحتواء الوضع وإنهاء الأزمة الإنسانية.
بعدها وصل رئيس الوزراء اليمني معين عبد الملك على رأس وفد وزاري في مطلع أكتوبر الماضي إلى القاهرة. وكانت الزيارة الأطول، حيث مكث عدة أيام التقى خلالها نظيره المصري مصطفى مدبولي، وعددًا من المسؤولين المصريين والأمين العام لجامعة الدول العربية وسفراء دول عربية وأجنبية بالقاهرة.
وفي 23 نوفمبر الماضي، وصل مبعوث الأمم المتحدة لليمن هانس جرودنبرج، إلى القاهرة. هناك التقى وزير الخارجية سامح شكري والأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط. وخرجت بيانات دبلوماسية حول «أهمية بذل قدر كافٍ من الضغوط الدولية لوقف شامل لإطلاق النار وبدء مسار جاد للمحادثات السياسية».
وفي لقائه سامح شكري، استمع المبعوث الأممي إلى محددات الموقف المصري من الأزمة اليمنية القائم، وفق بيان للخارجية، على «مساندة وحدة اليمن وسيادته واستقلاله، وضرورة دعم مسار الحل السياسي»، من خلال «التوصل إلى تسوية شاملة ومستدامة للأزمة اليمنية الممتدة، استنادًا إلى المرجعيات الدولية المتفق عليها».
بعدها التقى مبعوث الأمم المتحدة لليمن رئيس مجلس النواب اليمني سلطان البركاني وعدد من البرلمانيين في القاهرة أيضًا. وناقش جرودنبرج خلال الاجتماع التطورات الأخيرة وضرورة خفض التصعيد في اليمن. كما شدد على ضرورة التركيز على تخفيف آثار الصراع، وإنهاء النزاع من خلال تسوية تفاوضية. بعد ذلك تحدثت تقارير صحفية عن لقاءات سرية لقيادات حوثية في القاهرة، ناقشت أطر التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة. وهي اللقاءات التي تحدثت فيها القاهرة بشكل أكثر وضوحًا عن أمنها القومي بالنسبة لمضيق باب المندب.
الحديث عن «تسوية»
الملاحظ في مجمل اللقاءات السابقة أنها كررت جملة البحث عن «تسوية»، من دون مزيد من التفاصيل، أو حتى التطرق إلى المبادرات العربية التي أطلقت خلال الفترة الأخيرة، سواء المبادرة السعودية أو مبادرة عمان، أو الجهود التي قادتها الأمم المتحدة. وهو ما يشير إلى أن ثمة شيء آخر يجرى الترتيب له حاليًا.
زيارة جرودنبرج إلى القاهرة جاءت بعد أيام من جولة شملت دولة الإمارات وإيران، وقتها تحدث عن دعم جهود التوصل إلى تسوية تفاوضية للنزاع. وبعدما أجرة جولة أخرى في المنطقة التقى المبعوث الأممي عددًا من المسؤولين اليمنيين في تعز وعدن والرياض، وأطلعهم على نتائج جولاته، وفق الموقع الإلكتروني للأمم المتحدة.
إزاء ما سبق يتضح أن ثمة حراكًا فاعلاً تتواجد مصر في القلب منه، مع ملاحظة تضاءل حضور الوساطات الخليجية التي امتدت لسنوات مضت، لاسيما العمانية والكويتية، والتي تنتقل ما بين عدن وصنعاء والرياض، دون أن تسفر عن نتائج ملموسة لوقف الحرب.
حدود الدور المصري
ثمة توجه يضع الدور المصري المحتمل في الملف اليمني موضع الوساطة، بالنظر إلى علاقتها بكافة الأطراف لاسيما الخليجية. وهنا الحديث يدور عن دعم الحكومة المعترف بها دوليًا، وإجراء عملية وساطة بين أبوظبي والرياض من جهة وطهران من جهة أخرى.
هذا السياق يستبعد أي دور آخر يتعلق بالإسناد العسكري المصري للقوات الحكومية في مجابهة الحوثيين. ذلك باعتبار أن التوجه المصري مرتكز على متطلبات الحل السياسي للأزمة. كما ينطلق هذا التوجه من محاولة القاهرة استعادة زمام المبادرة لاعتبارات الإرث التاريخي إبان الثورة اليمنية عام 1962.
التوجه الثاني يرى الدور المصري أبعد من مسألة الوساطة إلى خلق دور سياسي وعسكري، بالنظر إلى الخطر المتزايد باتجاه باب المندب، لاسيما بعد تنامي نفوذ مسلحي الحوثي. ويدلل هذا التوجه بأن مصر ترك الملف في بدايته إلى المملكة العربية السعودية التي أثبتت خلال سنوات الحرب فشلها في كسر شوكة جماعة أنصار الله، وبعدما أصبحت غير قادرة على صد هجماتهم المتواصلة بالطائرات المسيرة، أصبح التدخل لوقف تزايد نفوذ الجماعة ضرورة لدى القاهرة.
يستند هذا الرأي على تطورات ميدانية وعسكرية غاية في الخطورة. لاسيما بعدما انسحبت القوات المشتركة الموالية للإمارات من المواقع الاستراتيجية في الحديدة إلى نقاط أخرى بالجنوب. ومع هذا التطور أصبح الساحل اليمني مكشوف على نفوذ الحوثيين، ومعه تتمدد إيران إلى مضيق باب المندب ووقتها ستكون ثمة عواقب وخمية. هنا يكون خطر الملف اليمني ليس فقط موجّهًا لدول الخليج العربية، ولكن في القلب الأمن القومي المصري.
لماذا فرص الجهود المصرية قوية؟
في حال كان الدور المصري فاعلاً بشكل يقود إلى حوار حقيقي بين أطراف الأزمة اليمنية، فإن ثمة محددات تشير إلى تعاظم فرص القاهرة في هذا الدور، منها:
أولاً: بالنظر إلى أن مصر يعنيها في المقام الأول حل الأزمة وتحقيق الاستقرار في اليمن، يضاف إلى عدم وجود أي أطماع أو مصالح لها في اليمن يجعل فرصة الحراك المصري قوية للتوصل إلى تسوية سياسية.
ثانيًا: حافظت مصر خلال السنوات الماضية على خط- وإن كان غير مباشر في بعض محطاته- مع إيران، وهو ما يساعد مهمتها في اليمن، وإن كانت هذه العلاقة لا تزيد بأي حال من الأحوال عن الوسطاء السابقين على غرار عمان، لكن مجمل المحددات تقوية الموقف المصري.
ثالثاً: ليس خفيًا أن مصر حليف قوي لدول الخليج العربية المؤثرة والمتأثرة بالمشهد اليمني، وهو ما دفع البعض للاعتقاد أن الحراك المصري هذه المرة ربما يكون مدفوعًا بطلب خليجي، بعدما وصل الأمر إلى مرحلة مأزومة.
رابعًا: كون مصر أحد الأطراف الفاعلة والأساسية في الحوار الاستراتيجي الإقليمي الجاري حاليًا يجعل مهمتها أكثر إقناعًا. كونها منفتحة على ملفات أخرى مشتركة لأطراف النزاع في اليمن، الملف العراقي والسوري.
خامسًا: تمتلك مصر مواقف سابقة ناجحة في ملفات النزاع، لاسيما ملفي فلسطين وليبيا، فالأول استطاعت القاهرة تحقيق نتائج إيجابية لوقف إطلاق النار أكثر من مرة، كما تقود مفاوضات تبادل أسرى، ونجحت في السابق في لم شمل الفصائل الفلسطينية، أما في الملف الليبي فقد نجحت القاهرة في وقف الحرب بغرب البلاد وقادت جهودها إلى اتفاق سلام، ثم نجحت في تجميع الطرفين العسكريين لغرب وشرق ليبيا على أجندة موحدة لوضع لبنة بناء جيش ليبي موحد.
اقرأ أيضًا|
خلاف سعودي – إماراتي يتردد صداه في اليمن