كثيرًا ما يتردد القول إن هذه المنطقة التي نعيش فيها من الخليج الحائر إلى المحيط النافر هي منطقة مَيْؤُوْس من تحديثها، شعوبًا وحكومات، نحو دولة المواطنة والقانون، والمسئولية والمساءلة، والحكم الرشيد والفاعلية المجتمعية، وحقوق الإنسان، فضلاً عن التنمية الاقتصادية، والكفاية الإنتاجية.
ومن المؤكد أنَّ تجارب الماضي القريب جدًا والبعيد نسبيًا تقدم أسبابًا وجيهة لرواج هذه المقولة، لا سيما الفشل المتفق عليه لثورات الربيع العربي، ومن قبله أيضًا الفشل المتفق عليه-كذلك- لنظم الإنقاذ الوطني العسكرية طوال النصف الثاني من القرن العشرين، وقبلهما فشل التحديث الليبرالي، حيث جرت محاولات تطبيقه في مصر وسوريا والعراق في النصف الأول من القرن العشرين.
يقال إنَّ هذا هو الرأي السائد بين مراكز التفكير، وفي دوائر صنع السياسات في الدول الكبرى ذات المصالح الاستراتيجية في منطقتنا، وغني عن القول إنَّ هذا هو ما تؤمن به، وتروِّج له وتستثمره الفئات (ولا نقول الطبقات) الحاكمة في كافة دول المنطقة بلا استثناء، ويوافقها عليه قطاع مؤثر من المثقفين، والرأي العام، كل لأسبابه، التي تتراوح بين الانتهازية، والمحافظة الفطرية والرجعية أحيانًا، وبين الخوف المشروع، وأحيانًا المبالغ فيه من التيارات الدينية.
هل يعني القول فيما سبق أن هناك أسبابًا وجيهة لهذه المقولة وأن نعتبرها مسلَّمة بديهية، أو حتمية تاريخية، أو بعبارة أخرى لعنة أبدية؟
اليأس هو إحدى الراحتين، ما دام يستحيل بلوغ الراحة الأخرى، التي هي تحقيق الآمال، وفي هذا تتشابه عقيدة اللعنة مع عقيدة المؤامرة الخارجية، التي دأب الحاكمون والمحكومون عندنا على تبرير إخفاقاتنا المتوالية بها.
في رأيي أن هذا استخلاص متسرِّع وغير علمي، وإن كان مريحًا للكثيرين من باب أن اليأس هو إحدى الراحتين، ما دام يستحيل بلوغ الراحة الأخرى، التي هي تحقيق الآمال، وفي هذا تتشابه عقيدة اللعنة مع عقيدة المؤامرة الخارجية، التي دأب الحاكمون والمحكومون عندنا على تبرير إخفاقاتنا المتوالية بها.
قد تثبت المقارنة بين منطقتنا وبعض مناطق العالم التي مرت بأحوال مماثلة لأحوالنا، التسرع وانعدام العلمية في الحكم علينا باللعنة الأبدية، فلم تكن أوضاع أمريكا اللاتينية طوال معظم القرن العشرين بأفضل من أحوالنا بأي حال من الأحوال، فقد كانت غالبية دولها ميادين لحروب أهلية، أو اضطرابات وحروب عصابات، وكانت القارة كلها فناء خلفيًا للرأسمالية والإمبريالية الأمريكية في أوّج شراستهما، وكانت الانقسامات المجتمعية فيها حادة وعميقة، وبالطبع كانت أمريكا اللاتينية هي صاحبة السبق، أو كانت هي مؤسسة ظاهرة حكم الكولونيلات، بمستوى من الدموية والقمع أوسع وأعلى كثيرًا مما عرفت منطقتنا في أسوأ ظروفها، أكثر من ذلك فشلت كل المحاولات الثورية والإصلاحية فيها قبل ثمانينيات القرن الماضي، من جيفارا، إلى سلفادور الليندي، فكان أن ساد أيضًا اليأس من التغيير والإصلاح.
وقد تغيّر كل ذلك بنضال وحراك الشعوب في المقام الأول، امتدادًا من الأرجنتين ثم شيلي إلى بقية دول القارة، رغم أن الولايات المتحدة بقيت رأسمالية إمبريالية كما هي، ورغم أن الكولونيلات والجنرالات لم تتنزل عليهم هداية السماء.
هذه المقارنة نفسها بين منطقتنا وأمريكا اللاتينية يمكن إجراؤها أيضًا بيننا وبين جنوب شرق آسيا، وبيننا وبين البلقان في أوائل القرن العشرين، بل وبيننا وبين تركيا الأقرب منا حتي بدايات القرن الحالي.
أسقطت المنظومة القديمة للشرعية، وغيَّرت الإطار المرجعي للقيم السياسية لدى الغالبية الكاسحة من مواطني دول المنطقة الذين تقل أعمارهم عن 40 سنة
دلالة هذه المقارنات هي النظر إلى التاريخ كسياق وسيرورة، أو كجدلية اجتماعية وسياسية مستمرة، وعليه يستحيل القول إنَّ الأقلام جفت، وأن الصحف طويت، بإخفاق ثورات الربيع العربي، ليس فقط لأن حراكها مستمر، وموجاتها متعاقبة بما يجعل المنطقة أبعد ما تكون عن الاستقرار على “قديمها”، ولكن أيضًا، وهذا هو المهم والأهم أسقطت المنظومة القديمة للشرعية، وغيَّرت الإطار المرجعي للقيم السياسية لدى الغالبية الكاسحة من مواطني دول المنطقة الذين تقل أعمارهم عن 40 سنة، فلم تعد الشرعية لديهم مستمدة من تجربة الخلافة الإسلامية، ولا من تجربة التحرر الوطني، ليس كفرانًا بالوطنية طبعًا، ولكن رفضًا لتردِّيها في وبال الفاشية لتبرير العجز والاضطهاد، كما لم تعد مستمدة من العسكرة لمواجهة إسرائيل والصهيونية بعد كل ما جرى، لكن الأكثر إبهاجًا أنّ الشباب في كل مراحل الربيع العربي ارتفعوا فوق الانتماءات الطائفية بوعي كامل واختيار حر، وتبلور هذا الوعي الجديد بوضوح قاطع في احتجاجات 2019 بالذات، في كل من لبنان والعراق، بوصفهما المعقليْن التقليديين للطائفية السياسية المقننة دستوريًا.
أعرف أنَّ سقوط المنظومة القديمة وتغيير الإطار المرجعي لا يكفيان وحدهما أو بذاتهما، إذ يجب أن تتبلور ثم تسود المنظومة الجديدة، ويتضح الإطار المرجعي البديل، وأكاد أجزم أنَّ الإدراك العام عند تلك الفئة العمرية التي حددناها مستقر على أنَّ الشرعية السياسية الصحيحة حاليًا تتمثل في علاقة صحية ومتوازنة بين المجتمع والسلطة، بحيث تتفرع من هذه العلاقة كل التطبيقات المبتغاة، من التداول السلمي، إلى المشاركة، فالمساءلة… الخ.
أيّ مجتمع يسعى لمثل تلك العلاقة الصحية والمتوازنة مع السلطة لابد له من جهاز حركي، يتمثل أولاً في التنظيمات الأهلية أو ما يسمى حديثًا بمنظمات المجتمع المدني
في مناسبات سابقة كتبنا أنَّ أيّ مجتمع يسعى لمثل تلك العلاقة الصحية والمتوازنة مع السلطة لابد له من جهاز حركي، يتمثل أولاً في التنظيمات الأهلية (قبل أو دون التنظيمات السياسية الصريحة مرحليًا) أو ما يسمى حديثًا بمنظمات المجتمع المدني، وفي تلك المناسبات أيضًا ذكَّرنا بالخبرة المصرية العريقة والثرية بعد الإفاقة من صدمة هزيمة الثورة العرابية، وفاجعة الاحتلال البريطاني لمصر ، فقد كانت المنظمات الأهلية هي رافعة المجتمع والوطن في تلك الحقبة العصيبة، في التعليم من المدارس إلى الجامعة الأهلية، والجمعيات العلمية، وفي الصحة من العلاج الخيري إلى حملات الوقاية، وفي الفنون والآداب، وفي الاقتصاد من التعاونيات إلى بنك مصر، ثم النقابات العمالية والمهنية… الخ.
هذا الحديث ليس عن مهام اليوم والغد اللذين تكثر فيهما المعوقات أمام حركة المجتمع، ولكنه عن مستقبل سوف يفرض متطلباته على الجميع طال الزمن أو قصر، خصوصًا عندما يصيب الإجهاد المحتم مؤسسات القوة التي تعيد إنتاج القديم، وتعتمل فيها التناقضات الداخلية، وليست هذه المتطلبات في نهاية المطاف سوى شروط وأدوات زوال اللعنة التي قلنا إن البعض أو الكثيرين يعتبرونها أبدية على منطقتنا.