في كتاب حديث صدر هذا العام 2021 يطرح ايفرستو بنييرا الأستاذ بجامعة جنوب أفريقيا رؤية استشرافية لمستقبل أفريقيا في ظل تحولات الثورة الرقمية التي يشهدها العالم. هل ستكون أفريقيا من أكبر الخاسرين وتسهم في استمرار نهضة الغرب الرأسمالي كما أكد على ذلك كل من على مزروعي ووالتر رودني؟ يجادل الكتاب بأن الثورة الصناعية الرابعة وعملية الأتمتة المتسارعة للصناعات التقليدية والممارسات الصناعية عبر التكنولوجيا الرقمية، سوف تعمل على زيادة تهميش أفريقيا داخل المجتمع الدولي. يعني ذلك أن نهب أفريقيا الذي بدأ برأس المال البشري خلال مرحلة تجارة العبيد عبر الأطلنطي ثم الموارد الطبيعية في عهد التقسيم الاستعماري، يستمر اليوم بلا هوادة بأشكال أخرى عبر نهب البيانات والموارد الرقمية. من خلال تطوير مفهوم “الاستعمار الرقمي” أو “استعمار البيانات”، يتم النظر إلى الثورة الصناعية الرابعة على أنها تشكل المرحلة النهائية التي سوف توجه أفريقيا نحو (إعادة) الاستعمار. لقد قامت الكارتلات العالمية وشبكات الاستعمار والشركات التكنولوجية متعددة الجنسيات بتحويل البيانات الضخمة إلى رأس مال، وهو أمر غير منظم إلى حد كبير أو منظم بشكل سيئ في أفريقيا حيث تفتقر القارة إلى المؤسسات القوية اللازمة لتنظيم استخراج البيانات. ويمكن للمرء أن يجادل من خلال استمرار علاقات القوة العالمية غير المتكافئة بأن تكون أفريقيا من أكبر الخاسرين في ظل هذه التحولات الرقمية المتسارعة.
وعلى أية حال فإن عمليات استخراج بيانات المستخدم وتوليفها والتحكم فيها من جانب شركات التكنولوجيا الكبيرة أضحت ترتبط بكل شيء في حياتنا اليومية. ومع ذلك فإن واقع البلدان الأفريقية الذي يتسم بضعف البنية التحتية ومحدودية قوانين حماية البيانات، وغياب القدرة على المنافسة- جنبًا إلى جنب مع اختلالات القوة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وعقود طويلة من عمليات نهب منظمة للموارد الطبيعية والبشرية- يعني أننا إزاء ظاهرة جديدة يمكن أن نطلق عليها اسم الاستعمار الرقمي. إننا أمام ظاهرة تدافع كبرى جديدة من أجل الفوز بأفريقيا مرة أخرى في العصر الحديث وذلك من خلال استخراج بيانات المستخدم والتحكم فيها من قبل شركات التكنولوجيا الكبيرة. ولعل ذلك يطرح العديد من التساؤلات حول طبيعة الاستعمار الجديد ودور الشركات وذلك من أجل المقارنة بينه وبين استعمار القرن التاسع عشر؟ ولماذا تعد البيانات موردًا ثريًا يمكن مقارنته بالموارد الطبيعية؟ وكيف تستغل شركات التكنولوجيا الكبيرة هذا المورد لتحقيق الربح من جهة وللاستخدام في التحليلات التنبؤية من جهة أخرى؟. وبعد ذلك كله هل من سبيل لخروج أفريقيا من براثن هذا الفخ الرقمي؟
يسألونك عن الاستعمار الرقمي!
يشير مصطلح استعمار البيانات إلى علاقات القوة غير المتكافئة الناتجة عن استخدام وإساءة استخدام البيانات المتولدة من مختلف المنصات عبر الإنترنت. في استعمار البيانات، يتم تسليح البيانات واستخدامها لبدء علاقات القوة غير المتكافئة بين المستعمرين (السابقين) وعملائهم والمستعمَرين (سابقًا)، والحفاظ عليها، وإضفاء الطابع الروتيني عليها. كممارسة استعمارية بغيضة، فإنها تشمل كافة القطاعات المكونة لاقتصاد البيانات الأوسع مثل، على سبيل المثال لا الحصر، استخراج البيانات والاستفادة منها وفي نهاية المطاف استخدامها كسلاح من أجل فرض السيطرة والهيمنة. وصل المستعمرون في وقت سابق زمن دبلوماسية الزوارق الحربية في القرن التاسع عشر إلى الشواطئ الأفريقية بغرض توسيع إمبراطورياتهم من خلال استغلال العمالة المحلية لاستخراج الموارد الطبيعية القيمة والمواد الخام، وبناء البنية التحتية الحيوية مثل السكك الحديدية لتسهيل استيراد وتصدير هذه السلع التي تم اغتصابها عنوة من أصحابها الأصليين . اليوم اتخذ الاستعمار منهجا رقميا. تقوم الشركات التكنولوجية الكبرى بتأسيس البنى التحتية للاتصالات مثل منصات الوسائط الاجتماعية والاتصال بالشبكة لغرض صريح وهو جمع البيانات و جني الأرباح و تخزين البيانات كمواد خام للتحليلات التنبؤية. الاستعمار الرقمي هو الاستخراج والتحكم اللامركزي في البيانات من المواطنين بموافقتهم الصريحة أو بدونها من خلال شبكات الاتصال التي طورتها وتملكها شركات التكنولوجيا الغربية. ويحدد بعض أساتذة جامعة كوبنهاغن، أن هذا الهيكل الاستعماري الجديد له أربعة فاعلين أساسيين: (1) شركات التكنولوجيا الغربية التي تنشئ وتوفر التكنولوجيا والبنية التحتية التي تجمع وتستفيد من البيانات بهدف توجيه الإعلانات ونشرها؛ (2) شركات الإعلان والاستشارات التي تستخدم التكنولوجيا المقدمة من الطرف رقم (1) لاستهداف مجموعات مختلفة بإعلانات ورسائل مخصصة للغاية تهدف إلى زيادة الأرباح؛ (3) الشركات والأطراف والمنظمات المحلية التي تدفع لشركات الدعاية والاعلان لمساعدتها على تحقيق مصالح بلدان معينة، و(4) المواطنون الذين يعملون عن علم ودون علم كمصادر بيانات وكمجموعات مستهدفة للأطراف السابقة.
“جافام” وحكومة العالم الخفية
يتضمن استعمار البيانات عمليات مختلفة من التحكم في تدفق المعلومات وكيفية نقلها. إنه يهتم بالحصول على البيانات، تمامًا كما كان الاستعمار القديم مهتمًا بالحصول على كل من الأراضي والموارد الطبيعية التي تُستخرج منها القيمة الاقتصادية بعد ذلك. يضمن استخراج البيانات ومعالجتها وإعادة نشرها علاقات القوة غير المتكافئة والظلم الذي بدأ بتجارة الرقيق واستمر خلال الاستعمار العسكري ويتم إعادة إنتاجه اليوم في ظل هذا النمط الجديد من الاستعمار الرقمي. إنه مثل جميع أشكال الحداثة الأورو أمريكية، يمثل استعمار البيانات الجانب المظلم لثورة البيانات. إنه يشير إلى تحويل البيانات إلى رأس مال وما ينتج عنه من استخدام في التحكم في القرارات المستقلة والتأثير عليها وتقويضها من قبل الأفراد والدول والشركات والكيانات الأخرى التي تعتمد قسرًا على البيانات لاتخاذ القرارات اليومية وتنفيذها وتقييمها.
للوهلة الأولى، هناك نقل للأعمال من إفريقيا إلى شمال العالم من خلال الثورة الصناعية الرابعة. تواجه وسائل الإعلام المحلية مشكلات كبرى من حيث تناقص أعداد القراء والمشاهدين والمشتركين والمعلنين، لأن هؤلاء يفضلون عمالقة التكنولوجيا الغربية متعددة الجنسيات مثل الفيسبوك وتويتر ويوتيوب وانستغرام وما إلى ذلك. ويحدث الشيء نفسه في وسائل النقل مثل سيارات الأجرة حيث تزاحم خدمات النقل الإلكتروني مثل أوبر مشغلي سيارات الأجرة المحليين. وتفعل أمازون الشيء نفسه من خلال تجربة التسوق عبر الإنترنت، على الرغم من أنها تواجه منافسة من تجار التجزئة الأفارقة عبر الإنترنت. ومن المحتمل أن تقوم الشركات الغربية متعددة الجنسيات بتدمير الصناعات المحلية لأنها لا تستطيع التنافس مع هذه الشركات الغربية الراسخة والممولة تمويلًا جيدًا والمحمية جيدًا.
تمثل حركة الأعمال والإيرادات والضرائب وتدفقها من أفريقيا إلى شمال الكرة الأرضية تدشينا لمرحلة جديدة من الاستعمار. ومما يزيد من سرعة وتيرة هذه الحركة، أي العلاقة بين البيانات والاستعمار، تحول البلدان الأفريقية إلى عالم الرقمنة بشكل متزايد، مما يجعل البيانات مصدرًا للقوة الاقتصادية والحكم. والمحصلة النهائية في ظل هذه الأوضاع هي أنه يتم فرض الاقتصادات الغربية على أفريقيا من خلال استخدام التكنولوجيا. يتم تأطير نماذج وأفكار الاقتصاد الرقمي المستقبلي من شمال الكرة الأرضية وعرضها في أفريقيا مع القليل من المدخلات الأفريقية الهادفة أو بدونها. الطريقة نفسها التي جاء بها حفنة من الرجال الأوروبيين: الصيادين والمبشرين والتجار والمستكشفين إلى أفريقيا بأعداد صغيرة حيث تمكنوا بعد ذلك بطريقة ممنهجة من الحصول على أراضي أفريقيا ومواردها الأخرى. إنها نفس الطريقة التي اتبعتها مجموعة صغيرة من الشركات الغربية متعددة الجنسيات في زيادة قبضتها ببطء على الاقتصاد الرقمي لأفريقيا.
لم يعد الاقتصاد الرقمي لأفريقيا ينتمي إلى أفريقيا لأنه مستورد وخارج السياق الحضاري للقارة. إن عالم اليوم تديره شركات التكنولوجيا الكبرى بشكل متزايد ، حيث تمارس أكبر خمس شركات نفوذاً أكبر وتحصل على أكبر قدر من القوة. تشارك جميع هذه الشركات الخمس الكبرى العالمية في النظام البيئي الرقمي ويشار إليها باسم (جافام) وهي: جوجل/ ألفابت وأبل وفيسبوك وأمازون ومايكروسوفت. وتشكل هذه الشركات معا التقنية التكنولوجية الجديدة التي تتحكم في الجزء الأكبر من الوظائف الحيوية العالمية. يبدو أننا بالفعل أمام تحولات هيكلية في بنية النظام الدولي حيث تشكل (جافام) بحكم الواقع الحكومة العالمية. إن منصة واحدة مثل واتس أب لديها أكثر من 2 مليار مشترك في أكثر من 180 دولة. والمثير للدهشة والاستغراب أن شخصا واحدا مثل مارك زوكربيرج بإمكانه الوصول إلى بيانات ربع سكان العالم من خلال واحدة فقط من العديد من منصات الوسائط الاجتماعية الخاصة به. وهذا لا يجعله ثريًا فحسب، بل يجعله يتمتع بالقوة حيث يمكنه توقع نمط حياة 25٪ من سكان العالم والتأثير عليهم من خلال منصة واتس آب وحدها. تبا لهذا النمط من الاستعمار الجديد حيث لا توجد حكومة أو أي مؤسسة متعددة الأطراف تتمتع بهذا القدر من القوة!. فأين موقع أفريقيا من كل هذه التحولات الكبرى والمتلاحقة؟
وختاما ما العمل؟
من الواضح أن الثورة الصناعية الرابعة ستؤدي إلى تشكيل أشكال جديدة من التنشئة الاجتماعية مثل المجتمعات الافتراضية. السؤال هو أين موقع إفريقيا من هذه المجتمعات الافتراضية؟ وبأي صفة؟ تبدو الإجابة المختصرة أن أفريقيا ستكون جزءًا من هذه المجتمعات الافتراضية وعبر الإنترنت ليس كشريك على قدم المساواة، ولكن كدأبها دوما مورد للبيانات الخام. على الرغم من الجوانب البلاغية التي تؤكد على حرية الوصول إلى المعلومات فإن الاستعمار الرقمي قمعي وتسطي مثله مثل الاستعمار القديم خلال القرن التاسع عشر. تحصل شركات التكنولوجيا الكبرى، التي يملكها ويديرها الرجال البيض عادةً، البيانات من المستخدمين غير المدركين لطبائع الأمور وتتحكم في تلك البيانات لتحقيق الربح عبر التحليلات التنبؤية. لسوء الحظ، لن تمنع قوانين حماية البيانات الموجودة في البلدان الأفريقية على محدوديتها هذه الهيمنة. في حين أن قوانين حماية البيانات الحديثة قد تشكل خطوة في الاتجاه الصحيح، إلا أن المزيد من التفكير مطلوب للإجابة على السؤال حول كيف يمكن للمجتمع الأفريقي حماية بيانات المستخدم في مجتمع يعتمد بشكل متزايد على التحول الرقمي. يجب على منظمات المجتمع المدني الأفريقية ومراكز الفكر والجامعات ومؤسسات التعليم العالي الأخرى قيادة عملية إنهاء استعمار البيانات من خلال اتخاذ إجراءات غير تقليدية لحماية البيانات الأفريقية. يجب على إفريقيا أن تبدأ بالاعتراف بأهمية البيانات وامتلاكها ثم استخدامها بغرض السياسة والتخطيط المستند على الأدلة. وفي هذا السياق يتعين على أفريقيا لتحقق صعودها على المسرح الدولي أن تحرر نفسها عاجلاً وليس آجلاً ، خاصة فيما يتعلق بمواردها الطبيعية. تتمثل إحدى الطرق التي يمكن لأفريقيا من خلالها أن تقاوم بشكل شرعي عمل الإمبراطوريات والكارتلات الغربية في الموارد النادرة، في أن تبني تكتلاتها الخاصة. يمكنها أن تستخلص الدروس والعبر من تجربة منظمة أوبك، بل ويمكنها حتى تشكيل منظمة مماثلة لأوبك. يعني ذلك العودة إلى خيار نكروما القائم على مفهوم الولايات المتحدة الأفريقية.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا