في الآونة الأخيرة يرصد الواقع الثقافي ظاهرة ملفتة، تتمثل في وجود أكثر من عشر روائيات منتقبات على ساحة كتابة الرواية في مصر، وهو ما يدعو للنظر والتقييم، حيث يشير مبدئيًا إلى سيطرة ظلال من التوجهات الأيديولوجية الدينية المتعصبة المقصودة داخل النص الروائي، كما يصبح من البديهي توقع أن بعض هذه النصوص يميل لتحريض المجتمع على العنف والاقتتال، ويهدف البعض الآخر إلى تحسين صورة بعض التيارات الأصولية بطرق مباشرة وغير مباشرة، ويتمحور التساؤل الذي يطرحه المقال حول هل يتسق النقاب مع فعل الإبداع؟.
في الوسط الأدبي عادة ما ننطلق في بعض أحكامنا على الظواهر من مقولات جاهزة لا نختبرها من خلال الدراسات التطبيقية الموضوعية محيطين بأبعادها كافة، وكثيرًا ما نتصور أن المقدمات التي ننطلق منها ستحيلنا حتمًا لنتائج تتسق والمنطق الذي تفرضه مقدماتنا، لكن تظل الظواهر الإنسانية أكثر تشابكًا وتعقيدًا من تبسيطها وإطلاق أحكام شاملة ومتسرعة حولها، كما يند بعضها ويخرج عما يمكن توقعه، فكل نص أدبي يجب أن يبحث مفردا في أحد مستوياته، كما يجب تناول كل مبدع أو مبدعة بمفرده قبل أن يُدرسا ضمن ظاهرة، كما أن إخضاع أي ظاهرة للدراسة الفاحصة تكشف عن مناحي قد تخفيها الأحكام الشاملة العامة.
فنحن بحسب النشأة ونوع ثقافة مجتمعاتنا نمارس بشكل من الأشكال ما نعترض عليه في نهج الآخرين تعصبا لمنطقنا فنختزل ـــ كما يفعل الأصوليون ــ الظواهر فنردها إلى مبدأ واحد، فهناك مقولات وأحكام كثيرة يطلقها المثقفون نتداولها ونرتاح إليها دون إخضاعها للنظر والتحليل مثل مقولة: أن جماعة الإخوان المسلمين، أو السلفيين والأصوليين بتياراتهم المتعددة، لا يمكن أن تنتج أدبا ولا فنا مميزا، ونستند على أن الفنون والآداب بحاجة للتحرر الفكري والتخييلي الذي لا تقيده محظورات العقيدة والالتزام الديني ودعوات التكفير للمخالفين في الرأي، وأن الإبداع فعل فردي لا يتسق مع التزام الجماعة وضرورة السمع والطاعة بلا جدل ولا مساءلة.
يحدث هذا دون أن ندرك أن تلك الجماعات الأصولية يمكن ألا تعدم وجود من لديه موهبة الكتابة الروائية وسط هذه الأعداد من الأتباع، وربما يمكن لبعضهم كتابة نص متماسك فنيا، يحمل رسائل ضمنية لمن يقرأه ويؤثر في وجدانه وسلوكه، و تكمن الخطورة وقتها فيما يتضمنه العمل من رسائل موجهة قد تتسبب في إشاعة العنف، أو ترسيخ الأفكار الرجعية التي تدعو للخرافة، وترسخ للظلامية في المجتمع، أو يسجن المرأة في تصورات رجعية تقلص من مكوناتها الإنسانية المتنوعة، أو يقتصر على سرد عاطفي يميل للرومانسيات المترهلة التي لا تصمد وحدها لبناء نص روائي جيد لكنها تتضمن نمطًا في الحياة مقاومًا لواقع تصعب مقومات الحياة به لأزمات متعددة اقتصادية وسياسية واجتماعية.
وفي مسألة الكاتبة المنتقبة هناك افتراضان: أن تكون الروائية مقتنعة ومؤمنة بضرورة أو استحسان لبس المرأة للنقاب، أو أن النقاب قد فرض عليها من سلطة أسرية اجتماعية، واستجابت بدورها لهذا الزي منعا للمواجهات والصدام الذي يضعها في موقع الرفض في وسطها الاجتماعي ونعتها بالتمرد والسفور، وفي كلتا الحالتين هناك العديد من النقاط التي ينبغي أن تطرح للنقاش من خلال نماذج تطبيقية لهؤلاء الروائيات.
أولا: حالة اقتناع الروائية بلبس النقاب تتنافى حتما مع فلسفة الفنون العميقة، حيث يناوش الإبداع بالأساس المستقر ويتحرش باليقينيات ويجادلها، يتجاوز الأطر محاولا القفز فوقها بمغامرات تجريبية فكرية وفنية تتجدد على الدوام، فتنحو النصوص الإبداعية إلى تمزيق العباءات التي تخرج منها لتطرح وتقترح عوالم أكثر حيوية، تبذر الأسئلة وليس من الضروري أن تجد لها إجابات قاطعة بل تسعى لأن تظل مفتوحة حتى يسهم المتلقي في فعل الإبداع؛ مستنفرة لعقله ووجدانه ليظل يفكر، وهو ما قد يتعارض مع تقديس النصوص التراثية والانبهار بمنتج السلف التي يؤمن بها الأصوليون، وعد هذا القديم المتحفي الأفضل والأكثر نقاءً وصوابا، كما أنه أدعى للراحة والسكينة لما يقدمه من يقينيات، وتتفاوت نصوص الكاتبات المنتقبات في معالجة هذا الأساس ، ففي نص “من وراء حجاب” لمنى سلامة هناك إصرار لا ينقطع في معظم فقرات السرد للإشادة بالسلف المسلمين وإثبات الفضل لهم، سبقهم في اكتشاف شفرة حجر رشيد على سبيل المثال، وإسناد فضل اكتشاف قانون الجاذبية للبيروني وليس لنيوتن لأن الأخير من العلماء الغربيين، ويتم ذلك من خلال طريقة خطابية مباشرة في القص، و تكمن الخطورة أن المغالطات والمبالغات في نسبة الفضل للسلف تأتي في سياق تحفز فيه الروائية المسلمين على اتباع طريق العلم وهو ما لا يختلف عليه أحد، فتقدم الروائية الرسائل التي تريد ترسيخها بطريقة تستخدم دهاء العرض فتتداخل مبالغات ما تنسبه للسلف مع قيمة محبذة فيمررها القارئ رغم ما تشتمل عليه من مغالطات تاريخية وعلمية وابتسار للحقائق، فهناك فرق بين الإشارات الأولية للظاهرة وبين استواء النظريات ووضع قانون يحكم حركتها، لكنها الرغبة في ليً الحقائق لترسيخ معتقداتهم بطرق مختلفة لدى الناشئة.
كما تضع الروائية في نفس السياق السردي الآخر “الغربي” في مواجهة ومقارنة تنتصر فيها للعربي وهو مالا يوفر مناخًا من التعايش بل يخلق نوعا من التوجس والمقارنات المستمرة، بل يصل لاستلاب الفضل.
كتابة المنتقبات للرواية فعل مقاومة وإعلان وجود
وأعود للتساؤل مرة أخرى هل يمكن أن تكتب المرأة المنتقبة الرواية؟ قد يندفع الكثيرون قائلين: لمً لا، فالزيً شأن شخصي لا علاقة له بفعل الكتابة سواء كانت رواية أو ما عاداها من الأنواع الأدبية، كما أن المظهر حرية شخصية، من حق كل فرد أن يمارسها كما يحلو له مالم يضر الآخرين من حوله، وطبيعة الملابس ونوعيتها لا تمثل سوى جانب من الذات الفردية لا علاقة لها بالضرورة بما يطرح في الرواية من أفكار ولغة وبناء فني، تجيب إحداهن: “ياسمين حسن” كاتبة رواية “مارية” أن النص هو الفيصل وليس من الضروري أن يراها القارئ، كما أنها في تصريحات أخرى تقول: إنها ارتدت النقاب برغبة من زوجها قبل الانفصال عنه، في حين أنها صرحت بأنها تشعر براحة أكثر في نقابها، وعلى النقيض تفضل حين تكتب وحيدة أن تتخفف من ملابسها جميعها، كما أنها انفصلت عن زوجها لإصرارها على استكمال مشوار الكتابة، ولا ترى الالتزام بالضوابط الشرعية التي تحاولها الكاتبات المنقبات الأخريات في النص الروائي بل يمكنها كتابة مشاهد عاطفية ولا ترى غضاضة في هذا، كما صرحت أنها تلقى معارضة من أسرتها ومحيطها الاجتماعي حول الكتابة باعتبار أن صوت المرأة وبوحها عورة وأن المجتمع اعتاد أن يلجم المرأة قبل أن تحلم، وفي تلك التصريحات جميعا نلمس الكثير من التناقضات التي لا تشي بموقف فكري ناضج ومتوازن للروائية، بل مجموعة من التخبطات والتناقضات التي تنعكس على النص بلا شك فيصبح اللانضج سمة للسرد، و يمثل نص مارية ثالث نصوصها الروائية، وأول النصوص التي تنشر ورقيًا.
يتشكل نص مارية من بنية سردية تعتمد الخطابات التي ترسلها البطلة لحبيبها، وتبرر من خلاله التناقض الداخلي الذي تستشعره بعض النساء بين الزواج والحب، وتصف من خلال السرد كيف يتسرب فعل الخيانة لدى الإنسان، كما تحكي عن علاقات معقدة نفسية بين البطلة وأختها وأسرتها والشاب الذي أحبته وعلاقتها الجافة بزوجها، فيصبح سمة السرد الاستغراق في مشاعر متناقضة وأزمات نفسية واجتماعية، ونلاحظ تتابع الانفعالات في القص دون الشعور بأن النص يقدم قيمة فكرية وفنية مميزة، كما أنه لا يحمل تعدد المستويات الفنية والمعرفية التي يملكها نص روائي مميز، مستوى سطحي من السرد كل ما يميزه فعل التشويق لمعرفة كيف تبوح المرأة بأسرارها خاصة لو أنها منقبة، تمثل الكتابة في هذه الحالات محاولة إثبات الوجود، واقتناص بصمة في الحياة لدى كائنات تشعر بالتهميش، تحارب المرأة في بعض نماذجهن بالسرد لتعلن أنها مجرد كائنات تدب على الأرض، ولها بعض الحقوق والتلويح بحقها في بعض الحريات الاجتماعية، وأن الطبيعة لم تركل النساء بقوة في ظهورهن فأصبحن عديمات الفائدة يسيًر الآخرون مقدرات حياتهن لأنهن ناقصات عقل ودين، خاصة وأن البطلة تعيش بالسعودية إحدى المجتمعات شديدة المحافظة على المستوى السطحي.
وتمثل ياسمين حسن في ظني حالة خاصة من الكاتبات فلقد تم توظيف الطقس الشكلي الخاص بها من قبل دار النشر؛ لخلق حالة من الفضول لدى القراء وهو ما يضمن للنص الرواج والانتشار ودخوله دائرة “البيست سلر” بغض النظر عن القيمة الفنية، كما يحدث في أوروبا حين تهتم بعض دور النشر بأعمال الكاتبات العربيات لكشف عوالم غامضة اجتماعية لديهم تتمثل في بوح عالم الحريم الغامض المعتم عليه، حيث الحياة ضمن حركة خفافيش الظلام ومحظوراتها، كما أن هناك تنوع في طبيعة حالات الكاتبات المنقبات، فبعضهن تقع في منطقة الصراع بين ما تريده بالفعل وما يفرض عليها من وسطها الاجتماعي ويمثل ضغوطًا قاهرة.
النقاب زيٌ غرائزي
يمثل النقاب في مدلوله العميق قصد التعتيم على المرأة وحجب كيانها مكتملا، تغليب كونها جسدًا جالبًا للفتنة وقابلًا للتفجير، الاشتعال في ذاته، وفي من حوله من الرجال، ولذا فمن الواجب تغطيته وستره، حجب الجسد ونفيه رغم وجوده يؤول لاختزاله في منطقة المتعة فقط، وتلك نظرة غرائزية بحتة للكيان الإنساني المرأة، منظور يختزل وجودها في الجانب المادي الجنسي فقط، ويهمًش إمكاناتها الأخرى وأدوارها بالحياة التي تتطلب الكشف والوضوح والقدرة على المواجهة، فالتجلي الراقي يفرض مستويات وجود متعددة، وليس شكل وتضاريس الجسد وفتنة الملامح فقط، لكل كاتبة روائية أن تعاود التفكير في أن النقاب فعل وجود في القيد، فعل ومظهر يكبل انطلاق الإنسان وفعل الإبداع.