لا يمر أسبوع واحد إلا ويتجدد الحديث عن قضية المرأة في الكنيسة، لاسيما في الكنيسة القبطية. إذ أثارت توصيات مؤتمر كهنة الكنيسة القبطية في المنيا الجدل. ذلك بعد أن نصت على استبعاد المرأة من العمل في الكنيسة. ولا يقصد بالعمل هنا العمل الكهنوتي الذي تمنعه قوانين الكنائس التقليدية، مثل القبطية الأرثوذكسية والكاثوليكية. بل العمل الإداري أيضًا.
المرأة في الكنيسة.. ممنوعة بالظرف الاجتماعي
هذا الأمر فسره الأنبا مكاريوس، في تصريحات خاصة، بقوله: إن توصية مؤتمر الإيبراشية بشأن المرأة يأتي ليتناسب مع ظروف اجتماعية في المنيا تحديدًا. وهي تختلف عن أماكن أخرى قد يكون عمل المرأة بها مقبولاً. مبررًا أن هذا الإجراء اتخذ بشكل تدبيري، دون وجود تجاوزات أو شكاوى.
يؤكد الأنبا مكاريوس أن المرأة تقدم خدمات متعددة في الكنيسة، مثل خدمات الأطفال والمرضى والفتيات والمسنين وغيرها. بينما من غير المناسب أن تقيم داخل الكنيسة في وظائف مثل المكتبة أو الكانتين. رغم وجود مكرسات يقمن خارج مبنى المطرانية، ولا يسمح مطلقًا بإقامة فتاة أو سيدة داخل المبنى، وإن كان ما تقدمه النساء يمثل نجاحًا باهرا في خدمات متعددة.
تتخذ قضية المرأة في الكنيسة القبطية أبعادًا فلسفية ولاهوتية. وهي تتصل في المقام الأول بعدة أفكار متوارثة، تربط المرأة بالخطية. مثل فلسفة البدلية العقابية، التي تتهم ضمنًا المرأة بالخطية الأولى؛ سبب طرد آدم من الجنة.
طريدة الخطية الأولى.. المرأة في فلسفة البدلية العقابية
يشرح الباحث مارك فليبس فلسفة البدلية العقابية؛ فيقول: تبدو الرؤية الكنسية للمرأة منذ القديم محكومة بكونها “جسدًا”، مقيدًا بالفكرة العتيقة عن حواء “أُس الإغواء”، التي أخرجت جنس البشر من الفردوس الأول. ذلك ضمن ما تطور لاحقًا في “البدلية العقابية”.
وفق مارك، فإن هذه الرؤية تستند على حرفية النص الديني، ووجود آدم وحواء التاريخي. ومن ثم تظهر هنا ضرورة تبني التفسير الرمزي لرواية الكتابة المقدس عن الخلق، والواردة في سفر التكوين.
يشير مارك إلى أن إعادة تفسير هذه الرؤية حدثت حين عمل عدد من آباء الكنيسة على أنسنة تلك الرواية وإعادة تأويلها.
البعد الثاني في تماس قضية المرأة مع الكنيسة، يطرحه على السطح الأنبا بفنوتيوس، مطران سمالوط. ذلك حين نشر كتابه “المرأة في الكنيسة”، والذي أكد فيه على السماح للمرأة بالتناول من الأسرار المقدسة في فترة الحيض. الأمر الذى تسبب في جدل داخل المجمع المقدس، واضطرت بعده الكنيسة للتأكيد على عدم جواز ذلك.
هنا، يعلق مارك، فيقول: هناك إشكال دائم في الكنيسة القبطية تجاه قضية الجسد بشكل عام، سواء للرجل أو المرأة. وهي الأزمة التي تلقي بظلالها على طبيعة معاناة المرأة داخل الكنيسة أو عن حدود وجودها داخل الكنيسة كفضاء، سواء في طقس التناول أو في الاشتراك في الممارسات العقائدية، أو حتى قيادتها. وهو يؤكد على ضرورة أن تعمل الخطابات اللاهوتية على شخصنة المرأة والتعامل معها ككيان حي يتجاوز حدود الجسد.
المرأة في الكنيسة.. استبعاد يحرمنا خبرات كبيرة
المقدمات تؤدي إلى نتائج مشابهة، فإذا كانت المرأة مستبعدة من ممارسة الأسرار الكنسية أثناء فترة الحيض، فمن الطبيعي أن يتم استبعادها من لعب أدوار إدارية داخل المؤسسة الكنسية. وهو الأمر الذى يحرم الكنيسة كمؤسسة من خبرات نسائية كبيرة.
باستثناء عمل النساء في الخدمة الروحية مثل مدارس الأحد أو حتى خدمتها الاجتماعية الكنسية مثل المكرسات (راهبات يخدمن في العمل الاجتماعي)، فإن المرأة مستبعدة من عملية صنع القرار الكنسي.
وفي حين تترأس راهبات نساء أديرة للفتيات، فإنها لا تحظى بعضوية المجمع المقدس (الهيئة العليا للكنيسة)؛ لأنها لا تحصل على سر الكهنوت. وهي كلها نتائج تترتب على نفس المقدمة، وفق ما يلخصه مارك، فيما يسميه “أزمة السلطوية” من ناحية، وبسبب “سيطرة الذكورية” من ناحية أخرى.
يقول: السلطوية أصل ثابت في الممارسة الكنسية، وهي تتجلي بأشكال طقسية وفكرية عدة. ليس أقلها إقصاء المخالف في الرأي اللاهوتي و”حرمانه” من الشركة الإفخارستية (سر التناول). إضافة إلى مظاهر التبجيل المبالغ فيه لرجال الكهنوت. ويؤكد أن هذه السلطوية في الواقع لا تعرف التفضيل في سلطويتها بين ذكر وأنثى.
“نختار حياة”.. توصيات لتعديل وضع المرأة كنسيًا
غياب المرأة عن المؤسسة الكنسية كان أبرز التوصيات التي أشارت إليها وثيقة “نختار الحياة”، التي أطلقها لاهوتيون عرب، انتقدوا فيها أوضاع الكنائس الشرق أوسطية. وقد طالبوا بضرورة إعادة النظر في وضع المرأة كنسيًا، وكذلك الشباب. بينما يرى مارك كباحث في اللاهوت ما يسميه بغياب للكوادر النسائية حاليًا، التي تستطيع أن توازي تاريخا من مشاركة المرأة في الكنيسة.
يوضح: استطاعت المرأة في الكنيسة الأولى أن تفرض نفسها حتى لا يتم تجاهلها عمدًا من “الذكور” الممتلكين لمقدرات الفكر والسلطة. فقد اتخذت المرأة موقع المعلم مثل ميلانا الشيخة Melena التي ذكرها بيلاديوس في تاريخه اللوزياكي.
“كانت ميانا متعلمة جدًا ومحبة للأدب، واطلعت على ملايين السطور لأورجانوس وغريغوريوس وباسيليوس”.
من بين الأمثلة التي ساقها مارك عن المرأة في الكنيسة الملكة هيلانة أم الإمبراطور قسطنطين، ومونيكا القديسة أم المغبوط أغسطينوس، كما كانت المكرسات والراهبات تُعتبر مُثلاً جلية للبتولية والتعفف والفضائل الروحية.
في الأدب المسيحي، هناك تأبين جيروم للأرملة الرومانية مارسيلا، وفوق الكل، مديح ق. غريغوريوس النيسي لأخته القديسة ماكرينا، التي قادت أخيهما باسيليوس نحو التكريس المسيحي، واشتركت في نقاش فلسفي عميق على فراش موتها، وقادت حركة روحية كبيرة للمتبتلات، وفي العصر الحديث هناك المؤرخة القبطية العظيمة إيريس حبيب المصري.