التنشئة ضمان نهضة المجتمع
ربما أفاجيء البعض بطرح قد ينعتونه بكونه “مستحيل التنفيذ”، يتبنى رؤية محددة المعالم تؤكد على ضرورة الانتقال من الانشغال بتطوير التعليم بوصفه نقطة محورية للنهوض بالمجتمع إلى الانشغال بـ”التنشئة” بوصفها عملية اجتماعية متكامة الأبعاد، يمكنها أن تحدث قفزات نوعية في عملية التطوير المستهدفة، تقودها المدرسة بوصفها المؤسسة الاجتماعية القادرة على قيادة عملية التطوير، في سياق نظرة تكاملية تدمج المؤسسات الاجتماعية المختلفة المعنية بالتنشئة داخل المجتمع المصري من مؤسسات ثقافية ورياضية وتضامنية.. إلخ، في إطار عمل موحد يستهدف تنشئة الطفل المصري وإعداده للمستقبل عبر خارطة طريق تملتلك برنامجًا زمنيًا وتنفيذيًا واضحًا من ناحية، وأدوات متابعة وتقييم تتسم بنفس الوضوح من ناحية أخرى، وهو ما يعني قدرة المجتمع عبر مؤسساته الرسمية والأهلية على متابعة عملية التطور والمشاركة فيها في إطار من الحوكمة والمحاسبية، والقدرة على تقييم الأثر ورصد الإنجاز، في ظل إيمان عميق بأن المواطنين هم المورد الرئيس للمجتمع في طريقه نحو التقدم والنهضة وبناء الدولة الحديثة، والمواطنون المتعلمون هم عنصر الأمان في نجاح أي بلد من خلال الاستثمار في التعليم لتعظيم قدرة المجتمع على مواجهة التحديات وحل المشكلات وضرورة زيادة معدلات الإنفاق على مؤسسات تنشئة الطفل (مدارس – ثفافة – إعلام …الخ).
ويقتضي تحقيق هذه الرؤية الالتزام بتوفير “دعائم التعليم الأربعة” التي طرحتها منظمة اليونسكو كعنصر استرشادي يحكم طبيعة ونوع التعليم الذي نريد وهي، التعلّم من أجل المعرفة، التعلّم من أجل العمل، التعلم من أجل البقاء، والتعلّم من أجل العيش معاً، والذي يتضمن تنمية فهم الآخر وإدراك أوجه التكافل بين البشر في ظل احترام التعددية والتفاهم والسلام والتنوع الثقافي.
الوضع الراهن
إن واقع التعليم في مصر يبرز عديدًا من نقاط الضوء والتى تمثل مؤشرات إيجابية، وعديد من الإنجازات والأنشطة التى تعكس اهتماماً بالطفل وتعليمه وثقافته، ولكن يعكس هذا الحال أيضاً عدداً من المؤشرات السلبية التى اجتمعت عليها عديد من الدراسات والبحوث وأوضحتها خطط العمل العربية المختلفة وأيداتها التقارير المختلفة حول واقع الطفل، إذ تؤكد جميعها على:
– واقع الأمية الواسع والمنتشر بين الأطفال، والذى يعكس صعوبة استيعاب المؤسسة التعليمية كافة الأطفال فى سن المدرسة وضمان استمرارهم، نتيجة إلى انتشار ظاهرة التسرب من التعليم فى مراحله الأولى والذى ينتج عنه عديد من المشكلات الاجتماعية مثل ظاهرة عمالة الأطفال – ظاهرة أطفال الشوارع – ظاهرة جنوح الأطفال.
– النقص أو الضعف فى الموارد البشرية المتخصصة والمدربة من معلمين ومشرفين على الخطط والمنفذين لها وكذلك الخبراء والإداريين، وطغيان الأسلوب البيروقراطى على المرونة اللازمة، ونقص الوسائل والمرافق والتسهيلات، ونقص البحوث والدراسات، ونقص قاعدة البيانات والمعلومات.
– غياب التنسيق بين القطاعات الحكومية المختلفة وبينها وبين القطاع الأهلى والمؤسسات غير الحكومية العاملة فى مجال الطفولة، وتضارب الاختصاصات والأنشطة فيما بينها.
– على الرغم من المؤشرات الإيجابية العديدة، فإن الواقع لا يعبر عن المركز الهام الذى ينبغى أن يحظى به التعليم والثقافة من ناحية والطفولة من ناحية أخرى حيث إن ملامح التدفق التعليمي والثقافى لا تزال دون مستوى الطموح والتطلعات، والسياسات التعليمية والثقافية مازالت لا تحمل أي طابع عام، سواء على المستوى المحلى أو على المستوى القومى.
– ضعف الموازنات المخصصة للتعليم والثقافة، والذى يؤدى بدوره إلى صعوبة اكتمال العناصر اللازمة لتطوير منظومة التعليم والعمل الثقافى، ومواصلة الأداء المتميز فى عديد من المشروعات الهامة، وتوقف عدد من الأنشطة عن العمل والتوقف عن التطوير الدائم للخدمات التعليمية والثقافية، وصيانة الأبنية، بالإضافة إلى التوقف عن تطوير الكوادر الفنية المتخصصة واستيعابها للتطورات المتلاحقة والتدفق الرهيب للمعلومات الذى يتسارع بصورة كبيرة مذهلة فى عالم اليوم وتتضاعف سرعة تدفقه.
تواجه مصر إذن تحديات تتعلق فى صميمها بقضية المصير، فى ظل واقع حضارى وثقافى ينبئ عن كثير من نقاط الضعف منها:
- عدم مسايرة السياسات التعليمية والثقافية لحاجات المجتمع وتطورات العصر.
- الأمية الثقافية التى تتعدى المعنى الضيق لمفهوم الأمية.
- سيادة الثقافة السطحية، وسيادة القيم الاستهلاكية، حيث يتم تحويل المجتماعات النامية إلى كائنات استهلاكية مادياً وفكرياً، وتهميش الحضارات والثقافات الأخرى ومن بينها المجتمع المصري.
- غياب الرؤية الشمولية فى السياسات التعليمية.
- غياب الفلسفة الاجتماعية التى يبنى عليها فلسفة تربوية واقعية ومتماسكة.
ومن خلال ما سبق يبدو بوضوح حجم التحديات المفروضة على مجتمعنا، وحجم الجهد الذى ينبغى أن يبذل فى ظل عالم جديد، من السابق لأوانه الحديث عن ترتيبات جديدة تجرى فى إطاره، وينبغى أن يشارك مجتمعنا فى صناعته وتشكيله، ويصبح لنا دور فعال فى صياغه آلياته.
التطلع إلى المستقبل
كلما كان بلد ما يرغب فى توفير موارد لتطوير الطفل كافية لتزويد كل طفل بإعداد أفضل للحياة، وكانت لديه القدرة على ذلك زادت الفرصة أمامه لتحقيق ابتعاد حاسم عن الحلقة المفرغة للفقر والركود الاقتصادى، بوصف النهوض بالطفولة ركيزة أساسية للنهوض بالمجتمع وتنميته ، وباعتبار التنمية فى صميمها هى طموح الأمة الحاضرة نحو إنجاز حياة أفضل للحياة القادمة، على حد قول خبير الاقتصاد العظيم الدكتور إسماعيل صبري عبدالله، إذ يلتقى النهوض بالإنسان وتنمية وعيه وتطوير إمكاناته، وتوفير الظروف الاجتماعية والإنسانية الملائمة، التى تساعده على الإنجاز والإبداع، مع تنمية البيئة الأساسية، والنهوض بمجمل الظروف المادية، ذلك لأن الإنسان هو الصانع الحقيقى لنهضة المجتمع، في ضوء محددين رئيسين ألا وهما:
– إن وسائل التنشئة متعددة، ولكنها مطالبة جميعها بأن تصب فى مجرى التنمية الشاملة والمستدامة للمجتمع، باعتبار التنشئة إحدى المكونات الرئيسية لسياسة إنمائية ذاتية ومستدامة، وعليه ينبغى تنفيذها بالتنسيق مع المجالات الأخرى فى إطار منهج متكامل، وعلى أن تراعى كل سياسة – من أجل التنمية – التنشئة بالقدر الكافي.
– لاتستهدف التنشئة (نقل الثقافة)، بل الانتقاء الإيجابى لعناصرها المؤثرة وإثراءها، والانعطاف بالقيم والمعايير والمعانى تحقيقا ًلهدف أسمى وهو السعى لتشكيل ثقافة تتوافق وروح العصر، وتتلاءم مع تطلعات المستقبل، وتتأسس على ترسيخ وعى أصيل بالذات.
المعلم يقود منظومة التطوير
وقد لا يكون هناك شئ أكثر أهمية فيما نتوسمه فى المستقبل القريب أو البعيد من هذا الإلحاح الشديد على ضرورة مواجهة العالم الجديد بفكر جديد، إذ إن علينا -فى مواجهة هذا كله- أن نستنهض وعيا أصيلاً شاملاً يعود بالأشياء إلى أصولها العميقة وجذورها الضاربة، فى الوقت الذى يمتد بها إلى مستقبلها البعيد واحتمالاته البعيدة، وتلك هى المهمة الصعبة التى تنتظرنا ونحن فى مستهل القرن الجديد، إدراكاً لأن الوعى الأصيل المعافى هو وحده القادر على أن يسبك معطيات الماضى ورؤى المستقبل فى دائرة فعله الخلاق.
سمات المعلم / الميسر للعمل مع الأطفال
الإبداع: مبدع يحسن توظيف مالديه وماهو متوفر حوله من موارد بأفكار بسيطة.
الرسالة: لكل منهم دور يؤدِّيه؛ دور مع نفسه ومن حوله، ولكلّ منهم تأثير يصنعه سواء على نفسه وذاته أو من حوله.
الفاعلية: مبادر يمتلك القدرة على تحفيز من حوله كي يشاركونه.
العمل في فريق: يؤمن بأن التغيير لا يتم منفرداً، والاختلاف بالنسبة له تنوعاً ومورداً يبني عليه، لأنه يمتلك المرونة وروح التعاون.
الإخلاص: يؤمن بدوره في التغيير ويعمل من أجل تحقيقه، ولديه روح تحد ومثابرة تدعمها رغبة وقدرة على الإنجاز.
الحلم: لكل منهم حلم يسعى إلى تحقيقه لنفسه ولمن حوله، حيث يمنحه الحلم وضوحا في الرؤية.
القدوة: يمثل التغيير الذي يود أن يراه من حوله، ويمثل مصدر إلهام للأطفال، ويمتلك المصداقية التي تؤهله للعمل معهم.
الكفاءة: يمتلك المعلومات والمهارات اللازمة للعمل مع الأطفال، ويمتلك الرغبة والقدرة على التعلم الذاتي والمستمر.
خطوات نحو الإنجاز وتحقيق الحلم
تطوير ثقافة المؤسسة التعليمية
لكل مؤسسة اجتماعية وظائف وأدوار (رسالة) تتحدد وفقا لرؤية المجتمع الذي يحدد رؤيتها العامة التي تريد تحقيقها، ومن ثم تنقل المؤسسة هذه الرؤية لأعضائها لتشكل هويتها التي تنتقل عبر أجيالها المتعاقبة، وعادة ما تتسم هذه الثقافة/الهوية بثلاث سمات أساسية:
أولا: الشمولية
وتعني قدرة رؤية المؤسسة على تغطية كافة أبعاد العمل، والإجابة على كافة الأسئلة التي يطرحها الواقع دون استثناء، ومن ثم التعامل مع التحديات.
ثانيا: الإنجاز
وتعني قدرة المؤسسة على الوصول لنتائج ومخرجات واضحة ومحددة يمكن قياسها.
ثالثا: الانسجام
وتعني غياب التناقض والتنافر داخل مضمون رؤية المؤسسة من ناحية، وبينها وبين أعضاء المؤسسة المنفذين للرؤية من ناحية أخرى، وبين كل من الرؤية والمنفذين وآليات العمل واستراتيجيات التدخل من ناحية ثالثة، بما يعني ضرورة التناغم بين الرؤية والرسالة والمهام والقائمين عليها، مما يعني ضرورة إنماء التعلم بالرؤية المطروحه للتطوير وآليات العمل.
وضع معايير الإنجاز
وهو ما يفرض مجموعة من التحديات التي تتعلق بطبيعة عملها من ناحية، وبطبيعة الدور الذي يجب أن تؤديه من ناحية أخرى، تحتاج في مجملها إلى ابتكار آليات عمل غير تقليدية تمكنها من صياغة ونشر (خطاب) قادر على الانتشار والإقناع (وكسب مؤيدين) على المستوى المجتمعي، وقادر على التغيير وتحقيق مطالبه على المستوى السياسي، الأمر الذي يعني الدخول في مواجهة (مزدوجة) مباشرة؛ مع الثقافة الاجتماعية الحاكمة؛ ومع الثقافة السياسية السائدة، وعلى أن يمتاز هذا الخطاب بتوجهات وإجراءات واضحة ومحددة في سياق إعادة هيكلة المنظومة التعليمية الرسمية، من ناحية الشكل والمضمون، بوصفها أحد الأسباب المسئولة عن كثير من المشكلات (الأعراض) التي تعتري الواقع الاجتماعي المصري، على أن يكون هذا بوصفه جزءا من منظومة عملها، وعنصرا ضمن أهدافها، وإن كان يحتل مكانة خاصة، نظرا لظرفية راهنة تستدعي هذا في ضوء عدد من المعايير الأساسية تتمثل في:
– وضوح الرؤية ووحدة الأهداف.
– توافر المعلومات وإتاحتها.
– التأهيل المستمر للقائمين على التنفيذ.
– المشاركة في صنع القرار للقائمين على العمل.
– التطوير المستمر من خلال التعلم والإبداع.
– بناء الشراكات.
– بناء الخطط وتوفير الموارد.
– القيادة الفعالة.
– الوضع في الاعتبار النتائج المنشودة.
– الوضع في الاعتبار الفئات المستفيدة والمستهدفة.
– توافر الانسجام بين النظرية والممارسة.
وحدة الرؤية وتنوع الأهداف (اللامركزية وبناء الثقة في المجتمع المحلي)
ضرورة الدفع نحو تبني اللامركزية (اللامركزية ليست نصا قانونيا فحسب بل هي ممارسة واقتناع من جميع الأطراف بجدوى الحكم المحلي) في المؤسسات المعنية بتنشئة الطفل وحمايته (المدارس – المراكز الثقافية – المراكز الرياضية – دور الرعاية …الخ) والعمل على ضمان توفير فرص متكافئة لكل الأطفال للحصول على التعليم والثقافة والصحة والحماية الاجتماعية.. إلخ، في ضوء الاعتبارات الآتية:
– التنسيق بين المؤسسات المعنية بتنشئة وحماية الطفل.
– تعزيز نظم المعلومات لتوفير بيانات دقيقة تنير القرار في مجالات تنشئة وحماية الطفل.
– الاستفادة المثلى من الموارد.
آلية محلية
إنشاء لجنة محلية مشتركة تمثل القطاع التربوي والصحي والثقافي والرياضي والاجتماعي والإعلامي (اللجنة النسيقية لتنشئة الطفل)، للتنسيق بين القطاعات المتنوعة المعنية بالطفل وتهدف إلى رسم السياسة العامة للطفولةفي المجتمع المحلي، وتوفير الإطار الوقائى والعلاجى لدعم ومساعدة الأطفال، وتكون مسئولة عن سلامة الأطفال من الناحية البدنية والعقلية والاجتماعية.. إلخ، وتقدم الدعم الخاص للأطفال الذين يعانون من الظروف الصعبة، وصعوبات في التعلم، وإتاحة الفرص للحصول على المساعدة عندما يحتاجونها. على أن تمنح مؤسسات الطفولة المحلية حرية اتخاذ القرار بالمشاركة مع قيادات ومؤسسات المجتمع المحلي لدعم تنفيذ أهدافها.
التفاعل الإيجابي يدعم التطور
– المعلم/ الميسر يقود العمل، حيث يتم تحديد الأهداف العامة للتنشئة على المستوى القومي، بينما يمنح المعلم/الميسر حرية اختيار الواسائل والطرق والأدوات المناسبة للتواصل مع الطفل والتفاعل مع المضمون أو المحتوى التربوي/الثقافي.
– توفير مناخ من التعاطف والاحترام المتبادل داخل المؤسسات الاجتماعية المعنية بتنشئة الطفل.
– توفير فرص لكل الأطفال لتلقي الفنون وممارستها.
تكافؤ الفرص
– تعليم مجاني موحد لجميع الأطفال يضمن حصول كل الأطفال على نفس فرص التعليم دون تمييز.
– تطوير مستوى المدرسين والميسرين وتأهيل القائمين على تنشئة الطفل معلم/ميسر من الناحية العلمية والتربوية.
السياسات والتشريعات الحاكمة
– ضرورة دعم وجود سياسات حماية لمؤسسات الطفل تضمن منظمات آمنة للأطفال.
– مراجعة التشريعات الوطنية لتتوافق مع رؤية التنشئة الجديدة التي تدعم مبادئ عدم التمييز وتكافؤ الفرص وحرية الاختيار وإتاحة فرص الإبداع للأطفال.
– دعم وتطويرموازنات مالية عامة (الدولة) صديقة للطفل.
– ضمان أن جميع الأنشطة تتسم بحساسية لحقوق الأطفال.
– دعم مبادئ الحوكمة والشفافية.
– هيكلة مؤسسات الطفولة (المدارس –المنظمات الاهلية – المراكز الثقافية – المراكز الرياضية – دور الرعاية .. إلخ) ونظامها الأساسي ولوائحها لتتوافق ومبادئ نموذج التنشئة الجديد.
– تنفيذ برامج تدريبية للأشخاص المعنيين، ويندرج في عدادهم المسؤولين في الوزارات والمعلمين والعاملين الاجتماعيين والآباء.. إلخ.
– دعم البحث العلمي.