في اجتماع دعيت إليه لمناقشة رؤية بعض الأحزاب في قضية الدستور ومواده في العام 2012 على ما أذكر. تطرق الحضور -وهم نخبة من الساسة والمثقفين- لقضية الحريات، وهي في واقع الأمر قضية شائكة، وخاصة في مجتمعاتنا التي يغلب على أفرادها الطابع المحافظ.
وهذه الشخصية المحافظة عادة ما تخشى التغيير وتقاومه، عن وعي وقصد أو دون وعي وبلا قصد، فعندما تتحدث عن الحرية تجد هذه الشخصية تقرنها بكلمة المسئولية، ذلك لأن غالبيتنا يربط في ذهنه ربطا آليا بين مفهومي الحرية والفوضى بوصفهما تعبيرا عن جملة ممارسات غير مقبولة اجتماعيا، ونجدها تتزيد في الحرص وتقرن كلمة الحرية إلى جانب كلمة المسئولية باستطراد كاشف وهو “مع مراعاة خصوصية وثقافة المجتمع”. وهو أمر استوقفني كثيرا خاصة عندما تطرق الحديث إلى مسألة حرية العقيدة، فاتفق الحضور على (حق الإنسان في أن يعتقد ما يشاء وأن يمارس شعائره سواء أكان مسلما أم مسيحيا أم يهوديا)، وهي جملة دالة على التركيبة الذهنية لغالبيتنا، تعبر عن إنكار تام لأية (عقيدة) أخرى خارج ما يطلق عليه البعض (الديانات الإبراهيمية) وما يطلق عليه غالبيتنا (الديانات السماوية).
وما بين “الحرية المسئولة التي تراعي خصوصية وثقافة المجتمع” وحرية العقيدة التي تعني “حق الإنسان في أن يعتقد ما يشاء وأن يمارس شعائره سواء أكان مسلما أم مسيحيا أم يهوديا” تتكشف بوضوح طبيعة التركيبة الذهنية لـ”لعقل الجمعي” الذي يسيطر على ثقافتنا وممارستنا اليومية، ويجعل من القلة التي قد تخرج عن هذا السياق الاجتماعي (مستغربة) وهو رد الفعل (المستحب) من هؤلاء الذين يزعمون أنهم (معتدلون)، ومرورا بردود فعل متفاوتة في التصاعد حتى تصل إلى قمة القائمة (المفسدون في الأرض) التي يسمهم بها المتشددون في العادة.
وهو ما يضع هؤلاء (الأقلية) في موضع (المضطر) لأن يتخذ رد فعل ما في مواجهة هذ الصفات التي ينعتهم بها الأغلبية (خاصة أنها تنتقل من كونها مجرد كلمات لأن تصبح طريقة في التواصل والتعامل) والتي يترتب عليها في كل الأحوال مزيدا من المعاناة لهؤلاء المختلفين، ومزيدا من القسوة من قبل الاغلبية التي تتطلع عبر هذه الممارسات إلى مرضاة الله ومباركة المجتمع.
الطبيعي والثقافي في سلوك البشر
يخلط كثيرون بين ما هو طبيعي (من الطبيعة أو العالم) وما هو ثقافي (من صنع الإنسان) في منظومتهم الفكرية، فيرون ما توارثوه ثقافيا بوصفه تعبيرا عن الطبيعي، وما عداه من ممارسات لأفرد أو مجتمعات هو شاذ عن الطبيعي، ويؤسس المجتمع عبر منظومته المعرفية/الثقافية لهذا الخلط ويقويه، فهذه المنظومة هي وحدها القادرة على الحفاظ على تماسك المجتمع عبر التأصيل لمفهوم مراوغ وهو (الهوية والخصوصية الثقافية).
وهو أمر يمنح أفراد المجتمع نوعا من الفخر والانتماء، ولكنه يجعلهم ينظرون بتعال زائف للمختلف والمغاير، حتى أولئك الذين يبدو تفوقهم المادي واضحا يظل نقصهم عبر افتقادهم لهذه المنظومة الثقافية التي يملكها المجتمع وهذه (الخصوصية الثقافية العظيمة) التي تمثل مناط فخرهم.
في حادثة جرت إبان الاكتشافات الجغرافية الحديثة للأميركتين، وتروى على سبيل التندر، طلب من أحد قادة السفن الحربية أن يقدم تقريرا حول أداب، وعادات، وتقاليد، سكان إحدى جزر المحيط الأطلنطي، وعندما عاد قدم تقريره وكان على النحو التالي: إن سكان هذه الجزيرة ليس لهم أداب، أما عن عاداتهم وتقاليدهم فشنيعة ومتوحشة. ولا يصعب على المرء أن يكتشف أن قائد السفينة عندما قدم تقريره هذا إنما كان يتحدث عن أداب وعادات أهل الجزيرة مقارنة بما يراه صائبا، أو (ما ينبغي أن يكون) من وجهة نظره الخاصة، أي وفقا لعادات وأداب مجتمعه/ثقافته، التي أدخلها في مقارنة مع عادات وتقاليد وأداب سكان تلك الجزيرة،
فعاداتنا وتقاليدنا تنشأ في إطار منظومة اجتماعية/اقتصادية، تتشكل وتتأصل في زمن يعبر عن لحظة تاريخية ما في صيرورة تاريخ المجتمع، ومكان له سماته البيئية والجغرافية والأركيولوجية، وكلاهما يضفي على المجتمع من خصائصه وسماته، فالجدل الذي يحدث بين الإنسان وعناصر الطبيعة المحيطة به والتي تؤثر وتتأثر بالتفاعلات الإنسانية، تشكل منظومته الثقافية من عادات وتقاليد وأداب، في إطار رؤية الإنسان وعلاقته مع العالم ومع الإله.
وفي حقيقة الأمر أنني أوردت هذه الرواية لمناقشة (قائد السفينة) وليس لمناقشة موضوع تقريره المنحاز، إذ تعبر سلوكيات (قائد السفينة) ومواقفه، ومنطق تفكيره عن كثير من أفراد مجتمعنا، فنحن مع الوقت نكتسب عادات تفكير تتكون ضمن عاداتنا اليومية المألوفة، فحياتنا اليومية توجهها إلى حد كبير أنماط سلوكية تأصلت داخلنا على مر الأيام والسنين بوصفها عاداتنا الأصيلة، نستيقظ من النوم كل صباح ونقوم بفعل ما اعتدنا على فعله، ثم نذهب إلى العمل بنفس الطريقة المعتادة يوميا … الخ.
إن هذه العادات اليومية تجعلنا في واقع الأمر نقتصد فيما نبذله من الجهد المطلوب لإنجاز واجباتنا اليومية، ومن ثم لا نقوم باكتشاف طرق جديدة للذهاب إلى العمل، أو فعل ما يتوجب علينا فعله يوميا، وهذا ما ينطبق على طرق تفكيرنا، وتكوين آرائنا، فعندما نستمع إلى الأخبار أو نقرأها في جريدة ما، نكون في أغلب الأحيان منحازون لموقف مسبق في هذه القضية أو تلك، حازمين لاختياراتنا، محددين لمواقفنا، ومن ثم لا نجهد أنفسنا في تكوين آراء جديدة، فعادات التفكير تجنبنا ضرورة اتخاذ قرارات جديدة في موضوعات تبدو بالنسبة لنا موضوعات قديمة، وفائدتنا الوحيدة من وراء هذا هو الاقتصاد في الجهد الفكري المبذول.
ربما يبدو هذا مألوفا واعتياديا ومفيدا في اللحظة الأولى، وقد يوافق عليه البعض بوصفه أمرا مفروغا منه، بل ويستحسن ما قام به (قائد السفينة) حيث ربط ما هو معلوم لديه بما هو مجهول ليصل لحكم ما، (وهذا حقه ووجهة نظره)، حيث نقوم جميعا بفعل هذا بشكل يومي، إذ نحكم مطمئنين على الآخرين، ونضعهم في قوالب وأنماط، نتخذ منها موقفا، ومن ثم نغلق القضية ونحن فرحين واثقين، ولا نرضى لأحد أن يشكك في مواقفنا واختياراتنا، وعندما نستمع إليه نستحضر أنماطنا و(عادات تفكيرنا) وبالتالي مواقفنا قبل أن ينتهي من حديثه.
وهنا تأتي اللحظة الفارقة عندما أكون أنا هذا الشخص، ومن ثم سيتم معاملتي تلقائيا بالمثل، فإذا كان لدي عادات تفكير راسخة، فالآخر يمتلك عادات التفكير خاصته، وربما تكون أكثر رسوخا، ويقع مثلي في أخطاء تبدو لي طبيعية، فلديه أحكامه المسبقة، ويمتلك قوالب يضعني في أحدها بالفعل، ويقع في نفس فخ نفاذ الصبر، ومن ثم فموقفه محدد سلفا ولا يمكن له أن يغير مبادئه.
وهنا نحن أما (حدث) يسلم نفسه ببساطة ساذجة لمن يسعى إليه، ويخبره في خجل مصطنع، بأن أبطاله مدفوعون إلى الهاوية، وعازمون على استقبال مصيرهم دون مقاومة. فـ “الهامش” يتغول على المتن، والأطراف تعاقب تسلط المركز، يأتي المغمور ليحتل صدارة المشهد، ويفرض سطوته التي كانت لوقت قريب تتجاهلها “النخب” القابعة في بؤرة الحدث.
تأتي الثقافة المطمورة والمهمشة والمهجورة لسنوات لتستنشق هواء الحداثة (المتوهمة) التي صاغها أسلافنا تحت وطأة الصدمة والانبهار، والتي تبناها نخبة صنعها (الحاكم) بعطاياه السخية. تتصدر مقولات لا تحوي سوى (سذاجة وسطحية) عناوين الأخبار، وتحويها كتب هي الأكثر مبيعا. وبينما يتقدم العلم بفروعه المختلفة من خلال قفزات هائلة، وتتزايد حجم المعلومات والمعارف باطراد غير مسبوق يحتل اليمين المتطرف قلوب ملايين البشر ويسيطر على عقولهم عبر التكنولوجيا الحديثة وتطبيقاتها المتطورة.
ممارسات عنصرية في مواجهة الآخر/ المختلف
تتجلي هذه المنظومة الثقافية المتكاملة وتحكم أذهاننا في صورة ممارسات تتكشف أمامنا بشكل يومي -في ظل هذا التقدم الهائل في تكنولوجيا الاتصالات- فنجدها حاضرة بقوة وكأنها تحدث في محيطنا الجعرافي وإليك بعض الأمثلة:
في مباراة لكرة القدم في إحدى دول الاتحاد الأوروبي تشير الجماهير نحو لاعب كرة قدم أسود وهم يحملون في أيديهم “ثمار الموز” إشارة إلى أن اللاعب الأسود ينتمي لفصيلة القرود…
يرفض شخص “مسلم” تناول كوب من العصير في محل لبيع المشروبات الباردة لأنه اكتشف أن صاحبه “مسيحي” …
في ندوة عن التنوع الثقافي والاثني في السودان تنصح صحفية “مصرية” بضرورة إخراج هذه القبائل من “التخلف” والعمل على إدخالها في التحضر وفي الإسلام …
في جلسة عائلية تسخر إحدى النساء السودانيات من “دينزلي واشنطن” وتنعته بالعبد …
رجل بوليس أمريكي يوقف شخص يبدو من ملامحه أنه عربي/مسلم ويبدأ في تفتيشه والتعامل معه بوصفه “إرهابيا مجرما” فقط لأن ملامحه عربية.
يسخر أحدهم من رجل لا يعرفه لأنه فقط يتحدث بهدوء وليونة وينعته بالأنثى
الممارسات السابقة جميعها تعبر عن رفض قاطع للمختلف والذي يصدمنا اختلافه عبر ممارساته أو حتى من خلال ملامحه، فنهاجمه نحن من خلال ممارسات عنصرية نلقيها في مواجهة هذا الآخر/المختلف.