فصل جديد بدأت تتكشف ملامحه بين يدي الأزمة الليبية، على وقع تطورات وأدت فرص إجراء الانتخابات في موعدها. واستقبلت تطورات ميدانية بذكريات بداية الحرب عامي 2014 و2019، في ظل تغيرات مفاجئة وغامضة بمواقف بعض الأطراف. بينما المجتمع الدولي أحال فاعليته إلى الوضع «صامتًا».
وتحوّل الحديث في ليبيا عن الوفاء بموعد الانتخابات المحدد في الرابع والعشرين من الشهر الجاري، إلى التساؤل المنطقي: هل ستجرى الانتخابات من الأساس؟ بل انتقل الحديث إلى مظاهر التحشيد العسكري واحتمالية اندلاع حرب ثالثة في طرابلس.
إجماليًا، تعرّض المشهد الليبي لحالة إرباك على وقع أمرين. الأول يتعلق بتطورات ميدانية مقلقة من خلال انتشار الميليشيات في العاصمة طرابلس ومحاولة السيطرة على مقار حكومية. وهو ما يتزامن مع تحركات مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز التي يعتبرها البعض مثيرة للجدل والغموض. من خلال اضطلاعها بمسؤوليات تفوق اعتبارها مستشارة أممية.
وفي ظل ذلك، طفا على المشهد تغيرات في المواقف، على غرار تحوّل مفاجئ وغير متوقع لموقف مجلس النواب تجاه تركيا. والتقاء رئيسي الأركان في المنطقتين الشرقية والغربية لأول مرة منذ بداية الحرب. ولا ينفصل ذلك عن وقف المفوضية العليا للانتخابات إجراءاتها بشأن الانتخابات.
تطورات ميدانية مقلقة
ميدانيًا، شهدت ليبيا خلال اليومين الماضيين تطورات مقلقة، سواء ما يتعلق بالتحركات العسكرية والاستعداد لجولة جديدة من الحرب. أو تلك المتعلقة بالعملية السياسية التي أحالت الأزمة إلى طريق مسدود.
مواجهات عسكرية في سبها
استعادت مدينة سبها أحد مظاهر الحرب التي خمدت نهاية العام الماضي، عندما اشتبكت قوات تابعة لحكومة الوحدة الوطنية مع أخرى تابعة للقيادة العامة التي يقودها المشير خليفة حفتر. وهي الاشتباكات التي بدت لأول مرة مشابهة لشهور الحرب السابقة بتخوم العاصمة طرابلس.
البداية جاءت عندما أرسلت حكومة الوحدة الوطنية سيارات شرطة إلى مديرية أمن سبها، لكن قوات القيادة التابعة لحفتر صادرت هذه السيارات. بعدها توجهت قوات تابعة للكتيبة 116 التابعة للحكومة إلى مقر الاستخبارات العسكرية ومواقع تحت سيطرة قوات حفتر. ودارت اشتباكات عنيفة أدت إلى نزوح عدد من الأسر بالمنطقة.
ماذا يحدث في طرابلس؟
وفي ساعات الصباح الأولى من اليوم الخميس، فوجئ سكان بالعاصمة طرابلس بأرتال عسكرية تتحرك بشكل مكثَّف في الطرق المؤدية إلى المقار الحكومية. وبعدها جرى تداول مقاطع مصورة عن سيطرة الميليشيات المسلحة على مقري الحكومة والمجلس الرئاسي.
المسلحون توجهوا مباشرة إلى مقر المجلس الرئاسي، قبل أن تنجح القوات الحكومية في نقل رئيس المجلس محمد المنفي إلى مكان مجهول؛ خوفًا من اختطافه. لماذا المنفي؟ لأنه أصدر في صباح أمس الأربعاء قرارًا بإعفاء آمر المنطقة العسكرية طرابلس عبد الباسط مروان وتكليف عبدالقادر منصور بدلاً منه. لذلك قال نشطاء إن المجموعات المسلحة التي اقتحمت المجلس الرئاسي ومقر الحكومة موالية لعبد الباسط مروان.
صلاح بادي يعود للمشهد
بينما كان الليبيون يسألون عن ماذا يحدث في طرابلس، وقعت أعينهم على تسجيل مصور لقائد ما يعرف بـ«لواء الصمود» صلاح بادي، وهو يتحدث أمام جمع من حلفائه في مصراتة، من خلال خطاب حربٍ مكتمل الأركان. يقول إنه اتفق مع «الرجال» على غلق كل مؤسسات الدولة في طرابلس، لأنها لا تعمل لصالح الليبيين، وأنها تعمل للخارج.
يتحدث بادي، المطلوب دوليًا في جرائم حرب، بنبرة عالية وهو يهاجم مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز. ويقول إنها ارتكبت جرائم خلال فترة الحرب على طرابلس، وأنها داعمة للمشير خليفة حفتر. ثم يشير إلى أن الانتخابات لن تجرى بهذه الطريقة. وتابع: «لن نرضى بالانتخابات بهذه الطريقة.. الأمور ستتغير من هذه الساعة.. اتفقنا على قرار بسيط سوف يقلب الأمور رأسًا على عقب».
يلتفت إلى المجتمعين ويطلب منهم أن يرددون هذه الجملة: «ستيفاني كلبة». يتناوب الحضور على ترديد السُباب للمستشارة الأممية، ثم ينغمسون في الضحك، قبل أن يختم بادي حديثه بصرخة متشجنة، تحمل تهديدات ووعيدًا بأن القادم أسوأ.
ما وراء تحالف الميليشيات؟
إذا كانت القوات الموالية لـ آمر المنطقة العسكرية طرابلس المقال عبد الباسط مروان قد أظهرت قوتها أمام المؤسسات الرسمية في طرابلس، فإن واحدة من الأسباب المباشرة وراء الغضب الذي تناثر من حديث صلاح بادي، يرجع إلى أن الدبلوماسية الأمريكية انتقلت إلى مصراتة ولم تجتمع مع بادي. وكانت المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون ليبيا، ستيفاني وليامز، التقت في مصراتة، أمس الأربعاء، مجموعة من القيادات العسكرية وآمري الكتائب المسلحة.
هكذا، فإنّ ثمة هدفًا مشتركًا يجمع الطرفين السابقين، مع أطراف أخرى شكلت القوة المهددة لطرابلس، تتمثل في قوات غنيوه الككلي، وقوات عماد الطرابلسي، وهما المتضررين بقرارات الإقالة التي أصدرها المجلس الرئاسي خلال الأشهر الأخيرة، ومغادرة مناصب أمنية منحها إياهم رئيس المجلس الرئاسي السابق فائز السراج.
تحركات ستيفاني وليامز.. ما دورها في المشهد؟
منذ وصلت العاصمة طرابلس، الأحد الماضي، أجرت مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز لقاءات مكثفة شملت مختلف الأطراف الليبية. سواء الحكومية أو المؤسسة الاقتصادية والفعاليات الاجتماعية، ثم انتقلت إلى مدينة سرت مقر اللجنة العسكرية المشتركة.
وعندما التقت نائب رئيس المجلس الرئاسي، عبدالله اللافي، في طرابلس، تحدث وليامز لأول مرة عن طبيعة عملها، بقولها إن هدف مهمتها في ليبيا هو «قيادة المسارات الليبية الثلاثة: السياسية والاقتصادية والعسكرية- ودعم العملية الانتخابية». هنا جاءت الإجابة سريعًا عن التساؤلات التي أثيرت إزاء تحركاتها المكثفة وهي في منصب مستشارة للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون ليبيا. وتتمثل مهمتها وفق هذا المنصب في مراقبة المشهد ونقل تقاريرها إلى الأمين العام. وليس عقد لقاءات رسمية مع مسؤولين، فضلاً عن التصريح بوصف مهمتها بالـ«قيادة».
ولماذا جرى تعيينها مستشارة وليست مبعوثة خلفًا لـ يان كوبيش المستقبل؟
هنا يجب إرجاع الأمر إلى خلاف لا يزال قائمًا في أروقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا حول هوية المبعوث الأممي إلى ليبيا. حيث سبق لموسكو أن استخدمت الفيتو عدة مرات لإفشال تعيين دبلوماسيين تقول إنهم موالين لواشنطن لقيادة المهمة الأممية في ليبيا.
وجرى التوافق على كوبيش كمبعوث مطلع العام الجاري، منعًا لانهيار عمل البعثة الأممية في ليبيا. لكن قربه من روسيا جعله دائمًا في موضع صدام مع الأمين العام للأمم المتحدة، لاسيما موقفه من قانون الانتخابات وعلاقته بشخصيات في شرق ليبيا. وعندما استقال رفضت روسيا، وفق تسريبات، توجه الأمين العام لإعادة ستيفاني وليامز كمبعوثة أممية. لذلك هرب من فخ إفشال التصويت بتعيينها مستشارة، لكنها تتعامل حاليًا على الأرض كمبعوثة أممية.
هكذا، عندما عادت إلى ليبيا كمستشارة اعتلت ستيفاني أعلى مستوى سياسي في الدولة باستعادة قيادتها للمسارات الثلاثة السياسية والاقتصادية والعسكرية. في حين أشارت إلى مسار الانتخابات بمفردة «الدعم»، في حين وصفت دورها في المسارات الثلاث الأولى بالقيادة.
تغيرات في المواقف.. ماذا يجرى خلف الأبواب المغلقة؟
على الصعيد السياسي، شهدت ليبيا تغيرات بارزة، تحمل ظاهريًا قدرًا من الإيجابية، وإن كان الهدف وراءها لا يزال غامضًا بالنظر إلى التطورات الأمنية والعسكرية، آنفة الذكر.
الحداد والناظوري وجهًا لوجه لأول مرة
لأول مرة منذ بدء الحرب يجتمع رئيس الأركان للقوات المسلحة بالمنطقتين الشرقية والغربية، الفريق عبد الرازق الناظوري المكلف مهام القائد العام من قبل المشير خليفة حفتر، والفريق أول ركن محمد الحداد رئيس الأركان العامة في حكومة الوحدة الوطنية.
الاجتماع الذي عقد في مدينة سرت، جاء عقب انتقال اللجنة العسكرية المشتركة «5+5» إلى تركيا وروسيا. وذلك لإجراء محادثات مع مسؤولي البلدين حول إخراج المرتزقة والقوات الأجنبية من ليبيا. وهي الاجتماعات التي تشير المؤشرات إلى نتائج إيجابية قد حققتها، في المسار الأمني.
أما اجتماع الحداد والناظوري فقد ناقش سبعة بنود رئيسية، تتعلق بعدم الاحتراب الداخلي، وحدة التراب الليبي وتأمين الحدود ومحاربة الهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة. والتأكيد على أن مهمة الجيش حماية الوطن والمواطن والدستور، وعدم عسكرة الدولة وعدم تسييس المؤسسة العسكرية ودعم الجهود لقيام الدولة المدنية. بالإضافة إلى وضع خطة شاملة لتنظيم المسلحين والتشكيلات المسلحة، ووضع آليات وخطوات منظمة وأساسية لتوحيد المؤسسة العسكرية من أجل بناء جيش ليبي بعيدًا عن كل التجاذبات السياسية من خلال تشكيل لجان مشتركة. وذلك وفق ما ذكرت رئاسة الأركان العامة في حكومة الوحدة الوطنية.
الغريب، والأمر غير المفهوم، أن الاشتباكات التي دارت في سبها، جاءت بعد ساعات من لقاء المسؤولين. كما أن الحداد خرج لدى وسائل الإعلام في مساء يوم الاجتماع وأعلن عن الاتفاق على حل التشكيلات المسلحة من الطرفين لتوحيد المؤسسة العسكرية. وقال إن ثمة خطة وضعتها المنطقة الغربية، ووافقت عليها المنطقة الشرقية. بموجبها جرى تصنيف المجموعات المسلحة إلى أفراد راغبين في الاندماج بالجيش أو الشرطة وآخرين يرغبون في التحول لوظائف مدنية.
ماذا وراء تغيّر موقف مجلس النواب من تركيا؟
تغير المواقف طال أيضًا مجلس النواب الذي طار وفد يضم رئيسه المكلف فوزي النويري وعدد من الأعضاء إلى تركيا. والتقى الرئيس رجب طيب أردوغان، ليس هذا فحسب بل ناقش الوفد مع المسؤولين الأتراك فتح قنصلية تركية في بنغازي. وهو تحوّل من النقيض إلى النقيض، بعدما كانت تركيا تمثل للمنطقة الشرقية الدولة الداعمة للإرهاب والمحتلة للأراضي الليبية، باتت صديقة.
المتحدث باسم مجلس النواب عبدالله بليحق لخَّص أهداف الزيارة في مناقشة تسهيل الحصول على تأشيرة الدخول لتركيا، بالإضافة إلى زيادة عدد الرحلات الجوية بين البلدين، وعودة جميع الخطوط الجوية الناقلة، ودعم التعاون الاقتصادي بين ليبيا وتركيا، وتسهيل إجراءات السفر والتنقل لمواطني البلدين لاسيما للمواطنين الليبيين القاصدين تركيا لغرض العلاج والدراسة، بالإضافة إلى عودة الشركات التركية العاملة في عدد من المشاريع التنموية في ليبيا.
كل هذه الأهداف كانت الأطراف في المنطقة الغربية تعمل عليها خلال فترة الخصام بين المنطقة الشرقية وتركيا. لكن عضو وفد النواب الزائر لتركيا زياد دغيم، كشف عن ماهية الزيارة بقوله إنها تستهدف تطبيع العلاقات بين تركيا وكل المناطق الليبية وليس منطقة واحدة. وهي الخطوة التي قال إنها تأتي انتهازًا لفرصة التقاربات الجديدة في المنطقة لتحسين علاقات ليبيا بجميع الدول في الإقليم، ومنها تركيا.
ما سبق ليس التغيّر الوحيد في آلية عمل مجلس النواب، لكنه عقد قبل أيام أول جلسة له في طرابلس منذ 2014، لمناقشة عمل المفوضية الوطنية العليا الانتخابات. إذ كان البرلمان يعقد جلساته في طبرق وبنغازي.
المفوضية توقف إجراءاتها بشأن الانتخابات
كل التطورات السابقة، أعقبت الموقف المتوقع من المفوضية الوطنية العليا للانتخابات التي قررت تأجيل نشر القائمة النهائية لمرشحي الرئاسة ومجلس النواب، قبل أسبوعين من موعد الاستحقاق. كما أنها لم تحدد موعدًا لاحقًا لنشرها أو استكمال الإجراءات. بينما يتبقى أسبوع على انتهاء فرصة الذهاب لصناديق الاقتراع. وهو ما يعني أن الأمر برمته جرى دفعه إلى سلة المهملات.
تأجيل نشر القوائم لا ينفصل عن مشهد شجار بين كافة الأطراف بشأن مرحلة الطعون وإمكانية استبعاد أحد الأطراف. بالإضافة إلى تداول قانون وضعه مجلس النواب، وأبقى عليه في الأدراج منذ العام 2019، يقضي بإعادة هيكلة السلطة القضائية، بحيث يتولى رئاسة المجلس الأعلى للقضاء رئيس هيئة التفتيش القضائي بدلاً من رئيس المحكمة العليا، وهو ما رفضه محمد الحافي رئيس الأخيرة، وجرى الحديث عن تصفية حسابات سياسية.
.. إذن ليبيا إلى أين؟
بعد قراءة السطور السابقة، يكون السؤال الذي يراود القارئ الآن: وماذا بعد؟ سؤالاً منطقيًا.
«ستيفاني وليامز ستبدأ مما انتهت إليه في مطلع فبراير الماضي».. هذا ما يراه كامل عبدالله الباحث في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية. وكانت وليامز مبعوثة أممية بالإنابة خلفًا لـ غسان سلامة الذي استقال فجأة العام الماضي، وشهدت الدبلوماسية الأمريكية اتفاق وقف إطلاق النار، ثم توقيع الاتفاق السياسي في جنيف وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية، قبل أن يستلم يان كوبيش مهمته مع تولي حكومة عبدالحميد الدبيبة الحكم.
ويقول المتخصص في الشأن الليبي إن «ستيفاني ستعمل على إعادة إحياء منتدى الحوار السياسي في محاولة لإنقاذ العملية السياسية، ومنعها من الانهيار، ولن تجازف بالذهاب إلى الانتخابات على الأساس الحالي الهش لتجنب الانهيار التام».
أما التطورات المربكة الأخيرة، يراها «كامل»، في حديثه مع «مصر 360» أمرًا طبيعيًا، في ظل غياب التوافقات اللازمة للمضي قدمًا. ويضيف أن «العملية السياسية التي صممتها الأمم المتحدة مؤسسة على ألغام تجعلها تنفجر عند أي حركة». كما أن «الشروط غير المعلنة بين القوى المعنية بإدارة الأزمة الليبية لا تتناسب مع الحالة المحلية منذ العام 2011. فكرة استبعاد أطراف لحساب أخرى وتجاهل مراكز القوى المتعددة محليًا والاستثمار الأجنبي في الأزمة لا يضمن أي تقدم سلس للعملية السياسية».
يراها طبيعية لأنه جرى الذهاب إلى «عملية انتخابية غير محسوبة ومختلف عليها من كل الجوانب، وفي نفس الوقت لا توجد قدرة حاليا لدى المؤسسات الليبية على الاضطلاع بهذه العملية بشكل يضمن قبولها من القوى الفاعلة على الأرض، وتعمدت تجاهل أطراف أخرى لا تتوافق معها، وتعلم مدى قوة تأثيرها الميداني، وإمكانية عرقلتها للتقدم السياسي، وبالتالي كان يتعين مراعاة هذه القوى وتقدير الواقع على الأرض بصورة أفضل لتمهيد الطريق للتقدم السياسي»
لذلك يشير الباحث إلى أن الأمم المتحدة أخطأت حين دفعت منتدى الحوار السياسي للقبول بخارطة طريق «غير واقعية» تحمل في تفاصيلها «قنابل موقوتة»، وتناسى المشاركون في العملية أنها صممت من دون توافق حقيقي بين القوى القوى الفاعلة على الأرض.