“أصبحت حماس عنوانًا للنضال الفلسطيني المعاصر وإطارًا متجاوزًا للتباينات الفكرية والأيديولوجية وإن اختلف كثير من الناس على حكمها وفكرها فقد اتفقوا على مقاومتها“.
هكذا ببساطة يمكن توصيف مسيرة حركة المقاومة الإسلامية بعد 34 عاما من انطلاقتها.
مسيرة عرفت الكثير من التقويضات والتحولات والصراعات. مسيرة كانت قابلتها الانتفاضة الأولى وحاضنتها الانتفاضة الثانية. فضلا عن إعلانها وريثا شرعيا لحركات التحرر الوطني الفلسطيني معركة “سيف القدس” في مايو/ أيار 2021.
وفي حين كانت البداية أيديولوجيّة جليّة تظهر في أدبياتها المؤسِسة. تراجع ذلك الخطاب تدريجيا وبات أكثر تسييسا وتخففا من نزعته الأيديولوجية. فمن ميثاقها عام 1988 إلى وثيقتها في 2017 يظهر بوضوح الانتقال من سيطرة المصطلحات الإسلامية والرؤية المؤدلجة إلى خطاب عصري ينسجم مع مبادئ الديمقراطية.
“بيد أن ممارستها الحكم على أرض الواقع تخللها كثير من الانتهاكات لحقوق الإنسان ومبادئ الديمقراطية. وإن كانت قد حسمت الجدل نظريًا فما زالت الفجوة بين خطابها الجديد وسلوكها السياساتي ماثلة” حسب ما يقول الباحث الفلسطيني بلال الشوبكي.
أما على صعيد المقاومة فقد نجحت في مراكمة قوتها. وهي قوة لم يكن لها أن تتحقق لولا حكمها لغزة. إذ حوّلت الحركة حكمها من أداة ترويض لمقاومتها إلى أداة إسناد ومساحة متحرّرة نسبيًا من القيود الأمنية الإسرائيلية والفلسطينية. دون أن يعني ذلك نجاحها في الحكم بقدر تمكّنها من الصمود تحت الحصار.
وقد جاءت المعركة الأخيرة لتؤكّد تنامي قوة كتائب عز الدين القسام “الذراع العسكرية للحركة”. بل ونجاحها في خلق التفاف جماهيري حولها لم تنجح فيه الفصائل المُصرّة على التسوية السياسية مع الاحتلال وبدا في هتافات شتى باسم قائدها محمد ضيف.
إرهاصات البدايات
منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي تشكّلت “الجماعة الإسلامية” في السجون فصيلًا مستقلًا عن فصائل منظمة التحرير. إذ ضمت المناضلين المتدينين المنحدرين من الفصائل الوطنيّة القائمة. ثمّ صار ينضم إليها الإسلاميون أصالةً. وذلك مع التشكيلات الأولى للإخوان المسلمين كما في مجموعة الشيخ أحمد ياسين عام 1984.
باتت هذه الجماعة فضاءً يحوي طيفًا واسعًا من الاتجاهات الفكرية الإسلامية. إلى أن انتهت مع الانتفاضة الفلسطينيّة الشعبية الكبرى. وذلك باستقرار الحالة “الجهاديّة الإسلامية” على حركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”.
ويذكر الباحث في الفكر الإسلامي ساري عرابي أن إرسال عدد من عناصر الجماعة للتدريب على السلاح في الخارج عام 1980 وعوامل الاحتكاك بالحركة الوطنيّة وسؤال النضال الذي وظّفته فصائل منظمة التحرير لحرمان الظاهرة الآخذة بالتنامي من الاعتراف والرفع المعنوي المتوفر بفضل الثورة الإيرانية وتفاعل الإسلاميين مع الجهاد الأفغاني.. جميعها عوامل منحت الدفع الذاتي المزيد من القوة وصولا إلى “حماس”.
ونتيجة إرهاصات مجتمعية وطلابية وميدانية عدة. كان للانتفاضة الأولى التي استقلت فيها حماس، في إدارة فعاليات الانتفاضة عن “القيادة الوطنية الموحدة” دورا كرافعتها.
وهو ما شكّل تحدّيًا لتلك القيادة التي فاجأتها قوّةُ الحركة الوليدة وقدرتُها على بسط حضورها الجماهيريّ وفعالياتها الخاصة على كامل جغرافيا الضفة الغربية وقطاع غزة.
هذه الإرادة من الاستقلال والتمايز والمحمولة على تقدير الذات وإدراك إمكان المنافسة والرغبة في تصحيح مسار حركة “فتح” حكمت سلوكَ حماس حتى اليوم وفقا لما يراه عرابي.
العُسر فاليسر
يمكن القول إن الانتفاضة الفلسطينية الثانية كانت بمثابة قُبلة الحياة للحركة التي عانت خلال التسعينيات من تضييق واعتقالات من السلطة الفلسطينية. وذلك في إطار رفضها مشروع التسوية والاحتلال معا.
وقد أثرت تلك التضييقات والاعتقالات على البنى التنظيمية للحركة وأدت إلى تفكيك العديد منها. ما كان نتاجه ارتباكا في بداية انتفاضة الأقصى ثم انخراطا شكّل ميلادا جديدا استمدت منه حضورها إلى اليوم.
ويشير الكاتب والمحلل ساري عرابي إنه بعد مرحلة مريرة من المعاناة امتُحنت فيها الحركة وتعرضت فيها لضربات أمنيّة جذريّة. وجدت في الانتفاضة الثانية متنفسها وفرص عودتها إلى الحياة. وذلك بعدما تمكّن الاحتلال عام 1998 من تفكيك الجهاز العسكري للحركة والإمساك بأرشيفه ومراسلاته وشفراته وقتل قادته واكتشاف البنية التنظيمية الإدارية في الضفة الغربية.
لم تخرج الانتفاضة الثانية حماس من حيرتها فحسب. ولا هي عادت بها إلى فاعلية مؤقتة. ولكنها أعادت تشكيل موازين القوى الفلسطينية بالشكل الذي فرضها منافسًا مركزيًا لحركة فتح لا يمكن تجاوزه. وبالشكل الذي وفّر أرضية مناسبة لتأسيس جديد للفعل المقاوم في قطاع غزة شكلا ومضمونًا.
وانعكس ذلك في استكمال الاحتلال انسحابه من قطاع غزة عام 2005. وبالتالي قدرة المقاومة على تطوير نفسها وتعظيم قدراتها ومراكمة خبراتها -والحديث لا يزال على لسان عرابي- والاحتفاظ “بنموذج مقاوم يقدّم فعلا وخطابًا مناقضين لما تقدمه السلطة الفلسطينية وتعمل القوى الدوليّة المهيمنة على فرضه وإنفاذه”.
وبهذا تكرّس توازن آخر في الساحة الداخلية الفلسطينيّة لا على مستوى المنافسة الحزبية فحسب. ولكن على مستوى الخيارات والمنهج والسياسات والخطابات. ولم يكن منفصلا عن ذلك فوز الحركة في الانتخابات التشريعية التي كانت من ضمن النتائج المترتبة على انتفاضة الأقصى والأسباب التي أسهمت في التمكين لحماس والحفاظ عليها.
حماس ومعضلة الحكم والمقاومة
“حماس” حين شاركت في الانتخابات كانت ترى في الدخول إلى المؤسسة الرسمية الفلسطينية إسنادًا للمقاومة وللمؤسسة ذاتها في مواجهة الضغوط. فيما الأطراف المؤثرة في المشهد الفلسطيني حين أتاحت لها المشاركة. كانت ترى في دخول حماس إلى السلطة الطريق الأسرع نحو “ترويضها“.
يعقّب الباحث بلال الشوبكي في ورقة لشبكة السياسات الفلسطينية “كانت حماس في تلك المرحلة منهمكة في أن تقدّم نفسها بديلا قويًا للناخب الفلسطيني يمكنه انتشال السلطة مما آلت إليه بعد سنوات قليلة من تأسيسها. كالفشل السياساتي والفساد والبطالة. بيد أنها انهمكت أيضًا في تنقية صورتها من الزعم بأن مجرد المشاركة في الانتخابات تمثّل قبولاً ضمنيًا بمخرجات اتفاقيات أوسلو”.
ومع إعلان فوزها في الانتخابات التشريعية -والذي أشار إلى أنها التي ستقرر شكل الحكومة المقبلة. لم يعد السؤال الذي تواجهه حماس ما إذا كانت مشاركتها في الانتخابات قبولا بأوسلو أم لا. فهي الآن رأس حكومة. والسؤال الجديد هو اختبار يتمثّل في كيفية الجمع بين المقاومة والحكم.
قدمت “حماس” الكثير من المؤشرات على أنها حركة “لم تطلب الحكم ولم تغادر ساحة المقاومة”. فقد كان حرصها على تشكيل حكومة وفاق. واستمرار كتائب القسام في مقاومتها أهم مؤشرين. بحسب الشوبكي. إلّا أنّ هذين المؤشرين لم يكونا كافيين للجزم بأن حماس قادرة على الجمع بين المقاومة والحكم.
ربما كان الجزم ممكنًا في ذات العام الذي انتخبت فيه، لكن بعد ذلك وحتى يومنا هذا، تبيّن ملامح المشهد السياسي أنه يمكن الجمع بين المقاومة والحكم، “لكنه حكم ناقص، ومقاومة مأزومة، إذ تروّض الثانية بسوط الأول، ليتحوّل الخطاب تدريجيًا إلى خطاب الصمود والتأكيد على حق المقاومة، أكثر من كونه خطاب الحكم وممارسة المقاومة”.
العزل في غزة
خلال سنوات اقتسام السلطة نتاجًا لعدم احترام نتائج الانتخابات بدأت فكرة عزل حماس في غزة تتجذّر أكثر في العقلية الفلسطينية، وهو ما خلق تحديًا جديدًا لحماس يتمثّل في كيفية الانتقال بالحركة من إطار غزة إلى فضاء الوطن والإقليم والعالم.
وفي الوقت الذي كانت فيه حماس بأمسّ الحاجة إلى كسر هذا التنميط، دفعت العوامل من حولها تجاه ترسيخه، فعلى المستوى العربي مثلا شهدت سنوات الثورات والثورات المضادة وانتكاسة الإخوان المسلمين، وعدم استقرار الوضع في سوريا، تنقلا لمكتب حماس السياسي الذي انتهى به المطاف في غزة، مما أدخل الحركة في مأزق إدارة العلاقة مع دول الإقليم في ظل المعارك البينية العربية.
واستنفدت الكثير من طاقتها في محاولات خلق توازنات ما بين حاجتها لفتح خطوط اتصال مع جميع الدول في المنطقة وتحديدا مصر وضرورة ألا يتسبب ذلك في إثارة قاعدتها الجماهيرية التي تشرّبت التضامن مع الإخوان المسلمين، وفقا للورقة.
وبالرغم من تحقيق حماس تقدمًا في ذلك، إذ استطاعت الحفاظ على خطوط اتصال مع العديد من الدول بما فيها مصر. إلا أن التواصل معها يجري بشكل أساسي على المستويين الإنساني والأمني. وبنطاق لا يتجاوز النظر إليها كإدارة أمر واقع. لا كحركة تحرر وطني يمكن الحديث معها إلى جانب فتح عن مستقبل القضية الفلسطينية برمتها.
وإلى جانب محاولات الربط بين حماس وغزة، شنت السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي حملة ممنهجة لاجتثاث الحركة ومؤسساتها من الضفة الغربية بشكل شبه كامل. ومع فقدان مؤسساتها التقليدية كالمؤسسات التعليمية الملحقة بالمساجد والجمعيات الخيرية ولجان الزكاة ومراكز الأبحاث وزيادة أعداد معتقلي الرأي. لم تعد الحركة قادرة على تنشئة جيل جديد منظم في صفوفها كما كان في السابق. بجانب أن هذه السياسات ساهمت أيضًا في تقديم الضفة على أنها مساحة حكم فتح وغزة مساحة لحكم حماس.
حماس ومحاولات التغلب على العزل
عملت “حماس” بشكل مكثّف على ملفات عدة خلال السنوات الخمس الماضية. وهي فك الربط بين غزة وحماس. وتقديم نفسها كمظلة للنضال ضد الاحتلال الإسرائيلي وإحدى الجهات الممثّلة للشارع الفلسطيني في أماكن وجوده.
ولهذا عملت على توسيع أشكال المقاومة من دعم فكرة المقاومة الشعبية سواء في غزة أو الضفة. وتطويع مقاومتها العسكرية لخدمة القضايا الوطنية وعدم الاستسلام لفكرة استثمارها لتخفيف الحصار فقط. وهو ما عملت عليه بقوة خلال معركة “سيف القدس”. إذ ربطت عملها العسكري بمطالب متصلة بحقوق المقدسيين وتحديدًا في الشيخ جراح وباب العامود.
وإضافة إلى هذه العوامل يستنتج الشوبكي -من خلال قراءته لخطاب الحركة- أنها تخلت تدريجيا عن فكرة الحكم تحت الاحتلال “ذلك لا يعكس بالضرورة قناعتها بذلك بقدر قناعتها بضرورة عدم ترك فتح تتفرّد بإدارة المؤسسات الفلسطينية. ولذلك فإن فكرة تخليها التدريجي عن الحكم تحت الاحتلال تُستشف من تركيز خطابها في الآونة الأخيرة على ضرورة إصلاح منظمة التحرير وانخراط حماس فيها. فيما المشاركة في إدارة السلطة بدت مسألة ثانوية”.
تركيز “حماس” على ضرورة إصلاح منظمة التحرير وانضمامها إليها يأتي مبنيًا على إدراكها أن الخروج من مأزق الحكم تحت الاحتلال لن يتسنى للفلسطينيين دون إعادة توجيه خيارات المنظمة السياسية نحو مسارات جديدة بعيدة عن مشروع التسوية السياسية. وتوجيه الطاقات الفلسطينية في الشتات والوطن لخدمة قضيتهم، وهو توجيه يستوجب دخول حماس إلى جانب فصائل أخرى للمنظمة المراد إصلاحها.
وعلى هذا، يرى مدير مركز مسارات الفلسطيني هاني المصري أن تجربة قطاع غزة تحت سيطرة حماس “رغم الصمود العظيم والمقاومة الباسلة والشجاعة وما تحقق من إنجازات بحاجة إلى تقييم لجهة ضرورة توفر الحكم الرشيد والشراكة والديمقراطية والانتخابات الدورية المحلية وفي النقابات والجامعات… إلخ”.
ولجهة العلاقة مع الاحتلال الذي أخذ يحسب ألف حساب لثمن إعادة احتلال قطاع غزة. وهذا دفعه إلى التراجع عن بعض مطالبه من حماس. مثل التخلي عن ضرورة الالتزام بشروط اللجنة الرباعية ونزع سلاح المقاومة وعدم تطويره والتوقف عن حفر الأنفاق على الحدود ويتجه للموافقة على عدم الربط بين إعادة الإعمار والتهدئة وصفقة تبادل الأسرى.
إلا أن إسرائيل من الجهة الأخرى نجحت في حصار المقاومة وتعطيلها وربطها باحتياجات السلطة في القطاع أكثر من أي شيء آخر. حيث دفعت “حماس” إلى الانهماك في السعي الدائم للتهدئة مقابل تخفيف الحصار. في الوقت الذي حافظت فيه إسرائيل على حصارها للقطاع والأهم حافظت على الانقسام وعمقته.