استقر العمل القضائي والفقه القانوني، حتى الثقافة القانونية العامة، على أن محكمة النقض هي محكمة قانون في الأساس، وتبدو قيمة عملها وقمته على نشر المبادئ القانونية التي ترسيها خلال فصلها فيما يعرض عليها من طعون على الأحكام الصادرة من المحاكم المدنية أو الجنائية، وفصلها في الخلافات التي يراها الطاعنون في أحكام تلك المحاكم، ويذهبون بها إلى محكمة النقض لتفصل لهم في أوجه طعنهم على تلك الأحكام، بفرض ما شابها من مثالب وأوجه طعن.
وقد استمر ذلك الأمر مستقرا إلى أن تم تعديل قانون محكمة النقض بمقتضى أحكام القانون رقم 11 لسنة 2017 الصادر بتعديل قانون حالات وإجراءات الطعن أمام محكمة النقض الصادر بالقانون رقم 75 لسنة 1959، والذي بموجبه تم استبدال بعض نصوص ذلك القانون، والتي كان من بينها نص المادة رقم 39، وقد استحدثت المادة المعدلة أنه يكون لمحكمة النقض أن تحكم في موضوع القضية في حالة قبولها للنقض المقدم طعنا على الحكم في حالة بطلان الحكم المطعون عليه أو بطلان في الإجراءات أثر في الحكم المطعون فيه.
وقد كنا كمحامين نذهب لمحكمة النقض بغية الحصول على حكم بنقض الحكم الصادر في موضوع القضية وإعادتها إلى محكمة الموضوع مرة ثانية لتنظرها مرة أخرى بدائرة مختلفة أو بتشكيل مغاير لمن أصدر الحكم، وإذا ما تم نقض الحكم للمرة الثانية كان يتعين على محكمة النقض أن تقوم بالفصل في موضوع القضية في حالة قبولها للطعن المقدم. ولكن بعد صدور هذا التعديل بات من العسير على المتقاضين ومن يمثلونهم من المحامين تحقيق دفاعاهم في القضية، إذ يدور العمل الفعلي على أن يترافع المحامي مبينا أسباب الطعن على الحكم، ومنتظرا لتبيان ما إذا كان الطعن مقبولاً من عدمه، وهو ما يجعل من محكمة النقض تفصل في موضوع الطعن دون أن يقوم المحامون ببيان أوجه دفاعهم الموضوعية أمام المحكمة بحسب كونها في هذه الحالة بمثابة محكمة موضوع، علاوة على كونها محكمة نقض.
ولمزيد من العلم، فإن محكمة النقض كانت قبل نفاذ هذا التعديل تقوم بدور عظيم يتمثل في تفسير نصوص القانون وتأويل قواعده والعمل على توحيد مبادئه، لدرجة أن هناك دائرة بمحكمة النقض تسمى “توحيد المبادئ “. لكن بعد العمل بهذا القانون باتت محكمة النقض محملة بعبء الفصل في موضوع الطعون، وهو أمر من الأمور المرهقة للمحكمة ولا يتحقق منه الهدف من علو درجتها وقيمتها، وبما يحقق الاستقرار القضائي ذاته.
وقد تعرضت إحدى دوائر محكمة النقض ذاتها لهذا التعديل التشريعي كاشفة ما به من أوجه عوار تخل بوظيفة محكمة النقض، وذلك في الحكم رقم 16525 لسنة 88 قضائية، وذلك بجلسة 6 يوليو سنة 2019 ، وقالت في ذلك الحكم إنه “لما كان من غير المتصور أن تنظر محكمة النقض موضوع دعوى غير صالح للفصل فيه، وإلا كان نظر الموضوع عندئذ لا يحقق أي فائدة عملية، وإنما يجب نظر الموضوع بهدف الفصل فيه، وهو ما لا يتحقق بداهة وبالنظر إلى طبيعة وظيفة محكمة النقض وكونها محكمة قانون لا موضوع، إلا إذا كان موضوع الدعوى صالحا في ذاته للفصل فيه، دون حاجة لإجراء تحقيق موضوعي تنأى عنه وظيفة محكمة النقض. والقول بغير ذلك يعني أن محكمة النقض يجب عليها الفصل في موضوع كل الدعاوى التي تنقض الحكم فيها للمرة الأولى لبطلان الحكم أو بطلان في الإجراءات أثر في الحكم مما يجرد محكمة النقض من وظيفتها الأساسية والجوهرية وهي مراقبة صحة تطبيق القانون وتفسيره وتأويله وتوحيد مبادئه وتتحول إلى محكمة موضوع تنظر وتفصل في موضوع جميع الدعاوى التي تنقض الأحكام الصادرة فيها للسببين المذكورين في المرة الأولى، وهذا ما تنوء به قدرة المحكمة ويتعارض مع أسس النظام القضائي ذاته”.
وقد كان هذا هو تعليق المحكمة المنوط بها أن تنفذ هذا التعديل، وقد فصلت وكشفت ما به من عيوب تصيب صميم العدالة القضائية التي تشكل أحد أهم أهداف مراحل التقاضي ذاته، فلماذا إذن يستمر العمل بهذا القانون؟ أو ما الهدف الأصلي من وراء إصداره؟ والذي يبدو أنه لم يؤخذ به رأي المخاطبين بأحكامه على الرغم من كونهم من أولي القانون، بل هم من صفوة رجال القانون في مصر، وكان من الأحرى أن تتم مخاطبتهم بمثل ذلك التعديل، حتى ولو بعد صدوره، وإن لم يكن فكان الأوجب أن تخاطب الهيئة التشريعية أو تتابع ما استجد من مشكلات حال تطبيق ذلك التعديل، وكان من الأوجب أيضا على السادة المستشارين أعضاء محكمة النقض بعد صدور حكمهم سالف البيان أن يخاطبوا مجلس النواب بما استجد من مشكلات عملية تعوق العمل داخل المحكمة، ويعرقل سبيل سيرها، بل ويمنعها عن ممارسة وظيفتها الرئيسية كمحكمة قانون.
ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد أن لدينا في مصر محكمة نقض واحدة، وليس لها أي فروع تتبعها على مستوى الجمهورية، كما وأن بها عددا محدودا من المستشارين، ومن ثم فإن إثقال المحكمة وأعضائها بمثل هذا التعديل الذي يقتضي منهم الفصل في موضوع الطعون لأمر مرهق في سبيل تحقي العدالة أو السعي نحو تحقيقها، إذ أن عدد الطعون التي تعرض على المحكمة بدوائرها المختلفة يجعل من الصعب عمليا أن يوكل إليها أمر الفصل في كل هذا الكم من القضايا والفصل فيها نقضا وموضوعا.
ومن بعد ذلك ما تبقى لنا سوى توجيه الخطاب لوزارة العدل بحسبها الممثلة للحكومة المصرية في شأن التقدم بمشروع قانون فيما يتعلق بأمور العدالة، وكذلك التوجه لكل أعضاء الهيئة القضائية وبشكل خاص منهم السادة أعضاء محكمة النقض، وكذلك توجيه الخطاب ذاته لأعضاء مجلس النواب، عسى أن يهم الأمر أحدهم أو أيا منهم للتقدم بمشروع لتعديل أحكام قانون محكمة النقض حتى يعود الأمر إلى موضعه الطبيعي، وتعود المحكمة لسابق عهدها كمحكمة قانون، ولا تختص بموضوع القضايا، إلا في حالات بعينها وذلك سعيا نحو تحقيق العدالة بمقتضياتها ومشتملاتها وطبيعتها.