ظل التنافر بين السياستين: النقدية ممثلة في البنك المركزي، والمالية ممثلة في وزارة المالية، مشكلة مزمنة للاقتصاد المصري طوال عقود. إذ إن أي قرار يصدر من إحدى المؤسستين يؤثر على الأخرى بالضرورة. وبالتالي يعود هذا التأثير إلى المواطن ليتحمل تبعاته.
لذا، استحدثت مصر مجلسًا تنسيقيًا بين الحكومة والبنك المركزي. على أن يكون الكيان الجديد برئاسة مجلس الوزراء. بينما ينقسم بين مصرفيين كمحافظ البنك المركزي ونائبه، وحكوميين ممثلين في وزير المالية ونائبه للسياسيات المالية، ومعهما وزير التخطيط. ذلك وفق ما ورد بشأن قرار تشكيل المجلس في الجريدة الرسمية الخميس الماضي.
المجلس التنسيقي الجديد.. استقرار الأسعار وفوائد الدين هدف أولي
يضم المجلس عناصر من ذوي الخبرة يمثلون السياستين النقدية والمالية. كما يضم الدكتور أشرف العربي، وزير التخطيط الأسبق، ومحمد الإتربي رئيس اتحاد بنوك مصر، والدكتور حسين عيسي الخبير الاقتصادي ومستشار الشؤون الاقتصادية لاتحاد الصناعات.
يتمثل الهدف الأساسي للسياسة النقدية في استقرار الأسعار. بما يجعل البنك المركزي على المدى المتوسط ملتزما بتحقيق معدلات منخفضة للتضخم. على أمل أن تسهم في بناء الثقة والمحافظة على معدلات مرتفعة للاستثمار والنمو الاقتصادي.
يشهد العالم حاليًا موجة من التضخم، ستصل تداعياتها لجميع الدول المستوردة. الأمر الذي يجعل تحقيق الاستقرار بالأسعار هدفًا شاملاً لكل الأجهزة الاقتصادية للدولة في المرحلة المقبلة، وليس البنك المركزي فقط.
ولكي يحقق البنك المركزي مآربه في مكافحة التضخم، لابد من تعزيز الحكومة لهدف استقرار الأسعار والتزامها بسياسة مالية رشيدة. فأسعار الفائدة الحقيقية السالبة، لا تتسق مع الجهود المبذولة لخفض معدلات التضخم. لكنها في ذات الوقت تنعكس بالإيجاب على الدين الحكومي.
تتولى وزارة المالية مسؤولية السياسة المالية. وتتعلق باستخدام الضرائب والإنفاق الحكومي كأدوات للتحكم في الاقتصاد. إلى جانب دراسة تأثيراتها الإيجابية أو السلبية على دخول الأفراد، ومستوى الأسعار وحجم الإنتاج وسوق التوظيف.
ولا يشير قرار تشكيل المجلس التنسيقي إلى الأساليب التي سيتبعها لوضع آلية للتنسيق بين السياسة النقدية للبنك المركزي والسياسة المالية للحكومة. باستثناء أنه سيرفع تقريرًا سنويًا عن أعماله إلى رئيس الجمهورية.
خيارات مالية محددة.. ما بين الانكماش والتوسع
تتمثل خيارات الحكومة -ماليًا- إما بالانكماش أو التوسع، والأخير يعني تخفيض الضرائب لرفع الإنفاق الخاص الاستهلاكي والاستثماري. ذلك بالإضافة إلى زيادة الإنفاق الحكومي، الذي يوفر دخلاً للعاطلين عن العمل وذوي الدخول المنخفضة. ما يخلق طلبًا على السلع، يقابله زيادة في الإنتاج من قبل المنتجين.
أما الانكماش فهو العكس تمامًا، بزيادة الضرائب لتقليل الدخل وتحجيم الطلب على السلع والخدمات، فيقل إنتاجها وينخفض الإنفاق الحكومي. وبالتالي مستوى ارتفاع الأسعار في السوق.
المجلس التنسيقي الجديد.. على نهج الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي
لا يمكن أن يؤتي أي انكماش أو توسع أهدافه إلا بالتنسيق بين السياستين المالية والنقدية. فالتوسع يحتاج إلى زيادة في عرض النقد، وهي من سلطات البنك المركزي، إلى جانب خفض الفائدة، وما ينتج عنها من تحفيز الاستثمار والاستهلاك. بينما الانكماش المالي يتطلب من المركزي تخفيض عرض النقد، ورفع الفائدة بما يقلل من حجم الإنفاق، وبالتالي الطلب على الإنتاج والتوظيف.
وفق محمد كمال، الخبير الاقتصادي، لابد من التكامل في سرعة مواجهة الأزمات الاقتصادية. هنا يتضح أن السياسة النقدية أسرع في التنفيذ. مثلاً من الممكن تغيير معدلات الفائدة كل 45 يومًا في مصر. ذلك على عكس السياسة المالية التي قد تتطلب وقتًا لارتباط قرارات الضرائب بموافقة مجلس النواب، ودراسة تأثيراتها على حياة المواطنين.
يقول كمال إن فكرة وجود مجلس تنسيقي بين البنك المركزي ووزارة المالية شبيهة بالمجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، الذي نطلق عليه مجازًا البنك المركزي. ويتكون من هيئة السوق المفتوحة الفيدرالية، وتضم 12 بنكًا للاحتياطي الفيدرالي، موزعة في أماكن مختلفة. إلى جانب عدد من المجالس الاستشارية والخبراء يعين الكونجرس بعضهم.
تشابكات معقدة.. التضخم والتوسع بالإنفاق الاستثماري
السياسة التوسعية للحكومة، التي تقوم على الإنفاق الاستثماري لدفع النمو والتوظيف، تعني مزيدًا من التضخم، يجب على البنك المركزي مواجهته عبر سلاح الفائدة. إذ أن وزارة المالية حينما تواجه ارتفاعًا في عجز الموازنة، تتجه لزيادة طروحات أدوات الدين من سندات خزانة (طويلة الأجل) وأذون (قصيرة الأجل). ما يغري البنوك ويدفعها نحو تمويل عجز الموازنة وتقليل المعروض الائتماني الخاص بالمشروعات الاقتصادية في القطاع الخاص.
قبل التسعينيات، كانت أسعار الفائدة منخفضة بشكل قلص الإدخار وأفقده القدرة على مكافحة التضخم لصالح الحفاظ على أسعار صرف الجنيه فقط. لكن منذ صدور قانون البنك المركزي والبنوك، أصبح المركزي معنيًا بالسيطرة على معدلات التضخم. وذلك بغض النظر عن عجز الموازنة وتأثيراتها على عبء خدمة الدين. وهذا أمر تغير مع المجلس الجديد.
أزمة الدين العام
يمثل ملف الدين العام إحدى التحديات التي تظهر ضرورة التعاون بين البنك المركزي والمالية. فمستهدفات الأخيرة الخاصة بالسيطرة على فوائد الديون التي تلتهم ثلث مصروفات الموازنة العامة للدولة حاليًا مرهونة بقرار البنك المركزي الخاص بالفائدة، ورفعها يعني ضياع تلك المستهدفات.
يعتبر الغلاء أحد المشكلات المستفيدة بقوة من التنسيق بين السياستين. يقول محمد يوسف، باحث رئيسي في مركز تريندز للبحوث والاستشارات، إن السيطرة على الغلاء لا تتم حينما يتم إرجاعه للإفراط في الطلب الخاص، أو التوسع الحكومي في الإنفاق على الدعم والضمان الاجتماعي للفقراء.
يضيف الباحث أن الفكر التنموي المنضبط يفسر الغلاء بقصور العرض بسبب ضعف قدرات الاستثمار والتشغيل والإنتاج في الاقتصاد. وبنفس المنهجية التنموية، لا يمكن أن نبذل جهودًا تنسيقية بين السياسات الاقتصادية في التجارة الخارجية، ونقصرها على تشجيع التصدير حتى لو كانت مجرد صادرات مواد خام دون تقييد الاستيراد في جانب الأمور الترفية والكماليات.
لا يحد المجلس الجديد من صلاحيات محافظ البنك المركزي أو وزير المالية. لكنه يساعد على وضع نقاط التقاء بينهما، في ظل وجود اتجاه ساد السنوات التي تلت ثورة 25 يناير بعمل كل جهة من أجل تحقيق مستهدفاتها، بصرف النظر عن تداعياتها على الجهات الأخرى.
يعاني العالم حاليًا من أزمة تضرب جانبي العرض والطلب معًا بتأثر سلاسل التوريد والإمداد العالمية، وتوقف نشاط التصنيع، وتراجع مستويات الأجور، بالإضافة إلى ارتفاع معدلات البطالة، وتزايد حالات عدم اليقين. ما جعل البحث عن تكامل بين جميع الأجهزة الحكومية ضروري للمواجهة.
وجود اثنين ممن تولوا وزارة التخطيط الدكتورة هالة السعيد (حاليًا) والدكتور أشرف العربي (سابقًا) يرتبط بالدور الذي تقوم الوزارة فيما يتعلق بالمرحلة الثانية من الإصلاح الاقتصادي المتعلقة بالإصلاحات الهيكلية. فالمرحلة الأولى ارتبطت في المقام الأول بالإصلاحات النقدية، وفي مقدمتها تحرير سعر الصرف.
يترقب العالم حاليًا موقف الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي من رفع الفائدة، بعدما أكد أنه أصبح أكثر استعدادًا لرفعها في النصف الأول من عام 2022 بدلاً من 2023.
ومن المتوقع أن يؤدي رفع أسعار الفائدة في الولايات المتحدة الأمريكية إلى نزوح مبالغ كبيرة من استثمارات الأجانب من الأسواق الناشئة إلى السوق الأمريكية مع ارتفاع أسعار العائد المتوقع على سندات الولايات المتحدة التي تعتبر الأكثر ضمانًا في العالم.