ما تزال نتائج انتخابات العراق المبكرة تثير أزمات جمّة. وذلك على خلفية مواصلة القوى السياسية. التي تكبدت هزيمة مدوية وفادحة ومطالباتها بإلغاء نتيجة الانتخابات التشريعية. كما أن تلك القوى الممثلة سياسيا في تحالف الفتح تصر على اتهام أطراف محلية وأجنبية بتزوير نتائج الاستحقاق الانتخابي. الذي جرى مطلع تشرين الأول/أكتوبر الماضي. بينما تقدمت فيها كتلة زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر.
وبينما تشهد العاصمة بغداد، وتحديدا المنطقة الخضراء، التي يوجد فيها مقر الحكومة العراقية. وكذا مجمع السفارة الأمريكية والعديد من البعثات الأممية، حالة من التعبئة القصوى. وتطوقها الفصائل المسلحة الموالية لإيران، فإنها كذلك تضغط من خلال الوسائل القانونية لإلغاء النتائج.
وبحسب وكالة “فرانس برس” فالمحكمة الاتحادية العراقية أرجأت النظر في الدعوى المقدمة من التحالف السياسي الممثل لهيئة الحشد الشعبي. والذي حاز 17 مقعداً من أصل 329 في البرلمان. وذلك مقابل 48 مقعداً في الانتخابات السابقة. إذ يطعن في نتيجة الانتخابات بينما يطالب بعدم قبولها والتصديق عليها. ومن ثم منع البرلمان من الانعقاد. ومن المتوقع أن تنعقد الجلسة في 22 كانون الأول/ديسمبر الجاري لحسم القضية.
ورغم تأكيد المفوضية العليا للانتخابات عدم حدوث أي خروقات أو تزوير بالعملية الانتخابية. فإن الأطراف السياسية المعترضة على النتائج تؤكد ضرورة “إلغاء نتائج الانتخابات” -حسبما جاء في الدعوى القضائية. وقال المحامي محمد مجيد الساعدي إنه “اتضح وجود مخالفات جسيمة وكبيرة جداً من شأنها إحداث تغيير بالنتيجة العامة بعد الاطلاع على خلاصات تقارير خبراء طلبتها المفوضية الانتخابية”.
إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية في العراق
اللافت أن تداعيات الانتخابات التشريعية تبرز جملة من التأثيرات المتفاوتة على السياق المحلي والإقليمي بالعراق. والذي يشهد إعادة ترتيب أوضاعه الداخلية بعد الانسحاب المقرر لقوات التحالف. وذلك نهاية الشهر الجاري وفقا لمخرجات الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة.
ولذلك تقع بغداد في ظل الاستقطاب السياسي الحاد والمأزوم والوضع الأمني المنفلت تحت وطأة تصعيد مستمر من قبل المليشيات المدعومة من طهران. والتي تضغط لجهة إخراج القوات الأمريكية من جهة واستعادة نفوذها السياسي من جهة أخرى. وبخاصة بعدما تآكلت حواضنها الاجتماعية في ظل صعود احتجاجات “تشرين” عام 2019. والتي استمرت حتى نهاية العام الماضي. وقد اصطدمت على نحو مباشر بسلاح المليشيات الذي عمد إلى قمعها.
ومؤخراً ظهر فصيل مسلح جديد بالتزامن مع التحضيرات القائمة بخصوص خروج القوات الأمريكية من العراق. وقد تورط في عملية قصف صاروخي على المنطقة الخضراء مطلع الأسبوع. الفصيل الذي يعرف بـ”لواء فاتح خيبر” مثله مثل فصائل مسلحة وطائفية عديدة. تتشكل بصورة مباغتة لجهة تنفيذ مهام تكتيكية مؤقتة. ومن ثم تتلاشى دون أن ترتبط بجهات إقليمية أو محلية رسمية. وعبر صفحتها الرسمية في موقع التواصل الاجتماعي قالت إن المهلة الممنوحة للقوات الأمريكية شارفت على الانتهاء ولم ينفذ الاتفاق بمغادرة البلاد. وهدد بتنفيذ ضربات “موجعة”.
حكومة “أغلبية وطنية”
وبالرغم من مضي أكثر من عشرين يوما على إعلان المفوضية العليا المستقلة للانتخابات النتائج النهائية، ورفعها إلى المحكمة الاتحادية للمصادقة عليها. لم تسجل الحوارات بين الكتل الفائزة أي تقدم في ظل إحجام الأطراف الأساسية. لا سيما الأحزاب الكردية والقوى السنية عن التعاطي بإيجابية مع دعوة زعيم التيار الصدري لتشكيل حكومة “أغلبية وطنية”. بعدما حصدت الكتلة الصدرية بقيادته المباشرة 73 مقعدا وبفارق أكثر من 30 مقعدا عن أقرب منافسيه الشيعة ائتلاف دولة القانون. ومثلها مع حلفائه المحتملين حزب تقدم بقيادة رئيس البرلمان المنحل محمد الحلبوسي، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني.
كما تم تسريب معلومات عن مطالبات بضرورة اتفاق أقطاب البيت الشيعي على مرشحه لرئاسة الحكومة، المنصب الذي يحتكره الشيعة، عُرفا، منذ عام 2003. بحسب الباحث العراقي، منتظر القيسي، وذلك قبل فتح باب المباحثات حول تشكيلة الحكومة وما يتبعها من إعادة تقاسم السلطة، وتوزيع الموارد. الأمر الذي انعكست مفاعيله على موقف المحكمة الاتحادية من قبول النظر في القضية التي رفعها تحالف الفتح أمامها، للمطالبة بإلغاء نتائج الانتخابات بدعوى التزوير. بالرغم من عدم اختصاصها وعدم وجود أي نص قانوني يسمح لها أو لغيرها سوى الهيئة القضائية في مفوضية الانتخابات، بقبول الطعن في نتائج محطات ومراكز انتخابية بعينها.
ويردف القيسي لـ”مصر 360″: “أعتبر ذلك جزءا من مواءمات النظام لإيجاد مخرج من الأزمة التي خلقتها الفصائل الولائية من جراء هزيمتها المدوية في صناديق الاقتراع. ووضعتها في موقف صعب. فهي في مواجهة غريمها الأخطر (مقتدى الصدر) الذي لم يتردد بالتلويح تكرارا باجتثاث نفوذها من خلال الدعوة لفرض سلطة الدولة على قيادة قوات الحشد الشعبي. التشكيل العسكري الضخم، الذي ينفرد الولائيون فعليا بإداراته والتحكم بتحريك وحداته والتصرف في ميزانيته المالية التي تقدر بمليارَي دولار سنويا”.
تحالف ثلاثي من أجل حكومة العراق
تمنع بارزاني والحلبوسي عن اقتناص فرصة تشكيل تحالف ثلاثي مع الصدر، بما يضاعف تمثيل الأكراد والسنة في الحكومة الاتحادية. حسبما يوضح الباحث العراقي، ويحولها إلى حكومة مثالثة، وانتزاع تنازلات كبيرة في الملفات الخلافية من قبيل توزيع الميزانية والمناطق المتنازع عليها وتحقيق التوازن العرق طائفي في المؤسستين الأمنية والعسكرية.
لكن خيارات الطرفين لم تفاجئ أحدا “فلكل منهما (بارزاني والحلبوسي) حساباته الخاصة التي لا تفرض عليهما مراعاة مصالح شركائه داخل مكونه الاجتماعي فقط. وإنما تجنب إثارة غضب الفصائل الولائية وإيران من خلفها. لا سيما الحزب الديمقراطي الكردستاني الذي يبدو أنه وجد في الوقوف على الحياد في الصراع بين الصدر وبين الولائيين ورقة رابحة لوقف الهجمات بالصواريخ والطائرات المسيرة على أربيل”. يقول القيسي.
ويتابع: “بينما يدرك الحلبوسي أن انخراطه في مشروع زعيم التيار الصدري سيجلب عليه المتاعب داخل المحافظات السنية. التي تخضع أمنيا لسلطة الحشد الشعبي وتقوي شوكة غريمه السني خميس الخنجر. الذي يواصل محاولاته بكل الطرق وقف صعود الحلبوسي الصاروخي إلى زعامة سنة العراق”.
توازنات القوة العسكرية
ورغم أن خطاب الصدر لم يعكس المصاعب التي تواجهه في حشد الدعم لمشروع حكومة الأغلبية، فإن تعقيدات المشهد ظهرت على تحركاته الأخيرة. وذلك من خلال قبول الاجتماع بخصومه الشيعة -بمن فيهم الخصم المباشر نوري المالكي. وذلك في منزل زعيم تحالف الفتح هادي العامري، ما يعد إقرارا ضمنيا بأن نتائج الانتخابات وحدها ليست الفيصل في تشكيل الحكومة الجديدة. وأن توازنات القوة العسكرية ستفرض نفسها على مسار اختيار رئيس الوزراء. وتشكيل الهيئة الوزارية المقبلة. وهو المعنى الذي حرص الولائيون على ترسيخه، منذ سنوات، من خلال مأسسة هيئة الحشد الشعبي. وتحويلها إلى سلطة موازية تضمن لهم نفوذا وسلطة دائمين، بغض النظر عن نتائج أي انتخابات مستقبلية وشكل الحكومات التي ستنتج عنها.
على هامش هذا الصراع، أعلنت أبرز القوى السياسية المستقبلة التي خرجت من رحم الاحتجاجات “التشرينية”، حركتا امتداد والجيل الجديد. إلى جانب عدد من الفائزين المستقلين الآخرين، تشكيل “تحالف من أجل الشعب” لقيادة جبهة المعارضة داخل البرلمان، بما يتوافق مع الشعارات الانتخابية التي رفعتها. وأهمها رفض التحالف مع كل الأحزاب السياسية التي شاركت في الحكومات السابقة. ذلك التعهد الأساسي الذي يشكل رأس مالها الرمزي. والذي لن تستطيع التراجع عنه حتى لا تخسر الجمهور “التشريني” الذي صوت لها.
وعليه يبدو أن الأمور ماضية باتجاه تشكيل حكومة توافق وطني برئيس توافقي جديد بحسب الباحث العراقي. كما جرت العادة خلال الدورات الانتخابية الأربع الماضية. بحيث تراعي الأوزان البرلمانية الجديدة وتحفظ حصة الولائيين في السلطة. لكن ليس قبل أشهر عدة من المناورات الخشنة بين المليشيات الشيعية.