دخلت الحرب اليمنية مرحلة جديدة أقرب إلى تغيير المعادلة باتجاه أحد الطرفين. سواء القوات الحكومية المدعومة سعوديًا أو المتمردين الحوثيين الذين باتوا قاب قوسين أو أدني من السيطرة على شمال البلاد، وتوسيع نطاق السيطرة على الحدود مع المملكة العربية السعودية. فضلاً عن كسب منطقة استراتيجية تكون نقطة انطلاق رئيسية لعملياتهم العسكرية باتجاه الأراضي السعودية.
الأنباء القادمة من جبهة الجوف، رغم تضاربها، تشير إلى احتمالية سيطرة الحوثيين على الطريق الرئيسي الواصل للحدود السعودية وطريق إمداد سريع نحو مأرب. وهي الجبهة الرئيسية أو كما يحلو لمتابعي الحرب اليمنية تسميتها بـ«أم المعارك» باعتبار أن سيطرة جماعة أنصار الله عليها بمثابة تغيير كامل لميزان القوى في اليمن.
التطورات الميدانية للمعارك في شمال اليمن تتمركز حول منطقة اليتمة، التي يقول الحوثيون إنهم سيطروا عليها. وبالمقابل تنفي القوات الحكومية الأمر وتقول إنها لا تزال تتحكم في المنطقة. لكن تبادل النفوذ العسكري في تلك البقعة الاستراتيجية، وما يحيطها من دلالات تشير إلى أن الحوثيين الأقرب لحسم المعركة لصالحهم. وهو ما يعني بالحسابات العسكرية مساعدة الجماعة في السيطرة الكاملة على مأرب آخر المعاقل الحكومية في الشمال.
لذلك، يمكن القول إن سيطرة الحوثيين على اليتمة أو معارك الجوف تحديدًا من شأنها تحديد مصير الحرب اليمنية إلى حد كبير. ليس لموقعها الاستراتيجي في دعم العمليات العسكرية الحوثية فقط، ولكن لأن الجماعة الموالية لإيران ستنتقل مباشرة إلى الحدود السعودية. بالإضافة إلى السيطرة على الطريق الرئيسي الواصل بين المملكة وجبهة مأرب. فضلاً عن انطلاق العمليات العسكرية من الحدود مباشرة إلى الأراضي السعودية بعدما كانت تنطلق من صعدة فقط بالاعتماد على الطائرات المسيرة. وهو ما يعني أن انتصار الحوثيين في جبهة الجوف لا يمثل تغييرًا في معادلة الحرب لصالح الحوثيين فقط. ولكن يجعل السعودية في مرمى هجمات الحوثي مباشرة، وهو ما يفسر تكثيف التحالف الذي تقوده الرياض عمليات القصف الجوي على صنعاء ومحاور مأرب لتخفيف الضغط على محاور الجوف؛ لأنها تدرك جيدًا أن أيّ انتصار حوثي هناك يعني «كارثة» بالنسبة للملكة.
ماذا يحدث في الجوف؟
خلال الأيام الأخيرة ركز الحوثيون معاركهم في جبهة اليتمة الواقعة شمال شرق الجوف، متقدمين من ناحية جبل قشعان إلى صحراء اليتمة. ومن ثم إلى سوق المنطقة، والسيطرة على الطريق الرئيسي الواصل بين مأرب والحدود السعودية. وحققت قوات الحوثي انتصارات في مديرية خب والشعف، على مقربة من الحدود اليمنية السعودية.
على خلاف الجبهات الأخرى تقدمت قوات الحوثي سريعًا في مناطق استراتيجية للغاية كان يفترض أن تجد مقاومة شرسة من القوات الحكومية وقوات التحالف بقيادة السعودية. لكن الجماعة الموالية لإيران اقتربت من الحدود مع السعودية بعد السيطرة على مساحات واسعة متخطية وادي سبلة وعفى.
عندما دارت المعارك حول جبال حبش الاستراتيجية، تحدث الطرفان (الحوثي والحكومة) عن انتصارات. قبل أن تعلن قوات الحوثي السيطرة على سوق اليتمة، ما يعني أنها تجاوزت تلك الجبال وما بعدها، حيث هضبة آل جعيد الاسترايتجية. والتي كانت تمثل حصنًا مهمًا لحماية السوق.
في الطريق إلى منطقة اليتمة وقرب الطريق الاستراتيجي شهدت المواجهات الميدانية تغييرات لصالح القوات الحكومية التي سيطرت على المحور العسكري الشمالي في الجوف. بعدها جرى نقل المعارك حول السوق، باعتباره نقطة استراتيجية ومكسبا هاما لكلا الطرفين.
تغيير عسكري من طرف الحكومة اليمنية، يثير الشكوك، ساعد مقاتلي الحوثي في السيطرة الكاملة على مديرية خب والشعف، وأجزاء من مديرية برط العنان. الواقعة- كما نقلت وسائل إعلام يمنية- تشير إلى أن محافظ الجوف (معيَّن من قبل الحكومة) أمر بسحب القوات من مناطق حدودية إلى جبهة مأرب.
وفيما لا يزال الموقف الميداني غامضًا في محاور الجوف، لا سيما اليتمة، فإن الطرفين الحوثيين والحكومة يتحدثان على مدار الأيام الثلاثة الماضية عن تبادل انتصارات. فيما تشير الأنباء غير المؤكدة بأن قوات الحوثي التي تقدمت مسافة ليس بالقليلة تراجعت مرة أخرى إلى الشريط الصحراوي المتمثل في جبل السليلة وجبل جبش وجبل قشعان.
لماذا الجوف؟
التطورات المتسارعة تشير إلى أن ثمة إرادة للحسم العسكري وأن فرص الحوار تبدو ضئيلة. بالنظر إلى توسيع الحوثيين تحركهم باتجاه الجوف، وهي محافظة تمثل عمقا استراتيجيا وعسكريا لجماعة الحوثي. باعتبارها تحد محافظتي صنعاء وصعدة المعقل الرئيس لحركة أنصار الله ومحافظة مأرب التي تشهد مواجهات دامية خلال الأشهر الأخيرة.
كما أن سيطرة الحوثيين على الجوف، يعني سيطرتهم على معبر الوديعة الحدودي، الذي يربط اليمن والسعودية. وهو المعبر الوحيد الذي يعمل بشكل طبيعي حاليًا، ويمثل رئة المنطقة الصحراوية ومناطق الوسط للحصول على الغذاء والاحتياجات الرئيسية. وهو ما يعني أن موازين القوى ستكون بيد الجماعة التي تستطيع كسب ولاءات جماعات محلية وقبائل مقابل تأمين الاحتياجات الرئيسية من الغذاء والدواء وغيرها.
كيف تتأثر جبهات مأرب؟
التأثير الأكبر للجوف على جبهات القتال في مأرب، والأخيرة بمثابة المسرح الرئيسي الذي تنطلق منها هجمات القوات الحكومية باتجاه قوات الحوثي في مناطق الشمال. ومن ثمّ فإن سيطرة الأخيرة على الجوف يعني تحكمهم أولاً في خطوط الإمداد إلى مأرب فضلاً عن الوصول إلى عمق المدينة،. وبالتي فرض مزيد من الضغوط على القوات الحكومية وتهديد المصالح والأمن السعودي.
لذلك، فإن استعادة الجوف بالنسبة للحوثيين تمثل جوهرًا رئيسيًا في الأهداف الكبرى للمعركة التي تخوضها ضد القوات الحكومية المدعومة سعوديًا. وعليه يعني سقوط الجوف في يد الحوثيين تغيير مسار الحرب في اليمن بشكل كبير، من عدة نواحي سواء عسكريًا. وذلك من خلال تمهيد الطريق للحوثيين للتقدم نحو محافظة مأرب الغنية بالنفط، والتي يعتبر سقوطها هي الأخرى انتكاسة كبرى للقوات الحكومية في حربها ضد الجماعة الموالية والمدعومة من إيران. أو على الصعيد السياسي باعتبارها ورقة ضد رابحة في أي مفاوضات جارية بين الجماعة والسعودية.
منصة جديدة للحوثيين تجاه الأراضي السعودية
كان الحوثيون ينطلقون بهجماتهم ضد الأراضي السعودية من صعدة، بينما تتحرك الطائرات السعودية في الشريط الحدودي الخالي من تواجد المتمردين بغطاء جوي لحماية أراضيها. لذلك سيطرة الحوثيين على الجوف، يعني توسع سيطرة الجماعة على مناطق حدودية خارج محافظة صعدة. وهو ما يعني منصة جديدة لهجمات الحوثي باتجاه المملكة.
لذلك كان لافتًا الاستنفار السعودي غير المسبوق خلال الساعات الماضية، من خلال تنفيذ 40 عملية استهداف ضد جماعة الحوثي في مأرب والجوف خلال 24 ساعة. وإعلان التحالف الذي تقوده السعودية عن مقتل أكثر من 300 عنصر من مقاتلي الحوثي. كما ساعدت السعودية القوات الحكومية في منطقة اليتمة بنحو 15 غارة جوية، الأمر الذي أدى إلى تغير السيطرة وتراجع مسلحي الحوثي.
تعاملت السعودية مع التطور السريع من خلال جبهتين. الأولى شنّ سلسلة غارات استهدفت من خلالها مواقع محيطة بمنطقة اليتمة الحدودية مع نجران السعودية في محافظة الجوف. والثانية تكثيف الهجمات على صنعاء لتخفيف الضغط على الجوف، استهدفت في واحدة منها مطار صنعاء الذي خرج عن الخدمة نتيجة الهجمات.
لماذا حدثت انتكاسة للقوات الحكومية في الجوف؟
ربما كان مفاجئًا التقدم السريع لقوات الحوثي في مناطق تخضع لسيطرة الحكومة خلال الفترة الأخيرة. بيد أن ثمة عاملين مشتركين في أغلب تلك التطورات المدانية:
أولا: حدوث اتفاقات محلية بين الحوثيين والقبائل، بالإضافة إلى مواقف غير مفهومة من أطراف محسوبة على الحكومة. على غرار سقوط اللواء الأول – حرس حدود في مديرية خب والشعف. وذلك بعد صدور أوامر من محافظ الجوف الموالي لجماعة الإخوان من المناطق الحدودية، ونقله إلى مأرب.
ثانيًا: انقطاع رواتب عدد كبير من القوات الحكومية، وبعضها يشعر بالامتعاض باعتبارهم يحمون الحدود السعودية أكثر من حماية الأراضي اليمنية. وفي واحدة من المرات أرجع محافظ الجوف أمين العكيمي سيطرة الحوثيين على مناطق واسعة بالجوف بسبب توقف الإمداد والرواتب للجنود والضباط.
دلالات وسيناريوهات متوقعة
المواجهات الحالية تمثل مرحلة مفصلية في سياق الحرب اليمنية. فإما تنجح القوات الحكومية في إعادة مسلحي الحوثي إلى حيث أتوا، أو تتقدم الأخيرة إلى الحدود مع السعودية. وهو ما يؤدي إلى جملة من التطورات المهمة على النحو التالي:
– سيطرة جماعة الحوثي على الطريق الرئيسي الواصل إلى الحدود السعودية. ومن ثم قطع الإمدادات عن جبهات مأرب، وهو ما يساعدهم على الانتصار في تلك المعركة المصيرية.
– احتمالية سيطرة الحوثيين على معبر الوديعة الحدودي، الرابط بين اليمن والسعودية، وهو المعبر الوحيد الذي يعمل بشكل طبيعي حاليًا. ويمثل ثقلاً في ميزان القوى ميدانيا، من خلال كسب ولاءات محلية.
– خلال السنوات الماضية، شكلت السعودية قوات للدفاع عن حدودها، خاصة من يمنيين جرى تدريبهم وتمويلهم ودعمهم بغطاء جوي لتأمين حدودها الجنوبية. ومن شأن اتساع سيطرة الحوثيين على الشريط الحدودي أن يضع السعودية أمام معضلة تحشيد عسكري إضافي على الحدود. فضلاً عن تكلفة الحرب الباهظة.
– تمثل الجوف هدفًا رئيسيًا ضمن أهداف الحوثيين ومن خلفهم إيران، بالنسبة للصراع مع السعودية. باعتبار أن المنطقة اليمنية المتاخمة لأراضي المملكة ستتحول إلى منصة انطلاق للهجمات الحوثية الإيرانية ضد السعودية.
– الجوف ومأرب توفِّر عوامل إغراء للحوثيين في سياق تأمين موارد للجماعة. باعتبارها خزانًا للنفط والغاز في اليمن، بإيرادات تقترب من 3 مليارات دولار سنويًا، وهو ما يشجع المتمردين على مواصلة الزحف نحوها.
– يمكن اعتبار تسارع الأحداث مؤشرًا على قرب الانخراط في حوار سياسي. ذلك أن الأطراف المتقاتلة تبذل كل ما في وسعها لتحسين أوضاعها ميدانيًا قبل المحادثات.
– تظهر الخسائر التي تتكبدها الأطراف المناهضة للحوثيين خلال الفترة الأخيرة أن الثغرة تأتي من قوات المقاومة الشعبية، التي يبدو أنها ملّت الحرب. خاصة أنها تمثل ركيزة رئيسية في قوام تلك القوات.