التعرف على الظروف التي نشأت فيها الأحزاب والقوى السياسية هو الميزان المعتدل الذي يمكن من خلاله قياس قدرة هذه الأحزاب والقوى المترابطة على البقاء أو التأثير، فكما قال موريس دوفرجيه في كتابه الأحزاب السياسة:”تتأثر الأحزاب السياسية بأصول نشأتها، ويستحيل فهم الفارق التكويني الذي يميز بين حزب العمال البريطاني والحزب الاشتراكي الفرنسي، إذا لم نتعرف إلى الظروف المختلفة لنشأة كل منهما كما يستحيل تحليل تعددية الأحزاب الفرنسية أو الإيرلندية، أو الثنائية الحزبية الأمريكية بجدية إذا لم نرجع إلى أصول الأحزاب في هذه البلدان”.
تنشأ الأحزاب تعبيرًا عن مصالح جماعة اجتماعية في لحظة تاريخية تمارس فيها هذه الجماعة وعيها بذاتها ومصالحها أو تمارس نضالا من أجل قيادة التغيير الاجتماعي في بلدانها، أو تكون الطبقة الممثل لها الحزب في حالة تعبئة جماهيرية لتكون في مواجهة أى هجوم على مكتسباتها، أو مشتبكة في تحالفات سياسية من أجل إعادة تأسيس آليات الحكم في مجتمعها وتعيين الوزن النسبي للطبقات والنفوذ داخل النظام السياسي.
اقرأ أيضًا:
تنشأ الأحزاب في هذه السياقات واللحظات المختلفة لتمثيل الجماعة الاجتماعية ومصالحها وطرح رؤيتها داخل حلبة المؤسسات السياسية أو قيادة النضال المجتمعي لحيازة التأييد لوجهة نظر من تمثلهم والسعي للهيمنة على قطاع جماهيري واسع، لتعظيم فرص انتصار رؤيتها سواء من خلال الوسائل البرلمانية أو بقيادة الحركة الاحتجاجية نحو النصر.
مضمون تشكيل الأحزاب في مصر
تنشأ الأحزاب السياسية في مصر حين تقرر مجموعة من الناس تمتلك أفكارا مشتركة، وأحيانًا بدون ذلك، مثل الأحزاب العائلية و”الشللية”، بعد أن تحقق متطلبات قانون الأحزاب وتؤسس حزبًا سياسيًا، وتتضمن شروط قانون الأحزاب عددا معينا من الأعضاء، وبرنامج سياسي لا يتعارض مع الدستور ولا يتبنى أفكارًا طائفية أو “طبقية” أو يدعو لتشكيلات عسكرية أو دينية.
خلقت ثورة يناير ومن بعدها “ثورة 30 يونيو” المناخ السياسي الملائم لتأسيس أحزاب سياسية حقيقية في مصر، كان عدد الأحزاب السياسية قبل ثورة يناير 24 حزبًا تأسس أغلبها بحكم قضائي بعد رفض لجنة الأحزاب تأسيسها، وارتفع العدد إلى 84 حزبًا بعدها حين أصبح تأسيس الأحزاب بالإخطار فقط وألغيت لجنة شئون الأحزاب، ووصل العدد الآن الي 104 أحزاب بعد أن وضعت بعض الشروط ورفع الحد الأدنى لأعضاء الحزب إلى 500 عضو.
ورغم العدد الكبير من الأحزاب إلا أن 19 منها فقط تمكنت من توصيل أعضاء إلى البرلمان في انتخابات 2015 بمجموع 245 عضوًا أغلبها ضمن تحالف “دعم مصر” المؤيد للرئيس عبد الفتاح السيسي، وظلت الكتلة الرئيسية للأعضاء المستقلين 351 عضواً، غالبيتهم مؤيدين لنفس برنامج دعم مصر غير أنهم انتخبوا خارج قائمة التحالف.
أكثر هذه الأحزاب ينطبق عليها الوصف الشعبي الشائع من زمن حكم مبارك “أحزاب كرتونية” وغالبية أعضاء البرلمان تم اختيارهم لقائمة “دعم مصر” وانتخابهم لشعبيتهم في دوائرهم أو اعتمادًا على عصبيتهم القبلية أو قدراتهم المالية التي سمحت لهم بالإنفاق بسخاء على الدعاية الانتخابية.
وكما هيمنت الأحزاب الناشئة بعد ثورة يناير 2011 على غالبية عضوية برلمان 2012، نجحت الأحزاب المؤسسة بعد 30 يونيو في الهيمنة على أغلب مقاعد برلمان 2015، وفي المناسبتين الانتخابيتين ادعت تلك الأحزاب تمثيل مطالب الثورة والتعبير عنها داخل البرلمان.
تختلف القوى السياسية عن الأحزاب في عدم تقيدها بحدود البرلمان والدستور، بل يتجاوز بعضها ذلك بالدعوة إلى الثورة أو اسقاط الدستور أو حتي تعديله وصولا للمطالبة بدستور جديد، والمفارقة في الثورة المصرية أن جزءًا من أحزاب يناير والتي تأسست للدفاع عن مطالبها، خرج ثائرًا في 30 يونيو على رئيس وبرلمان أنتجتهما تلك الثورة وادعوا أيضًا التعبير عن مطالبها والسعي لتحقيق أهدافها.
وبينما تعاظم دور القوى السياسية والأحزاب بعد ثورة يناير، وانخرطت كلها في الشارع لتعبئة الجماهير سواء لدعم نظام الحكم، أو لمعارضته في مشهد ديمقراطي نادر في مصر ساعدها أن النظام السياسي في دستور يناير كان شبه برلماني، أي أن السلطة كانت مقسمة بين رئيس الجمهورية والبرلمان، تضاءل دور القوى السياسية والأحزاب بعد ثورة 30 يونيو، بعد أن عاد الدستور للنظام الرئاسي، مقلصًا دور الأحزاب السياسية في التأثير على السياسة العامة للدولة واضعا كل السلطات في يد رئيس الجمهورية.
أصبح دور الأحزاب هامشياً، وتراجع تأثير القوى السياسية في الشارع وحجمت قدرتها على العمل السياسي المستقل، واقتصر الإعلام والعمل السياسي على المؤيدين لسياسات الدولة، مع بعض المحاولات الهامشية لمجموعات سياسية تسعى لاختراق الساحة السياسية بطرح أفكار ثورة يناير على استحياء دون فعل جماهيري مباشر.
اليسار بعد ثورة يونيو
أسس غالبية من المنتمين لليسار حزب “التحالف الشعبي الاشتراكي” متبنين رؤية اشتراكية وسطية تنطلق من مطالب ثورة يناير في “العيش والحرية والعدالة الاجتماعية” لكن سرعان ما شهد الحزب انقسامًا في أعقاب انتخاباته الداخلية في 2013، وخروج جزء كبير من أعضائه وسرعان ما أعلنوا عن مشروع تأسيس حزب جديد تحت اسم “العيش والحرية”.
رغم عدم حيازة حزب التحالف الشعبي على نفوذ واسع في الشارع، إلا أن أعضاءه كانوا ضمن الفاعلين في حركة التعبئة التي سبقت ثورة 30 يونيو، لكن انقسام الحزب أضعف حتى من النفوذ المحدود له في الشارع، وتحول كلا الحزبين إلى مجموعات نشاط داخلية أكثر منها حركات سياسية فاعلة في الواقع، واقتصرت أنشطتهما على إصدار البيانات السياسية في الأحداث الهامة، ومواقع في عالم “السوشيال ميديا” الافتراضية.
الوسط السياسي
نجحت تجربة أحزاب الوسط نسبياً والتي برز من بينها حزبا الدستور والديمقراطي الاجتماعي بعد ثورة ينايرأ ونجحا في تعريف قطاع واسع من الجماهير بالحزبين وتقديم رؤية وسطية ومشاركة أعضائهم بفاعلية في انتخابات 2012، وحيازة عدد جيد من المقاعد في ظل هيمنة الإخوان والجماعات الدينية الأخرى.
لكن موقف الحزبين من ثورة 30 يونيو عصف بالتماسك الداخلي وانعكس سلبًا على تواجدهما في الساحة السياسية.
فشل الديموقراطي الاجتماعي
الحزب الديموقراطي الاجتماعي شكل غالبية الحكومة في أعقاب ثورة يونيو، حيث تقلد عضوان بارزان منه منصب رئيس الوزراء ونائب رئيس الوزراء، لكن أحداث فض اعتصامي رابعة والنهضة أحدثت خلافات واسعة داخل الحزب، وانقسم الأعضاء بين مؤيد ومعارض لها، والمؤكد أن الحزب قد تحمل مشاركته في حكومة فض الاعتصامين، وتضاءل تأثيره في الحياة السياسية في أعقاب إجراء الانتخابات وحصوله على أربع مقاعد فقط في مجلس النواب المنتخب في 2015.
“البرادعي” يُسقط “الدستور”
حظي حزب الدستور بزخم واسع في بدايات تأسيسه بعد ترأس السياسي البارز محمد البرادعي له، وما كان يحظى به من تقدير لدوره في تحدي نظام مبارك قبل وأثناء ثورة يناير، ونجح الحزب في حيازة نفوذ سياسي ملحوظ سواء بين الجماهير التي تطلعت كثيرًا لـ”البرادعي” وانتظرت مواقفه السياسية كمرشد لها خلال الفترة الانتقالية، وحتى تولي الإخوان للحكم.
اقرأ أيضًا:
ساهم “البرادعي” بدور بارز في جبهة الإنقاذ التي تصدرت المشهد قبل ثورة 30 يونيو، غير أن موقف “البرادعي” وانسحابه من الساحة السياسية بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة، دون إعلان موقف واضح من الأحداث، انعكس على تأثير الحزب ونفوذه السياسي.
ورغم سعي الحزب للنأي بنفسه عن مواقف “البرادعي” المترددة، واختيار أكثر من قيادة للحزب في مشهد ديمقراطي لم يتكرر حتى في أغلب أحزاب يناير، إلا أن النفوذ السياسي وشعبية الحزب قد تأثرت كثيرًا بخروج “البرادعي” منه، حيث كان سببًا رئيسيًا في شعبية الحزب بعد يناير.