“الحكومات والصحافة” كان عنوان محاضرة للدكتور محمود عزمي ضمن سلسلة محاضرات ألقاها بين عامي 1941-1942 في معهد الصحافة العالي بجامعة القاهرة، وجُمعت تلك السلسلة في كتاب يحمل عنوان “مبادئ الصحافة العامة”، والذي يعد أحد المراجع المهمة فيما يتصل بمفاهيم الصحافة ومصطلحاتها وعناصرها المادية القانونية والفنية، فضلاً عن علاقتها بالرقابة الحكومية.
والدكتور محمود عزمي (1889-1945)، يعد من رواد الحقوق والحريات في مصر، كما أنه من الآباء المؤسسين لمهنة للصحافة في الوطن العربي، وعمل أيضًا في آخر عمره رئيسًا لوفد مصر الدائم في الأمم المتحدة.
في محاضرة “الحكومات والصحافة” وصف عزمي تاريخ الصحافة بـ”تاريخ التقدم البشري”، ويرى أن تاريخ تلك المهنة يمثل “تاريخ نضال في سبيل الحرية من ناحية الصحافة، ونضال في سبيل كتم الأنفاس من ناحية الطغاة والمستبدين، وكان الفوز سجالاً بين الطرفين”.
في المرات التي تمكنت فيها الصحافة من الفوز ببعض جولات معركة الحرية تم اعتبارها “سلطة رابعة”، هذه السلطة حاولت تأكيد حضورها إلى جانب السلطات الثلاث الأخرى (التشريعية والتنفيذية والقضائية)، في المقابل، والكلام لايزال للدكتور عزمي، حينما كان المستبدون يفوزون بجولات في تلك المعركة كانت السلطة تتحكم في الصحافة وتوجهها بشتى الطرق.
الصحفي الثائر الذي قضى جل عمره مدافعًا عن حرية الرأي والتعبير وعن حق المواطن في التعليم والمعرفة ونادى بالمساواة ومدنية الدولة وناهض التمييز وواجه استبداد الاحتلال والقصر والحكومات المتعاقبة، وضع هذا الرجل في النصف الأول من القرن الماضي قاعدة صالحة للاستخدام حتى وقتنا الحاضر، فالصحافة وأحوالها وفقًا لتلك القاعدة هي الميزان الصحيح لمقياس حال أي بلد، “أصبحت حالة الصحافة في أي بلد ميزانًا صحيحًا لحالة البلد ذاته من جميع نواحيه الثقافية والخلقية والسياسية، وهو ميزان قليل التعادل عادةً تطغى في أغلب الأحيان كفة من كفتيه على الأخرى”.
يشير عزمي إلى أن حال الصحافة في أي بلد يكشف الطريقة التي يمارس بها النظام الحاكم في تلك البلد سلطاته، “إذا كان نظام البلد نظام طغيان واستبداد، فإن الصحافة تخضع فيه للرقابة المباشرة، سواء كانت رقابة وقائية أو رقابة مسيَّرة أو رقابة معاقبة، وكذلك فإن العقوبات الجنائية التي يتضمنها التشريع العام لبلاد الطغيان والاستبداد تتجلى فيها قسوة معاملة الصحفيين ومعاقبتهم، لا على جريمة النشر وحدها، بل على جريمة الرأي والتفكير أيضًا؛ إذ يفترض القانون نية الكاتب دون أن يستدل عليه بما يكتب، وتكون قوانين المطبوعات في تلك البلاد مليئة بالقيود.. وتتحول إدارات المطبوعات في تلك البلاد إلى جزء من إدارات الأمن العام، ويعتبر الصحفيون فيها نوعًا من المجرمين الذين تجب مراقبتهم عن قرب”.
أما في بلاد الحرية التي تحكمها أنظمة مؤمنة بالديمقراطية، تقرر تلك البلاد حرية الصحافة كمبدأ من المبادئ الدستورية الأصيلة، “تكون العقوبات المنصوص عليها في القوانين العامة خفيفة لا تتعلق بالرأي بل بالنشر وحده، وإن كان السهر فيها على كرامات الناس شديدًا؛ إذ توقع أقصى العقوبات على الطاعنين في الناس والقاذفين.. وقوانين المطبوعات في تلك البلاد تقوم على فكرة التيسير والسخاء، وإدارات المطبوعات ومصالح الصحافة فيها جزء من الأداة السياسية والدبلوماتية يتولاها سياسي أو دبلوماسي أو صحفي عريق”، يقول عزمي.
عزمي قسم العالم إلى قسمين وفقًا لميزانه، تتضح في القسم الأول حرية الصحافة ومكانة كرامتها، وفي الثاني يتضح الطغيان على الصحافة وإخضاعها لشتى المعاملات.
وضرب 3 أمثلة لدول القسم الثاني التي تحكم بالطغيان، “كما هو الحال في روسيا وإيطاليا وألمانيا، وهي دول تعتبر الصحف ذاتها إدارات حكومية يكون الصحفي فيها موظَّفًا كسائر الموظفين، يتلقى من رؤسائه التعليمات والأوامر والمنشورات ليكتب مقاله في اليوم أو في الغد، ويتلقَّى كذلك التوجيه فيما يختص بالتعليق على أنباء اليوم الداخلية أو الخارجية”.
أما عن مصر، فالحقيقة ورغم الظروف الصعبة التي مرت بها بلادنا منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، إلا أن حالة صحافتها والطريقة التي مارس بها الصحفيون التعبير عن رأيهم والأسلوب الذي كانوا ينتقدون به المسئولين أيا كان مركزهم، كفيل بأن يضع بلادنا المحتلة آنذاك في دول القسم الأول، حسب ميزان محمود عزمي.
استفاض عزمي في شرح الأوضاع القائمة والنصوص الدستورية والقانونية الحاكمة والمنظمة للعمل الصحفي في مصر خلال تلك الفترة في محاضرته التي أرى أنه يجب استدعائها وإعادة قراءتها ومناقشة ما طرحه عزمي فيها وفيما تركه لنا الرجل من رصيد في مجالات الصحافة والسياسة والحقوق حتى نعرف أين نقف وماذا علينا أن نفعل وما هي الخطوة المقبلة؟
المفارقة أن عزمي ورفاقه من رواد الصحافة المصرية والذين خاضوا مئات المعارك منذ مطلع القرن الماضي للمطالبة بالاستقلال والدستور والحياة النيابية، مما يعني أن مقومات الدولة الديمقراطية الحرة المستقلة لم تكن موجودة من الأساس، وعندما وجدت بعد دستور 1923 تم تقييدها وحصارها مرات من القصر وأخرى من الاحتلال، ورغم ذلك وبمطالعة محتوى صحف تلك الفترة سواء المحسوبة على حزب الأغلبية “الوفد” أو غيره من الأحزاب أو المؤيدة للقصر أو تلك التي كانت تُعبر عن الاحتلال أو غيرها من الصحف المستقلة فتسطيع أن تقيس مدى الحرية والجرأة التي ميزت صحافة ذلك العصر مقارنة بما بعده من عصور.
الرائد الكبير محمود عزمي الذي توفى على منصة الأمم المتحدة في نوفمبر عام 1954 إثر إصابته بأزمة قلبية أثناء كلمته شديدة الحماس التي رد بها على مزاعم إسرائيل بشأن احتجاز السلطات المصري للسفينة “بات كاليم”، ترك لنا إرثًا كبيرًا ليس فقط بصفته صحفي رائد شارك في صناعة وتأسيس عشرات الجرائد في مصر وخارجها وأسهم في وضع قواعد المهنة وقوانينها وناضل من أجل إشهار نقابتها، وليس بسبب مواقفه الوطنية والسياسية الثابتة وانحيازه للحقوق الفلسطينية في مواجهة الكيان الصهيوني ودعوته للوحدة العربية ولتأسيس حركة عدم الانحياز، ولا بصفته دبلوماسي رفيع ترأس وفد مصر الدائم في الأمم المتحدة، لكن كحقوقي بارز دافع عن الحريات العامة ودعا للمساواة وعدم التمييز، وشارك في وضع اقتراحات وتوصيات وتقارير الإعلان الدولي لحقوق الإنسان وتقارير حقوق المرأة وحماية الأقليات، واختير رئيسا للجنة حقوق الإنسان بالأمم المتحدة لدورتين نظرا لنشاطه ونضاله في هذا المجال.
استدعاء إرث عزمي ورفاقه من هذا الجيل الذي ناضل وعاش ومات في سبيل الحرية، يدفعنا إلى التدبر والسؤال لماذا وصلنا بعد كل تلك العقود ورغم ما قدمه هؤلاء من تضحيات إلى هنا؟ وكيف نعبر تلك النقطة حتى ننتقل من فئة الدول التي تمارس الاستبداد والطغيان وتحاصر الحرية وتقيد الحقوق إلى فئة الدول الديمقراطية التي تحترم مواطنيها وتتعامل معهم باعتبارهم شركاء لا رعايا؟
ونحن على أعتاب عام 2022 الذي أعلنه الرئيس عبد الفتاح السيسي عامًا للمجتمع المدني، أرى أنه من الواجب على الدولة تكريم الرائد محمود عزمي باعتباره أحد المناضلين الأوائل في مجال الحقوق والحريات بمصر، والتكريم الذي أقصد ليس فقط بإطلاق اسمه على أحد الشوراع أو الميادين العامة، لكن باستدعاء إرثه وتدبره والسعي إلى تحويل ما ناضل من أجله إلى واقع ملموس، فمصر وأهلها يستحقون هذا التكريم الذي يضعهم في موازة الشعوب التي جنت ثمرة نضالها فصار لديها دساتير وقوانين تُحترم وحكومات تعبر عن إرادتها الحرة وبرلمانات منتخبة وصحافة مستقلة يراقبان ويحاسبان السلطة التي من المفترض أن تعمل على تحقيق حياة كريمة لمواطنيها.
نضال المصريين من أجل الديمقراطية والحرية والكرامة والعدالة لم ينقطع، ومن حق شعبها بعد كل تلك العقود أن يجني ثمرة نضاله، حتى تنتقل بلادنا من كفة بلاد “كتم الأنفاس” إلى مصاف بلاد “الحرية”.