لا يبدو في سياسة الإمارات أي تحول عن مسار رتبت له منذ سنوات سرًا، وجهرت به علانية عام 2020. فأبوظبي لا تزال تبني فيما يخص العلاقات مع إسرائيل على ما تراه وحلفاؤها إنجازًا حققته “اتفاقات إبراهام”. وهي تطور هذا التقارب -الجديد ظاهريًا- إلى مبادرات تعاون اقتصادي وأمني مشترك. لكنها أيضًا لا تريد الدخول في صراعات صفرية، وتسعى حثيثًا لتصفير مشكلاتها مع منافسين تقليديين (مثل تركيا وإيران). وهذا ليس لتغيير يطرأ على السياسة الإماراتية الراغبة في كرسي الزعامة الإقليمية -التي أضرت بالقضايا العربية- بقدر كونه ينبع من قلق أمني يعززه خفوت التدخلات الأمريكية في صراعات المنطقة لصالح قضاياها الداخلية وصراعها مع الصين.
بينيت في أبوظبي.. سؤال عن التوقيت
المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية (ISPI) بحث في أسباب وتداعيات هذا النهج الإماراتي الجديد. وقد استند على آراء باحثيه الخبراء في سياسات الشرق الأوسط والخليج العربي. وذلك من منطلق أسباب الزيارة الأخيرة -والأولى من نوعها- التي أجراها رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينيت، إلى دولة الإمارات، واستضافه خلالها ولي العهد محمد بن زايد بأبوظبي في 14 ديسمبر/كانون الأول الجاري.
يقول الباحث روي يلينك إن توقيت هذه الزيارة “ليس عرضيًا”. وإنما مدفوع بأسباب تتعلق بمحادثات فيينا بين إيران والقوى العظمى حول الاتفاقية النووية الجديدة. إلى جانب المخاوف الإسرائيلية من التقارب الإماراتي مع إيران.
وفق يلينك، أراد بينيت تعزيز الروابط الإسرائيلية الإماراتية، وإظهار هذا التقارب أمام المجتمع الدولي، وتقديم نفسه كمساهم مهم في العلاقة بين الإمارات وإسرائيل. تلك العلاقة التي صاغها منافسه السابق بنيامين نتنياهو في 2020.
حصل روي يلينك على درجة الدكتوراه من جامعة بار إيلان الإسرائيلية. وهو باحث في مركز بيجن-السادات للدراسات الاستراتيجية، وباحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط، وباحث مساعد في مركز دادو التابع للجيش الإسرائيلي. ومتخصص في العلاقات المتنامية بين الشرق الأوسط والصين، لا سيما فيما يتعلق بمكون القوة الناعمة للدبلوماسية الصينية.
أبوظبي وإسرائيل.. والتوتر المتوقع مع الرياض
تقول كورتني فرير، زميلة ما بعد الدكتوراه في جامعة إيموري في أتلانتا، إن علاقة شراكة استراتيجية عميقة تجمع السعودية والإمارات. وهي متجذرة في أهداف مماثلة نحو الاستقرار والازدهار الإقليمي. إذ إن الجانبين متفقان في العديد من القضايا. لا سيما المتعلقة بمواقفهم من الإسلام السياسي، وخططهم الطموحة للتنويع الاقتصادي.
ومع ذلك، فقد يسهم الاقتراب الإماراتي من إسرائيل في تباعد كبير بين أبوظبي والرياض.
يقول تقرير نُشر الشهر الماضي، لموقع “أكسيوس” الإخباري الأمريكي، إلى جهود سعودية للضغط على الإمارات، في سبيل التخلي عن صفقة الطاقة والمياه الضخمة التي وقعتها مؤخرًا مع الأردن وإسرائيل، والعمل بدلاً من ذلك مع المملكة. والإمارات بتوقيعها هذه الصفقة ومنحها الأولوية لتعزيز العلاقات مع إسرائيل، ضمن خططها لأن تصبح قوة إقليمية أكبر، هي تحفز التوتر مع الرياض، وفق فرير.
عملت كورتني كموظفة أبحاث لبرنامج الكويت في مركز الشرق الأوسط في LSE. ويتركز عملها على السياسات الداخلية لدول الخليج، لا سيما الأدوار التي لعبتها الإسلاموية والقبلية. كما عملت سابقًا في مركز بروكنجز الدوحة ومجلس الأعمال الأمريكي السعودي. وهي حاصلة على بكالوريوس من جامعة برينستون في دراسات الشرق الأدنى وماجستير في دراسات الشرق الأوسط من جامعة جورج واشنطن.
دبي المال والأعمال لإخفاء وجه أبوظبي العسكري
بالنسبة للإمارات، هذا ليس موسم الخصومات المفتوحة والسياسات الصفرية. الأهم الآن هو حماية الدور الإقليمي الذي اكتسبته بعد عام 2011، كما توحي عمليات التقارب (مع قطر) وخفض التصعيد (مع سوريا وإيران وتركيا).
تقول إليونورا أرديماجني، الخبيرة في شؤون اليمن ودول الخليج، إن السياسة الخارجية لدولة الإمارات الآن مدفوعة في المقام الأول بالاقتصاد. وهي بمعرض “إكسبو دبي” -مثلاً- تحاول إعادة رسم صورتها كأرض للحوار بين الثقافات المختلفة والتواصل الموجه للأعمال.
هنا، يتضح -كما تشير إليونورا- أن الإمارات تستغل واجهة دبي مدينة المال والأعمال في إخفاء الوجه العسكري لأبوظبي. وتجدر الإشارة إلى أن الاتفاقية الإماراتية الإسرائيلية الأردنية بشأن الطاقات المتجددة والصفقات الكبرى مع فرنسا (بما في ذلك طائرات رافال المقاتلة) قد تم التوقيع عليها في المعرض.
إليونورا أرديماجني زميلة أبحاث مشاركة في ISPI، ومساعد تدريس (“تاريخ آسيا الإسلامية” – “صراعات جديدة”) في الجامعة الكاثوليكية في ميلانو، وهي أستاذ مساعد في شؤون اليمن في ASERI (كلية الدراسات العليا للاقتصاد والعلاقات الدولية).
النخب السرية التي تدير علاقات أبوظبي ودمشق
وفق آرون لوند، المتخصص في شؤون الشرق الأوسط بوكالة أبحاث الدفاع السويدية، من الصعب تحديد ما الذي يدفع العلاقات السورية الإماراتية. ذلك لأن نخب الأسرة السرية تدير كلا البلدين. بينما القنوات الرسمية لن تروي القصة كاملة.
الوقائع على الأرض تقول إن العلاقات الدبلوماسية على مستوى السفراء منقطعة منذ 10 سنوات تقريبًا. ذلك بعد أن سحبت دول مجلس التعاون الخليجي وبينها الإمارات، سفراءها من دمشق في فبراير 2012، احتجاجًا على مجازر النظام ضد الشعب السوري. إلا أنه رغم ذلك، تتمتع شقيقة الرئيس السوري بشار الأسد بحرية التنقل داخل وخارج أبوظبي.
يقول آرون إن هناك قناعة ما لدى الإماراتيين حول إمكانية استقطاب الأسد بعيدًا عن إيران، ولو بشكل جزئي، في مواجهة تركيا. وفي ذلك أيضًا جزء من إعادة التوازن وضبط الأمور وإيجاد أرضية مشتركة تخدم النهج الإماراتي الجديد. “يرى الإماراتيون أنه إذا لم يرحل الأسد، فمن الأفضل لهم العمل معه”.
آرون لوند كاتب سويدي في شؤون الشرق الأوسط وله كتابات كثيرة في السياسة السورية. وقد حرّر بين عامي 2013 و2016، موقع “سوريا في أزمة” لصالح مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، حيث كان أيضًا زميلاً غير مقيم في عام 2016. وهو زميل في مركز الدراسات السورية في جامعة سانت أندرو.
أبوظبي وأنقرة.. المصالح الاقتصادية تقرب المسافات
تقول فاليريا تالبوت رئيسة قسم الشرق الأوسط في (ISPI) إن اجتماع نوفمبر/تشرين الثاني بين ولي عهد الإمارات محمد بن زايد والرئيس رجب طيب أردوغان في تركيا، وهو الأول منذ ما يقرب من عقد، شكل نقطة تحول في العلاقات الثنائية، بعد خلاف طويل بين بلدين على طرفي نقيض من أزمات إقليمية كبرى. وإن المصالح الاقتصادية المتبادلة كانت هي المحرك الرئيسي لهذا التقارب.
فبينما تراهن أبوظبي بشكل متزايد على الدبلوماسية الاقتصادية لتعزيز التعافي بعد الوباء. تبحث أنقرة عن استثمارات وشركاء اقتصاديين جدد في وقت حرج لاقتصادها وعملتها الهشة.
وقد وقع البلدان على صندوق بقيمة 10 مليارات دولار خصصته الإمارات للاستثمارات الاستراتيجية في تركيا. فيما تقتربان من عقد اتفاقية مبادلة بين البنوك المركزية لبناء احتياطيات تركية، ودعم الليرة. وهي كلها مؤشرات تؤكد الطبيعة الاقتصادية السائدة على المصالحة الثنائية بين العاصمتين أبوظبي وأنقرة.
فاليريا تالبوت هي رئيسة قسم الشرق الأوسط في (ISPI)، وهي أيضًا محاضرة في ماجستير دراسات الشرق الأوسط في ASERI – الجامعة الكاثوليكية.
الشراكة مع الصين.. تسقط الشركاء الغربيين وتقلق أمريكا
بذلت دولة الإمارات جهودًا حثيثة خلال السنوات القليلة الماضية لتطوير العلاقات مع الصين، في مجموعة واسعة من قطاعات الطاقة والتجارة والتقنيات الجديدة والصحة والأمن. وهي تسعى بذلك لتنويع علاقاتها بعيدًا عن شركائها الغربيين التقليديين، مستغلة تحول مركز الثقل الاقتصادي العالمي بشكل متزايد إلى آسيا.
هنا، كان من الطبيعي أن تقلق هذه الشراكة سريعة التطور مخاوف في الولايات المتحدة. وقد بدأت واشنطن في وضع ضغوط متزايدة على أبوظبي بشأن تعاونها مع هواوي لشبكات 5G، ومؤخرًا بشأن الحديث عن وجود قاعدة صينية في الإمارات، كما توضح الباحثة كميل لونز.
وفي حين أن العلاقة مع الولايات المتحدة لا تزال حاسمة، فإن الإمارات بتوسيع علاقاتها مع الصين تريد أن تبدو بمظهر من يرفض الاضطرار إلى الاختيار. أو هكذا يعكس تهديدها الأخير بالانسحاب من صفقة F35.
كاميل لونز باحثة مشاركة مقرها مكتب الشرق الأوسط في البحرين. وهي تتناول التطورات السياسية والأمنية في منطقة الخليج، مع التركيز بشكل خاص على العلاقات الاقتصادية والسياسية لدول الخليج مع القوى الآسيوية والقرن الأفريقي.
الرافالات الثمانون.. خيبة الأمل الإماراتية الفرنسية تقود لصفقة الطائرات
يقول الباحث جان لوب سمعان إن البيع القياسي لعدد 80 طائرة مقاتلة من طراز رافال إلى الإمارات يأتي بمثابة تذكير بالنفوذ الفرنسي الدائم في أبوظبي.
وفق سمعان، يبني الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على إرث أسلافه الذين طوروا هذه العلاقات مع الدولة الخليجية لعدة عقود، من خلال مبيعات الأسلحة. ففرنسا هي المورد الثاني للأسلحة إلى الإمارات، تربطها بها اتفاقيات الدفاع، وافتتاح قاعدة عسكرية في الإمارات عام 2008. كما يشترك كلا البلدين أيضًا في وجهات نظر إقليمية متشابهة حول مصر وليبيا والأزمة النووية الإيرانية.
وأخيرًا، تعكس صفقة طائرات الرافال بين باريس وأبوظبي إحباط البلدين المشترك تجاه واشنطن؛ إذ صدمت فرنسا فيما يتعلق بصفقة الغواصات بعد انسحاب أستراليا، لتدخل بدلاً منها في اتفاقية دفاعية جديدة مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، أطلق عليها اسم “أوكوس“. في حين يظهر الفشل الإماراتي جليًا في إنهاء المفاوضات مع أمريكا بشأن بيع F-35، رغم ما قدمته أبوظبي من إسهامات في تعزيز نفوذ إسرائيل (طفل واشنطن المدلل) بالمنطقة العربية.
جان لوب سمعان وهو باحث تابع لمعهد الشرق الأوسط في جامعة سنغافورة الوطنية، مهتم بسياسات الدفاع في الشرق الأوسط، ودول الخليج العربي، والسياسة الخارجية الإسرائيلية، وسياسات الولايات المتحدة مع الشرق الأوسط.