ما بين الرغبة في الثراء السريع وتراكم الأموال لدى كبار التجار، وبين حلم يراود فقراء تتقاذف إلى آذانهم قصص، بعضها خيالية، عن أولئك الذين انقلبت حياتهم من قعر الفقر إلى مجالسة الأثرياء، ليس لكفاحهم في الحياة، ولكن لأن كلمة السر قطعة ربما لا تتجاوز كف اليد، تمثل “فواحة التاريخ”، هي الآثار المصرية.
شيء من هذا المضمار في محافظة الفيوم العائمة على آثار، كما يصفها الآثريون. تكثر الروايات عن أشخاص اغتنوا فجأة بسبب اكتشاف آثار أسفل منازلهم أثناء عملية الحفر لوضع أساسات البيت. فالعديد من الأهالي المحاصرون بالفقر وإعلانات عن وحدات سكنية بملايين الجنيهات وشاليهات في قرى سياحية، وأعمال درامية تتحدث عن تجار الآثار في غياب التوعية بالحفاظ على الآثار وعقوبة الاتجار فيها. يتجهون إلى الحفر في منازلهم لعلهم يستخرجون من باطنها ما يغير حياتهم.
يروي “عادل” (اسم مستعار)، لـ”مصر 360″، كيف أنفق كل أمواله وباع ما يملكه خلال عمليات حفر مماثلة أسفل منزله. ويحكي عادل كيف أن الكثيرين من أهالي قريته فكروا مثله إلا أن معظمهم خشوا مما يتردد على أن لعنة ربما تصيب عائلتهم.
مظاهر من هذه الادعاءات أثارت تخوفات لدى عادل بعد الحفر. حين فوجئ بشجار بين العمال الذين استقدمهم عن طريق أحد الشيوخ للحفر. تبع ذلك شجار بين نجله وزوجته، ما دعاه للتوقف.
مقبرة عين شمس
قبل أيام، أعلنت وزارة السياحة والآثار عن اكتشاف مقبرة أثرية يرجع تاريخها إلى عهد الأسرة 26 أسفل أحد منازل حي عين شمس المعروف قديماً باسم مدينة (أون) أي رب الشمس، المدينة المدفونة فعلياً تحت حي عين شمس حالياً.
جاء الاكتشاف بعد إلقاء القبض على 8 أشخاص نقَّبوا عن المقبرة وحاولوا تهريب التابوت الفرعوني لحاكم إقليم “اون” خارج البلاد.
تلك قصة من بين مئات القصص التي تشهدها قرى محافظات مصر؛ بحثًا عن الثراء السريع. تقف حائلاً أمام غلق هذا الملف. وفي الوقت الذي تسعى فيه الحكومة المصرية لاسترداد الآثار المنهوبة. تبدو عمليات التنقيب غير القانوني والتهريب مستمرة.
قضية الآثار الكبرى
وخلال العام الجاري. شهدت مصر ما يعرف بــ”قضية الآثار الكبرى” المتهم فيها رجل الأعمال حسن راتب والنائب السابق علاء حسانين، وآخرون. بتأليف تشكيل عصابي بغرض تهريب الآثار إلى خارج البلاد والإتجار فيها وحفر 4 مواقع بقصد الحصول عليها دون ترخيص.
وراتب، رجل أعمال سبعيني، لمع اسمه ضمن مجموعة رجال الأعمال في عهد الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك. وله استثمارات محلية ضخمة، أهمها مصنع أسمنت وجامعة في سيناء، بجانب أنه واحد من أقدم من امتلكوا قناة فضائية خاصة في مصر، وهي المحور (مالكها السابق).
وألقي القبض على راتب، في يونيو الماضي على خلفية تحقيقات تشير لتورطه في تمويل عمليات تنقيب عن آثار بعد أيام قليلة من توقيف البرلماني السابق حسانين، وآخرين، بـ”تشكيل عصابة للإتجار بالآثار، وحيازة كمية كبيرة من التماثيل والقطع الأثرية”.
في أول جلسة لمحاكمته الثلاثاء الماضي. تنحت الدائرة السادسة عشرة جنايات القاهرة، عن نظر القضية. وقررت إحالتها لمحكمة الاستئناف لاستشعار الحرج.
الحاوية الدبلوماسية
وشهد عام 2018 فضيحة أكبر عملية تهريب قطع أثرية في تاريخ مصر عن طريق حاوية دبلوماسية جرى ضبطها في ميناء نابولي في إيطاليا. وكانت تحمل 21855 قطعة منها 21 ألف و 660 عملة معدنية، إضافة إلى 195 قطعة أثرية.
3 أسباب.. والحل الأمني لا يكفي
ترى وهيبة صالح مدير إدارة في وزارة السياحة والآثار، أنَّ أزمة تهريب الآثار المصرية تعود لعدة أمور. بينها ما يتعلق بضعف الإجراءات الأمنية في المناطق الآثرية. وضعف التوعية بعقوبة الإتجار في الآثار. إضافة إلى حرمان مناطق بعينها من التنمية مثل محافظات الفيوم والمنيا وبني سويف وعدم فتح هذه المناطق كمزارات سياحية ما يعود بالنفع على أهلها ويجعلهم حريصين على الآثار.
وتدلل وهيبة على رأيها بأن محافظات مثل الأقصر وأسوان لا تشهد عمليات تنقيب غير قانونية بسبب استفادة المواطنين من السياحة.
يرى خبراء أن عدم تسجيل كافة المناطق الأثرية في مصر. وأن هناك أماكن كثيرة أثرية لكن غير مسجلة ولا تخضع لإشراف الوزارة، وأن مثل تلك الأماكن تجرى بها عمليات التنقيب وتستخرج قطع كثيرة تهرب إلى الخارج بدون تسجيل، وبالتالي لا يوجد ما يثبت ملكية مصر لها مثلما حدث في حالة تمثال رأس نفرتيتي في صالة المزادات في لندن.
تطالب وهيبة بحملات توعية بأهمية الآثار تعرف المواطنين بعقوبتها. كما ترى أن كثيرًا من الأعمال الدرامية مثل مسلسل “جبل الحلال”. قدم تاجر الآثار باعتباره بطلاً وأكسبه تعاطف المواطنين وجعله نموذجا يحتذى به في تحقيق الثراء.
فى 2018 جرى تعديل القانون رقم 117 لسنة 1981 بشأن حماية الآثار، حيث عدل القانون ليحمى كل ما هو أثري وينتمى للحضارات التي نشأت على أرض مصر.
وغلظت التعديلات العقوبة لتكون السجن المؤبد لكل من قام بالحفر خلسة أو بإخفاء الأثر أو جزء منه بقصد التهريب. وبغرامة لا تقل عن مليون جنيه ولا تزيد على عشرة ملايين جنيه كل من قام بتهريب أثر إلى خارج جمهورية مصر العربية مع علمه بذلك. ويحكم في هذه الحالة بمصادرة الأثر محل الجريمة والأجهزة والأدوات والآلات والسيارات المستخدمة فيها لصالح المجلس.
تاريخ من الاستنزاف
لاستنزاف الكنوز المصرية تاريخ طويل، بحسب الباحث في علم المصريات هاني رياض: “بدأ الاهتمام بالآثار المصرية منذ مجئ الحملة الفرنسية إلى مصر في العام 1801. ليبدأ الفصل الأول من سرقة الآثار المصرية فيما عرف بفترة “القناصل”. حيث هربت آلاف القطع بالضغط من قناصل فرنسا في مصر، ثم جاءت فكرة تقسيم الآثار المستخرجة من المواقع الأثرية أو نهبها كلية، وتزويد المتاحف الفرنسية بها.
ويتابع: في خمسينيات القرن التاسع عشر تسلم متحف “اللوفر” أولى دفعات الآثار المصرية الخارجة من “سرابيوم” منف مدافن العجل “أبيس” المقدس.
إهداءات الحكام
يسجل كتاب “سرقات مشروعة” عددًا من الإهداءات من الحكام عبر عصور. وبحسب الكاتب، أهدى الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر 4 معابد نوبية كاملة لدول أوروبية. أما الرئيس “السادات” فأهدى أكثر من 100 قطعة أثرية لأشخاص منهم إمبراطور إيران الراحل محمد رضا بهلوي عام 1971. ووزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر عام 1973. والرئيس الفرنسي الأسبق جيس كارديستان. وأهدت جيهان السادات قطعًا أثرية فرعونية إلى إيميلدا ماركوس زوجة الرئيس الفلبيني وقتها. إضافة إلى زوجة رئيس المكسيك.
خطوات استرداد الآثار
يذكر أن استرداد القطع الأثرية من الخارج يتم بالتعاون بين وزارتي السياحة والآثار والخارجية. وتوجه الأخيرة السفارات والقنصليات المصرية في المدن والعواصم بالتعاون مع السلطات المعنية في كل دولة. وفي أحيان أخرى يبلغ الإنتربول الدولي الجهات المختصة في مصر أنه ضبط قطع أثرية مصرية خرجت بطريقة غير مشروعة. ثم تشكل وزارة السياحة والآثار لجنة للتأكد من أثرية القطع المضبوطة وأحقية مصر في استردادها. ثم تقوم وزارة الخارجية من خلال السفارة بالترتيب لعودة القطع الأثرية لمصر.
طريقان يجب أن تسير فيهما الحكومة لإغلاق هذا الملف الشائك. الأول يتمثل في استمرار محاولة استرداد القطع المهربة. والثاني يتعلق بمحاولة السيطرة على عمليات التهريب المستمرة للكنوز المصرية.
إعادة آلاف القطع
آلاف القطع الآثرية، استردتها مصر خلال الأعوام الماضية، كان آخرها ما أعلنت عنه النيابة العامة في بيان بأن وفدًا منها توجه إلى العاصمة الإسبانية مدريد لاسترداد 36 قطعةً أثرية، كانت قد هُرّبت إلى مدريد في عام 2014.
وأوضحت أن التسليم جاء تفعيلاً للقرار الأممي الصادر بناءً على المشروع المقدَّم من النيابة العامة المصرية في مؤتمر الدول الأطراف لمكافحة الجريمة المنظمة عبر الوطنية في أكتوبر/ تشرين الأول 2020. نفاذًا لخطة النيابة لإصدار صكٍّ دَوليّ لاسترداد القطع الأثرية المصرية المنهوبة، في إطار استراتيجية مصر في الحفاظ على تاريخها ومقدراتها”.
قبلها بأيام، تسلّمت السلطات المصرية 95 قطعة أثرية مهرّبة، جرى ضبطها من قِبل السلطات الإسرائيلية، بحسب المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية المصرية، أحمد حافظ.
وفي يناير الماضي، استردت مصر مجموعة كبيرة من القطع الأثرية المصرية كانت بحوزة متحف “الإنجيل المقدس” بواشنطن في الولايات المتحدة الأمريكية.
وتمثلت القطع المستردة في 5000 مخطوط وقطعة من البردي، مكتوبة عليها نصوص باللغة القبطية وبالخط الهيراطيقي والديموطيقي، واللغة اليونانية. كما يوجد أيضًا مخطوطات لصلوات دينية مسيحية مدونة بالعربية والقبطية معاً أو العربية فقط.
هذا بالإضافة إلى عدد من الأقنعة الجنائزية من الكارتوناج وأجزاء من توابيت وروؤس تماثيل حجرية ومجموعة من البورتريهات الخاصة بالمتوفين. وسوف يتم إيداع القطع بالمتحف القبطي.
وفي يونيو الماضي، أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية استرداد 3 قطع أثرية، ترجع للعصرين الفرعوني واليوناني، قبل بيعها في إحدى دور المزادات الشهيرة، بالعاصمة البريطانية لندن.
اتفاقية 1972
رغم أن الرقم الذي استردته مصر يبدو كبيرًا ، إلا أنه لا يمثل شيئًا في حجم الآثار التي جرى تهريبها خلال السنوات الماضية فقط. بحسب وهيبة صالح مدير إدارة بوزارة السياحة والآثار المصرية.
تتحدث وهيبة لـ”مصر 360″ عن صعوبة الإجراءات الخاصة باستعادة الآثار المهربة. أول خطوة بحسب وهيبة. تتعلق بكيفية تحديد تاريخ الحفر واكتشاف القطع الأثرية المهربة، وهل تم قبل عام 1972 أو بعده.
تقول وهيبة إن هذا التاريخ يمثل نقطة فاصلة في استعادة الآثار. فهو العام الذي وقعت فيه اتفاقية اليونسكو بشأن حماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي.
وحال القدرة على تتبع القطعة الأثرية المعروضة في إحدى المزادات وطريقة خروجها من مصر، وسنة استخراجها. نكون أمام معضلة أخرى. تتمثل في الدولة التي تعرض فيها القطعة، وهل هي ضمن الدول الموقعة على اتفاقية اليونسكو أم لا. وحال لم تكن موقعة فلا سبيل لاسترداد القطع الأثرية.
وعقدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) اجتماعها السابع عشر في باريس من 17 أكتوبر/تشرين الأول إلى 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1972. في ظل ملاحظتها تعرض التراث الثقافي والتراث الطبيعي المتزايد إلى التدمير، ليس نتيجة عوامل التعرية والتآكل المعهودة فحسب، بل أيضاً نتيجة تغيير الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تزيد من تفاقم الحالة كونها تؤدي إلى نشوء ظواهر أكثر فداحة من حيث الضرر أو الدمار.
الحماية الدولية للتراث العالمي الثقافي و الطبيعي، يستهدف مؤازرة الدول الأطراف في الاتفاقية، في الجهود التي تبذلها للمحافظة على هذا التراث ولتعيينه. المادة 7 من اتفاقية 1972
وقبل اتفاقية اليونسكو لم تكن الدول تعاقب تجار الآثار، وفق وهيبة، كما كانت تسمح القوانين المصرية للبعثات الأجنبية بالحصول على ثلث الآثار التي يتم اكتشافها.
آثار مصرية في متاحف العالم
موقع “لايف ساينس” الأمريكى، كشف عن أن قطعًا أثرية مصرية تبلغ قيمتها أكثر من 143 مليون دولار جرى تهريبها إلى الولايات المتحدة منذ عام 2011، وفقًا لوثائق تابعة لمكتب الإحصاء الأمريكي.
وبحسب الوثائق التي نشرها الموقع، فإن معظم الآثار التي جرى تهريبها إلى الولايات المتحدة نقلت إلى مدينة نيويورك، حيث العديد من بيوت المزادات وتجار الآثار والمتاحف.
الباحث في علم المصريات هاني رياض، قال إنه لا يوجد رقم رسمي لعدد القطع الأثرية المهربة خارج مصر. لكنه لفت إلى أنها تقدر بمليون قطعة بقوائم الآثار المصرية التي تضمها المتاحف العالمية.
دلل رياض على هذا العدد بأن المتحف البريطاني يحتوي على أكثر من 100 ألف قطعة. بينما يضم متحف برلين الجديد 80 ألف قطعة. ومثلهما في متحف بتري للآثار المصرية، المملكة المتحدة، وأن هناك تقديرات بوجود 100 ألف قطعة في متحف اللوفر.
وزاد: “متحف الفنون الجميلة في بوسطن بالولايات المتحدة به حوالي 45 ألف قطعة. فيما يضم متحف كيسلي لعلم الآثار بالولايات المتحدة أكثر من 45 ألف قطعة. و42 ألف قطعة في متحف جامعة بنسلفانيا لعلم الآثار والأنثروبولوجيا، أما المتحف المصري بتورينو الإيطالية به 32500 قطعة.
وبالتوازي مع محاولة استعادة القطع الآثرية المهربة. تسعى الحكومة المصرية للقضاء على عمليات التهريب التي تفقد مصر كنوزها.