لا توجد قضية أثارت جدلاً في مصر مثلما أثارت قضية حقوق الإنسان، ولا يوجد ملف مثير للغط والانتقادات مثلما أثار ملف حقوق الإنسان.
ومع ذلك تبقى مشكلات هذا الملف في مصر معروفة، وهي الحبس الاحتياطي الذي يصل لسنتين دون محاكمة، والانتقادات الدولية لأحكام الحبس بحق نشطاء وحقوقيين، مثلما جرى تعليقًا على حكمين في خلال شهرين، أحدهما يخص حسام مؤنس وزياد العليمي وهشام فؤاد، والثاني قبل 3 أيام، ويخص علاء عبد الفتاح ومحمد أكسيجين ومحمد باقر، حيث تخطت الانتقادات حدود المنظمات الحقوقية حتى وصلت إلى بيانات بعض وزرات الخارجية في كل من ألمانيا والولايات المتحدة، وهو ما ردت عليه مصر أيضًا في بيانات رسمية أعلنت فيه رفضها القطاع التدخل في شؤونها.
والحقيقة، أن تأثير هذا الملف على الداخل أولاً وأساسًا، والخارج ثانيًا يجب أن يدفع الحكم إلى تقديم مراجعة جراحية لأدائه في هذا الملف يراعي ثلاثة أبعاد رئيسية: الأول هو الخطاب المحلي الرسمي الذي تتبناه الدولة، والثاني هو الخطاب العالمي والإنساني المتعلق بحقوق الإنسان، وهما خطابان لديهما منطلقات مختلفة أدت إلى مواجهات كثيرة بينهما، والثالث هو الواقع أو الحقائق على الأرض (The Facts) أي أوضاع حقوق الإنسان الحقيقية دون مبالغة أو إنكار ودون أي توظيف سياسي، حتى يمكن مواجهة أوجه القصور والسلبيات عبر تفاهمات وطنية داخلية.
فيما يتعلق بالبعد الأول، سنجد أن الخطاب الرسمي المصري لديه أوجه قوة وجوانب ضعف. فيما يتعلق بجوانب القوة، وتتمثل في إيمانه بالمفهوم الشامل لحقوق الإنسان الذي يشمل الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والتنموية. وهو جانب أصيل من حقوق الإنسان لا خلاف عليه، إنما الخلاف أتى في عدم الإشارة “لا بالخير ولا الشر” لحقوق الإنسان المدنية والسياسية، حتى صدور الاستراتيجية الوطنية، التي اشتبكت مع الموضوع نظريًا، دون أن تُترجَم حتى اللحظة في قوانين وإجراءات تُحسّن بشكل عملي أوضاع حقوق الإنسان في مصر.
والمؤكد، أن أولوية محاربة الإرهاب والحفاظ على الدولة من أي تهديدات وجودية تعرضت لها منذ 2012 حتى سنوات قليلة ماضية قد ربحتها الدولة المصرية بشكل كامل داخليًا وخارجيًا، حتى لو جاءت على حساب حقوق الإنسان. بالمقابل، فإن اعتبار أن التهديدات التي كانت موجودة في 2012 هي نفسها الموجودة في 2022 يحمل مغالطة كبيرة، فالتهديدات الحالية تتعلق بالأداء العام وبالأولويات السياسية والتنموية، وعدم وجود منظومة شفافة لمحاربة الفساد، ونقاط الضعف الجسيمة في الملف الحقوقي، خاصة ما يتعلق بالمحبوسين احتياطيًا أو قضايا الرأي أو “نشر أخبار كاذبة”، وهي كلها قضايا وملفات تحتاج إلى مراجعة جراحية شاملة.
صحيح، أن الخطاب الرسمي وتحديدًا خطاب الرئيس الموجه للخارج نجح أن يصل إلى قطاع من الرأي العام الغربي، خاصة التيار المؤيد للخطاب القومي المتشدد، والذي بات رقمًا لا يستهان به في معادلة السياسة هناك، فقد ركز على مخاطر الإرهاب والجماعات الإرهابية، وهو ما مثل استدعاء لمعادلة تعيشها كثير من المجتمعات الغربية، وتقوم على قيام الحكومات بتبني خطاب متشدد في وجه الهجرة وتقبل التجاوزات الأمنية إذا تعلق الأمر بمواجهة أي تهديدات إرهابية، كما أن قيام أشخاص يحملون أسماء عربية بعمليات إرهابية جعل كثيرين في الغرب يرفضون وجود العرب والمسلمين، ويرون أن المنطقة العربية غير صالحة لبناء الديمقراطية وربما ميؤوس منها، وأن المطلوب فقط ألا تصدر لهم إرهابيين ولاجئين.
والمؤكد، أن هذه النظرة التي تنطلق من الخصوصية الثقافية للمنطقة العربية وأولوية التنمية والاستقرار على حساب الديمقراطية وحقوق الإنسان يتلاقى فيها خطاب اليمين القومي المتشدد في الغرب مع الخطاب الرسمي المصري، وهي مساحة مفهومة في مجال التحالفات السياسية والمصلحية بشرط ألا يصل خطاب “أولوية التنمية الاقتصادية” إلى المساس بمبدأ حقوق الإنسان كقيمة عليا، فلا يجب أن نفتح أي باب لأن يتصور البعض أن الخصوصية الثقافية تعني اعتقال شخص دون حق أو إيذاء الناس في أرزاقهم وعملهم عقابًا على آرائهم السياسية السلمية، فقيمنا الدينية والثقافية -وليس ما يقوله الغرب ومنظماته الحقوقية- تعلمنا دائمًا احترام الإنسان كما جاء في قول الله تعالي: “ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا“.
أما الخطاب الغربي، فلا يزال في أغلبه يؤمن بعالمية مفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان، بصرف النظر عن توظيفه السياسي تبعًا للهوى والمصالح. صحيح، أن هناك فرقا في الحسابات والدوافع بين الخطاب الرسمي الذي تعبر عنه الحكومات الغربية وبين المنظمات الحقوقية العابرة للحدود، رغم أن كليهما ليس منزها بدرجات متفاوتة عن التحيزات السياسية.
صحيح، أن هناك صداما سيحدث بين أصحاب النظرة العالمية لمفهوم حقوق الإنسان، وبين أصحاب الحفاظ على السيادة الوطنية ورفض التدخلات الخارجية، بما فيها القضايا ذات الأبعاد العالمية مثل حقوق الإنسان.
وهنا، سنجد صداما متكررا بين دول عربية وشرق أوسطية مختلفة تمامًا في نظمها السياسية وخبراتها التحديثية، مثل مصر وتركيا وإيران والسعودية، وبين الغرب حول ملف حقوق الإنسان، والرفض نفسه الذي تقوله الحكومة المصرية تقوله نظيرتها التركية في مواجهة أي انتقادات غربية لهذا الملف، فالرد يكاد يكون واحدا وقائما على إعلاء مبدأ وقيمة السيادة الوطنية ورفض التدخل في شؤون الدول.
والمؤكد، أن البُعد الثالث المتعلق ببناء دولة القانون وتعزيز الحريات العامة واحترام حقوق الإنسان في مصر والعالم العربي سيعزز من قوة المشروع الوطني في مواجهة الضغوط الخارجية، ويجعل الاشتباك مع الخارج مقتصرا على الشق المتعلق بالتوظيف السياسي للملف، وليس المبدأ أو القيمة العليا لحقوق الإنسان، أو تبرير تجاوزات تحدث عمليًا على الأرض، إنما يجب احترام الحقوق المدنية والسياسية للناس جنبًا إلى جنب مع حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية.