على المسرح الأفريقي صعدت تركيا قبل أيام في محاولة لاستعراض عضلات تبدو مترهلة حاليًا، بفعل أزمة اقتصادية خانقة وانتكاسات سياسية وأمنية أرغمت أنقرة على إعادة احتضان الخصوم، لكنها في الوقت نفسه تظهر كمنافسة لهؤلاء الخصوم في الساحة الأفريقية، ضمن مساعي التغلغل التي تعتمدها.
تركيا التي تعاني حاليًا للخروج من قمقم الأزمات المتراكمة، تتجول في أنقرة بحافلة القوة النافذة باعتبارها أحد المتنافسين الدوليين على القارة السمراء ذات الموقع الجيوسياسي في العالم. هذه المفارقة بين الضعف الحالي والتغلغل التركي المتواجد في القارة منذ سنوات يخلق جملة من الأسئلة من قبيل: هل تمثل القارة السمراء مخرجًا لتركيا التي تحاول الاستثمار في أزمات المنطقة، أم أن وجودها هناك عرضة لهزات، بالنظر إلى أن اقتصادها ما عاد يتحمل مزيدًا من الإنفاق الخارجية، ما جعلها تسرع الخطى لتدارك الموقف.
أيًّا كانت الأهداف التركية التي تخضع لإعادة تقييم وترتيب وفق المتغيرات الاقتصادية والأمنية، فإنها تبقى واحدة من المتنافسية الدوليين بالقارة الأفريقية، التي تمتلك ثروات مادية وطبيعية هائلة، فضلاً عن منافع أخرى بفعل الموقع الجغرافي.
توقيت القمة الثالثة
في هذا السياق، استضافت إسطنبول القمة الأفريقية التركية في نسختها الثالثة، تحت عنوان «الشراكة من أجل التنمية المشتركة والازدهار»، بحضور 16 رئيس دولة، ورافقهم 102 وزيرًا عن 39 دولة أفريقية، بجانب ممثلين عن الاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا «الإيكواس».
انتهت القمة إلى خطة خمسية تقوم على 3 ركائز: السلام والأمن والعدالة، التنمية المستدامة، النمو المستمر، بحيث يجرى العمل بها خلال الفترة بين العامين 2022 إلى 2026 من خلال تعزيز التعاون في مجالات التجارة والاستثمار والصناعة والتعليم والتكنولوجيا وتطوير البنية التحتية.
يبدو من الخطة أنها ذات طابعين اثنين، أمني واقتصادي، وهو امتداد طبيعي للطموح التركي في القارة. لكن الجدير بالذكر في هذا الموضع أن سياسة تركيا حاليا ذات بعدين، الأول يتمثل في أزمة اقتصادية خانقة، تحاول إزاءها أنقرة استغلال الثروات الأفريقية عبر بوابة التبادل التجاري والاستثماري، والثاني تضاؤل نفوذها في عدد من دول القارة الأفريقية خاصة ليبيا، على وقع الأزمات التي تحاصرها.
هنا يمكن فهم القمة التركية الأفريقية وفق هذين البعدين، الأمني والاقتصادي، مع الإشارة إلى أن أنقرة تمتلك طموحات بعيدة المدى في القارة السمراء، دفعتها إلى التغلغل الناعم في المجتمعات الأفريقية من خلال برامج تنمية تمولها وكالة التعاون والتنسيق التركية (تيكا).
رسائل تركية
بالإضافة إلى الخطة الخمسية، انتهت القمة إلى جملة من النتائج أغلبها تتسم بمحاولات تركية توسيع نفوذها بالقارة. من بينها تعهد الرئيس التركي بإرسال 15 مليون جرعة من اللقاحات المضادة لفيروس كورونا إلى أفريقيا. وهي القارة التي تعاني من التأخر في الحصول على التطعيمات رغم رصد المتحورة أوميكرون لأول مرة في جنوب أفريقيا وبوتسوانا.
كما وعد أردوغان، بتقاسم اللقاحات مع أفريقيا عندما يحصل لقاحهم الخاص «توركوفاك» على موافقة طارئة. كما أعلن عن توجه بلاده لفتح سفارات جديدة في أفريقيا، ليرتفع عددها إلى 49 سفارة في 55 بلدًا.
حاول أردوغان اللعب على أوتار من المظلومية لدى الأفارقة، عندما قال إن «العالم أكبر من خمسة.. وليس من العدل أن أفريقيا، حيث يعيش 1.3 مليار نسمة، ليس لها صوت في مجلس الأمن». ولذلك وعد بالتحرك من أجل إيجاد فرصة لتكون أفريقيا حاضرة في مجلس الأمن، وهو تحشيد لهذه الدول خلف موقفه، الذي يتحرك من موضع الزعامة.
واحدة من الأهداف التي تضعها تركيا نصب أعينها إزاء تركيا، ما ورد على لسان أردوغان خلال فاعليات القمة بشأن حركة «الخدمة» التابعة لفتح الله غولن، حيث تحاول أنقرة تطويق تحركات المعارضة بالخارج، لافتا في هذا السياق إلى تعاون دول أفريقيا مع بلاده ضد الحركة.
ما وراء الوجود التركي في أفريقيا
تمتلك تركيا جملة من الأهداف الواضحة إزاء نفوذها في القارة الأفريقية، بخلاف ما سبق، على النحو التالي:
البعد الديني: سعت تركيا لإعادة بسط نفوذها في إطار إحياء مكتسبات الإمبراطورية العثمانية ومشروع الخلافة الإسلامية. والذي انعكس من خلال اتجاه أنقرة نحو توطيد علاقاتها بالبلدان ذات الأكثرية المسلمة، كما في نيجيريا والسودان والصومال، من خلال سلسلة من المراكز الإسلامية وبرامج المساعدات الإنسانية.
البعد الاقتصادي: القارة الأفريقية بمثابة ساحة جاذبة للاستثمارات نظرًا لتوافر الموارد الطبيعية وزيادة عدد الأسواق. وهو ما دفع القوى الدولية على رأسها الولايات المتحدة والصين وروسيا وفرنسا نحو التنافس على المصالح والمنافع الاقتصادية في القارة. وهو ما استقطب تركيا نحو التعجيل بإيجاد موطئ قدم في أفريقيا، فانطلقت بمختلف أدوات القوة الصلبة (العسكرية والاقتصادية) والناعمة (الثقافية والدينية).
تصفية الحسابات: ظهرت أفريقيا في السنوات الأخيرة بمثابة ميدان للمواجهة وتصفية الحسابات. وعلى سبيل المثال، أثناء فترة الأزمة الدبلوماسية بين تركيا والخليج، وسعت تركيا نفوذها في الدول المشاطئة للبحر الأحمر. وذلك من خلال القاعدة العسكرية في الصومال.
تراجع النفوذ التركي: واحدة من الدوافع التركية إزاي تنشيط حراكها في القارة الأفريقية، يتمثل في تراجع نفوذ أنقرة في الدول التي كانت تشكل رأس حربها في مشروعها بالقارة. فضلاً عن علاقاتها المتوترة خارجية مع دول أوروبية وغربية، إلى جانب ما تتعرض له السياسة التركية من انتكاسات على المستوى الإقليمي، من حيث صعود الحضور الخليجي على حساب مصالح تركيا في الشرق الأوسط.
الأدوات التركية في أفريقيا
اعتمدت تركيا على العدد من الأدوات التغلغل إلى قلب القارة الأفريقية، بعضها يعتمد على الاستقطاب واستغلال الفقر في بعض المناطق. ومن ثمّ تقديم مساعدات تنموية واقتصادية وتعليمية، وتلك الأخيرة كانت مدخلاً لما يمكن تسميته بـ”سياسة الاستعمار الثقافي».
الوجود الدبلوماسي: الأداة الأولى التي وسعت من خلالها تركيا وجوجها في القارة الأفريقية تتمثل في الانتشار السريع لسفاراتها في القارة. وهذه الأداة يمكن من خلال تمرير العديد من الصفقات الرسمية وغير الرسمية. كما ارتفع عدد السفارات التركية في أفريقا من 13 سفارة في عام 2003 إلى 43 سفارة حاليا.
المدخل الاستثماري والتنموي: هذا هو المدخل الأكثر تأثيرًا لدى تركيا في القارة الأفريقية. حيث ارتفع إجمالي التجارة بين تركيا وأفريقيا من 5.4 مليار دولار في عام 2003 إلى 25.3 مليار دولار في عام 2020. كما نمت الاستثمارات الأجنبية المباشرة لتركيا في القارة من 100 مليون دولار إلى 6.5 مليار دولار. كما يستهدف أردوغان مضاعفة حجم التجارة السنوية مع القارة إلى 75 مليار دولار خلال السنوات المقبلة.
دبلوماسية مؤتمرات: عقد 3 دورات من المنتدى الاقتصادي التركي الأفريقي بداية من عام 2016. وآخرها في أكتوبر من العام الحالي. كما أن الملاحظ في القمة الأخيرة أن عدد الرؤساء الأفارقة الذين حضروها وصلوا 16 رئيس، مقارنة بـ6 رؤساء في القمة الأولى عام 2008، و7 رؤساء في القمة الثانية عام 2014.
الاستقطاب الديني: تغلغلت تركيا في المجتمعات الأفريقية ذات الكثافة الإسلامية، مستغلة حالة التعاطف الديني والاسترجاع التاريخي. وذلك بهدف استمالة النخب الدينية، فعلى سبيل المثال، أعادت أنقرة ترميم المسجد الكبير وقصر سلطان آير في أغاديز شمال النيجر. كما شيدت عدة مساجد في مالي، إضافة إلى سلسلة من المراكز الإسلامية والجمعيات الخيرية التابعة لتركيا بأنحاء القارة.
المساعدات واستغلال الفقر: من خلال وكالة «تيكا»، تحاول تركيا استغلال المجتمعات الأكثر فقرًا، من خلال برامج دعم ومساعدات، وبناء مستشفيات، من بينها واحدة في باماكو عام 2018، وأخرى في نيامي عام 2019. كما وصلت مساعدات التنمية لتركيا إلى 3.9 مليار دولار أمريكي عام 2019.
سباق تجارة السلاح
تمثل أفريقيا سوقًا مربحة لتجارة السلاح، حيث الحروب الأهلية وعدم الاستقرار السياسي. وهو ما خلق سباقًا نحو تلك التجارة المربحة، بحيث استطاعت روسيا الفوز بحصة 49% من إجمالي واردات القارة من الأسلحة بين عامي 2015 و2019.
لذلك، حاولت تركيا اقتحام مجال إنتاج السلاح، ووجهت ما يزيد على 60 مليار دولار للاستثمار في هذه الصناعات. بحيث أصبحت في المرتبة 14 عالميا بين الدول المصدرة للمنتجات العسكرية. كما زاد حجم صادرات الأسلحة العسكرية إلى 11 مليار دولار في عام 2020. وارتفع عدد شركات الدفاع التركية من 56 إلى 1500 شركة.
من هذه المنطلق، تغلغلت تركيا في القارة الأفريقية كأحد تجار السلاح. ومن أجل ذلك وغيرها من الأهداف، أنشأت أكبر قاعدة عسكرية لها في الصومال إلى جانب قواعدها في ليبيا. كما أنشأت حوالي 37 مكتبًا عسكريًا لربط القارة الأفريقية بالسياسات التركية، ولديها ملحقون عسكريون في 19 دولة. وفي عام 2020، أبرمت اتفاقًا عسكريًا مع نيجيريا يتضمن الشراكة في مجال الصناعة الدفاعية، كما وقعت اتفاقية دفاعي مع نيامي.
العلاقة مع إثيوبيا وغرب أفريقيا
بخلاف غيرها من الدول الأفريقية، تتنامى العلاقات بين تركيا وإثيوبيا. وباعت تركيا أسلحة ومعدات عسكرية لإثيوبيا بـ94.6 مليون دولار بين يناير ونوفمبر. وفي أغسطس وقعت مع رئيس الوزراء آبي أحمد اتفاقًا عسكريًا. وكذلك حصلت توجو على مركبات إزالة الألغام من تركيا، وشهدت المبيعات إلى أنجولا وتشاد قفزات مماثلة.
وفي غرب أفريقيا، قدمت أنقرة 5 ملايين دولار لقوة الساحل G5، وفي 2018 وفرت تدريبات عسكرية وأسلحة للجيش المالي. كما صدرت تركيا إلى المغرب معدات دفاعية بـ3 مليارات دولار من خلال عام 2021، أي قفزت بنسبة 40% عن مبيعات عام 2020.
صفقات الدرونز
قادت تركيا حملة ترويج واسعة للدرونز في أنحاء القارة الأفريقية. حيث صرح أردوغان بعد زيارة أنجولا ونيجيريا وتوجو في أكتوبر: «في كل مكان أذهب إليه في أفريقيا، يسأل الجميع عن الطائرات بدون طيار». كما وقعت الرباط عقدا مع أنقرة في أبريل لشراء 13 طائرة قتالية بدون طيار من طراز Bayraktar TB2 بقيمة 70 مليون دولار. كذلك تعاقدت إثيوبيا على صفقة درونز، وغيرها من الدول الأفريقية.
نتائج واستنتاجات:
– الاهتمام التركي المتزايد بالقاهرة الأفريقية مرده إلى بعدين، الأول اقتصادي يهدف إلى تخفيف الضغط الكبير على اقتصادها، والثاني سياسي، في محاولة لاستدراك فشلها في العديد من المناطق، على حساب دول منافسة أخرى.
– تعتمد السياسة التركية من القارة الأفريقية على آليات متعددة المآرب والأساليب، بقدر يبدو متناقضًا، ففي الوقت الذي تضطلع في عمليات مساعدة إنسانية تسارع الخطى لحجز مقعد متقدم في سوق تجارة السلاح بالقارة.
– أكثر المناطق التي تشهد نفوذا تركيا تلك التي تمر بمرحلة هشاشة من الناحية السياسية والاقتصادية بفعل الاضطرابات الداخلية، وعلى رأسها ليبيا والصومال وإثيوبيا.
– يرتبط المنفوذ التركي في أفريقيا بشكل أساسي بتفاعل الملفات الأخرى الإقليمية، وبالتالي لا يمكن فصل أي تحرك تركي حاليا عن توجها السياسي القائم على احتضان الخصوم وتصفير المشكلات للخروج من قمقم الأزمات التي تحاصرها.