أثارت تصريحات فخري الفقي، رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب، حول وجود نحو 20 تشوهًا في جسم الاقتصاد المصري، الذي يبدو ظاهريًا مستقرًا بحسب قوله ، تساؤلات حول ماهية تلك التشوهات، ومدى تأثيرها على الاقتصاد المحلي وقدرة الحكومة على مواجهتها.
في عُرف رئيس اللجنة، أستاذ الاقتصاد الدولي بجامعة القاهرة ومستشار صندوق النقد وعضو البنك المركزي المصري سابقًا، فإن الاقتصاد غير الرسمي الذي تتراوح نسبته ما بين 40% و60% من الاقتصاد الكلي، يمثل أهم التشوهات التي يعاني منها جسد الاقتصاد. وهي محور أساسي في برنامج الإصلاح الهيكلي، الذي أطلقته الحكومة في 26 أبريل عام 2021.
انتشار الاقتصاد غير الرسمي يؤدي إلى حرمان الموازنة العامة للدولة من حصيلة ضريبية تقدر بنحو 400 مليار جنيه، والتي يمكن أن تغطي ما يقرب من 85% من إجمالي العجز الكلي. ويناهز 475 مليار جنيه في موازنة العام 2021/2022. الأمر الذي يخفض العجز إلى 175 مليار جنيه، لتصبح نسبته 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي 7.1 تريليون جنيه. ذلك بخلاف أرصدة الديون المستحقة للحكومة ضريبية وغير ضريبية، البالغة نحو 440 مليار جنيه حتى نهاية يونيو 2021.
مصنع المنوفية.. القطاع غير الرسمي يضر بالاقتصاد
يؤذي القطاع غير الرسمي الصناعة الوطنية ويضعف قدرتها على التصدير والنفاذ إلى الأسواق الخارجية. فلا يتم تطبيق المواصفات القياسية المتعارف عليها على منتجات هذه المنظومة غير الرسمية. حيث يتم استخدام أردأ الخامات جودة. ذلك بغية خفض تكلفة تلك المنتجات، بحسب مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار.
يعتبر مصنع الجبن الفاسد في المنوفية دليلاً على تلك الفكرة. فمنتجاته من الأجبان المتحجرة التي تستخدم في طهي الطعام، كان يتم تصديرها للخارج مباشرة. تحديدًا دول الأردن ولبنان وليبيا، وبعض المناطق البدوية. ما يثير صورة ذهنية سيئة حول الصادرات المصرية عمومًا.
بعض خبراء الاقتصاد يرون المطلوب هو وضع أنظمة وقوانين وسياسات مناسبة لإدارة الاقتصاد غير الرسمي، دون أن تلجأ الدولة لاتخاذ التدابير اللازمة لدمجه. فالتدخلات الحكومية تؤدي إلى حدوث تشوهات وعدم الكفاءة. يرى هذا الرأي أن حجم الاقتصاد غير الرسمي سيتقلص تدريجيًا مع النمو الاقتصادي المستدام.
لكن الرأي الآخر الأكثر ترجيحًا يرى ضرورة دمج الاقتصاد غير الرسمي أو على الأقل وضع الأنظمة والقوانين والسياسات المناسبة في البداية. ثم القيام بعملية دمجه فيما بعد؛ لأن دمج الاقتصاد غير الرسمي في مصر يعد عملية معقدة، وتتطلب بدورها طرح حلول تأخذ في الحسبان كافة الاعتبارات السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية في آن واحد.
القطاع الخاص.. ضعيف بحاجة للتأهيل
تعول الدولة كثيرًا على القطاع الخاص حاليًا، للمساهمة في عملية التنمية. وهو قطاع -بحسب رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب فخري الفقي- في احتياج للتأهيل قبل إشراكه في التنمية الرئيسية للتأهيل. خاصة وأن الكتلة الكبيرة منه تمثل 70% من المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر.
تقديرات البنك الدولي تشير إلى ملامح القطاع الخاص المصري، الذي يتسم بصغر حجمه وتركزه الجغرافي. حيث تقع 30% من شركات القطاع الخاص بثلاث محافظات، هي القاهرة والجيزة والإسكندرية. وهى تستوعب ما يقرب من 40% من وظائف القطاع الخاص. كما أن معظم هذه الشركات لا تصدر وتعمل في القطاع غير الرسمي. كما أن اعتمادها على التكنولوجيا منخفض.
صندوق النقد يؤكد أن القطاع الخاص بمصر ظل على مدار عقود أقل ديناميكية مع وجود نسبة بسيطة من الشركات القادرة على المنافسة خارج السوق المحلية، ومن أجل تعزيز التقدم في تنمية القطاع الخاص وتحقيق نمو يقوده التصدير توسعت مصر في إجراء إصلاحات هيكلية لرفع كفاءة تخصيص الأراضي وتقوية المنافسة والمشتريات العامة والتصدي للفساد.
تشريعات قديمة تسهم في تشويه الاقتصاد المصري
تمثل التشريعات الموجودة التي لا تتواكب مع العصر الذي نعيش فيه أحد تشوهات الاقتصاد المصري. فالمشرع حاول تطوير التشريعات من أجل جذب الاستثمارات بداية من عام 1965. لكن الظروف السياسية تدخلت في وضع سياسات اقتصادية، سواء بالانغلاق أو الانفتاح على العالم. ما أدى لتغيير السياسة التشريعية كل فترة زمنية بما يتناسب معها سياسيًا.
منذ أعوام يطالب الخبراء بدراسة مجموعة التشريعات المنظمة لتأثيرها على كافة مناحي العمل الاقتصادي أيًا كان مجاله وحجمه.
أكثر محاولات تقديم “قانون موحد للشركات” اكتمالاً كانت المسودة التي تمت صياغتها عام 2000، تحت رعاية وزارة الاقتصاد آنذاك. لكن لم تر النور. وكان ذلك بسبب عدم استعداد الحكومة حينها لتقديم مشروع قانون شامل وبهذا الحجم.
وفقًا لباحثين، فإن مصر تشهد سبعة أنظمة قانونية مختلفة للاستثمار نتيجة سياسات اقتصادية متناقضة، لا تجمعها رؤية واحدة، تراكمت عبر العقود الأربعة الماضية. دون أي محاولة للتوحيد بينها أو التقريب في أحكامها، بما يجعل المناخ الاستثماري أسهل في الفهم والتعامل معه.
لا يزال موضوع تراخيص البناء ومزاولة النشاط التجاري رهن مجموعة كبيرة من القوانين والقرارات التي يرجع بعضها إلى أكثر من سبعين عامًا. وبينما أدخل قانون البناء الموحد رقم 119 لسنة 2008 إصلاحات كبيرة وجوهرية في مجال تراخيص البناء، وبخاصة فيما يتعلق بتبسيط الإجراءات والحد من المصاريف والاعتماد على الخبرات المهنية المستقلة في تأدية الخدمة. إلا أنه لا يزال بحاجة إلى المزيد من التحديث والمراجعة.
أيضًا يجب استبدال قوانين الترخيص للمحال التجارية والصناعية، وأهمها قانون المحال الصناعية والتجارية وغيرها من المحال المقلقة للراحة والمضرة بالصحة والخطرة رقم 453 لسنة 1954، وقانون المحال العامة رقم371 لسنة 1956، وعدة قوانين أخرى مرتبطة بهما. على أن يحل محلها نظام جديد للتراخيص، لا يعتمد على الموافقات اللاحقة التي تصدر لكل مشروع، وتفتح أبوابًا واسعة للتلاعب والغموض والفساد.
298 قانونًا في عامين
تم إصدار 298 قانونًا بين عامي 2014 و2015 بواقع 171 عام 2014 و127 عام 2015. وقد تنوعت التشريعات الصادرة عام 2014 ما بين تشريعات تخدم الاستثمار، كالتعديلات التي أدخلت على قانون حماية المنافسة، ومنع الممارسات الاحتكارية بموجب القانون رقم 56 لسنة 2014، وتعديلات قانون التمويل العقاري، وقانون شهادات استثمار وتنمية قناة السويس وإعفاؤها من الضريبة، وقانون تنظيم نشاط التمويل متناهي الصغر.
ذلك بالإضافة إلى عدد من التشريعات الضريبية، كتعديل قانون الضريبة على الدخل، لإخضاع صافي الربح الذي يحققه المصري خارج بلاده للضريبة. وكذلك إخضاع أرباح صناديق الاستثمار فى الأوراق المالية التي لا يقل استثمارها فى الأوراق المالية وغيرها من أدوات الدين عن 80%. فضلاً عن تعديل قانون الضريبة على المبيعات لزيادة الضريبة على المشروبات الروحية والتبغ والسجائر. وأيضًا تعديل قانون الضريبة على الدخل، لتمكين شركات الأموال والأشخاص الاعتبارية بالسداد بالوسائل الإلكترونية. وأخيرًا تعديلات قانون الضرائب العقارية.
البورصة المصرية.. تحد آخر أمام الاقتصاد المصري
المتعاملون بالبورصة المصرية يمثلون أيضًا تحديًا آخر أمام الاقتصاد المصري. فسوق تداول الأوراق المصرية تضم 80% من المتعاملين كأفراد. وهو أمر يختلف عن الوضع العالمي الذي تمثل فيه الشركات نسبة التمثيل الأكبر.
أيضًا تعاني البورصة من محدودية عدد الشركات المدرجة، التي لا تتجاوز 224 شركة فقط. بينما السوق يحتاج معالجة وزيادة دور قطاع الأعمال العام والهيئات الاقتصادية؛ لأن العائد يصب في الموازنة العامة للدولة.
تقول “سي أي كابيتال” القابضة للاستثمارات المالية، إن سوق المال المصري لم يعكس النجاح في الإصلاح. إذ انخفضت القيمة السوقية للبورصة لنسبة 10% من الناتج المحلي، مقارنة بنسبة 90% في عام 2007. ما وضع البورصة المصرية في ذيل قائمة البورصات العربية.
يمثل السوق السعودي نسبة 90% من الناتج المحلي، ويتفوق السوقان الإماراتي والقطري على حجم الناتج. وعلى الصعيد العربي كذلك تتفوق بورصتا تونس ولبنان على مصر، وذلك بنسبة تصل لأكثر من 20%، وفي المغرب النسبة 60%.
يعاني مناخ الاستثمار في مصر بشدة من بطء عمليات التقاضي وفض المنازعات في المحاكم المصرية. وكذلك من عدم توحيد واتساق الأحكام الصادرة من المحاكم المختلفة. فضلاً عن طغيان الجوانب الإجرائية على الجوانب الموضوعية في النظام القضائي المصري. ولذلك فإن مؤشر التقاضي يعتبر واحدًا من أسوأ المؤشرات التي ترتبط بتقييم مناخ الاستثمار المصري في التقارير الدولية والدراسات المقارنة.
أصحاب المكتسبات.. الصراع بين الرأسمالية والاشتراكية
وفق البعض، تعود تشوهات الاقتصاد المصري إلى السبعينيات، وقت التحول الرأسمالي المصري، وتشوه هيكل الاقتصاد بين ما هو رأسمالي وما هو اشتراكي بصورة تخلق قوى من أصحاب المُكتسبات الرافضين لكل ما يمس مُكتسباتهم. هؤلاء كانوا يصرون على أن تكون عملية الإصلاح انتقائية بمبررات صورية، مثل الحفاظ على السلام الاجتماعي، والخوف على مُستقبل الفقراء، والحفاظ على توازنات سياسية ونقابية. وذلك ينتج عنه هيكل اقتصادي غير صالح للتنمية، بحسب دراسة للدكتور وليد جاب الله، الخبير الاقتصادي وأستاذ التشريعات الاقتصادية.
تضرب دراسة جاب الله، التي نشرتها مجلة السياسة الدولية، مثالاً على التحول للاقتصاد الحر، بإلغاء الدورة الزراعية، وترك الحرية للفلاح يزرع ما يشاء، وهو تحول لم يُنظم تلك الحرية، فترك صغار المُزارعين فريسة لكبار المُحتكرين من تُجار البذور والمبيدات، ومُشتري المحصول.
أمثلة على التشوهات الاقتصادية
ينطلق جاب الله إلى قطاع الصحة ضمن أمثلة التشوهات الاقتصادية، فيشير إلى أطباء استفادوا من التعليم المجاني، بينما يشعرون بعدم الرضا لكونهم لا يحصلون على رواتب تُناسب السوق الحرة التي تحكم السلع والخدمات. هؤلاء يفضلون السفر للخارج، أو مُمارسة الطب في عيادات ومُستشفيات خاصة، تُوفر لهم دخول تُناسب السوق الحرة. وفي تلك العيادات والمُستشفيات تجد المرضى من فئات المُجتمع التي تعاني من تكلفة العلاج.
أيضًا، المُعلمون الذين يشكون تدني الرواتب، بينما كثير منهم لا ينتظم في الوجود بالمدارس، ويُمارس تقديم التعليم بأجر، فيما يُعرف بالدروس الخصوصية. وتنحصر أفكارهم عن تطوير التعليم في زيادة الرواتب مُقارنة بأوضاع المُعلمين في الدول الرأسمالية الذين يعملون بعقد مؤقت وليس دائمًا، وإذا تراجع أدائه يتم إنهاء العقد.
ترتفع الأسعار في السوق الحرة بفعل سيطرة تجار توحشوا على مدار عقود بعد أن ألغت الدولة التسعيرة الجبرية، ولم تخلق نظامًا مُتطورًا يمنع الاحتكار ويحمي المُستهلك، وعند مُحاولة التُجار الشباب كسر ذلك الاحتكار تجدهم مُطالبين بنفقات إيجار لمُنشآتهم بأسعار السوق. بينما كبار المُحتكرين القدامى يتمتعون بإيجار قديم رمزي، يُقلل نفقاتهم، ويجعلهم أكثر قُدرة على مُحاربة القادمين الجدد من التُجار، بخفض الأسعار لحين خروج مُنافسيهم من السوق، ثم يعودوا لجشعهم.
تشير الدراسة إلى التشوهات القديمة في السوق العقارية التي كانت تتم عبر شراء أراض زراعية في أوقات مُعينة. ثم تصدر قرارات بتحوليها لأراضي بناء أو شراء أراضٍ بالتخصيص. ذلك قبل أن يتم إلغاء هذا الأمر لصالح تطبيق نظام المزادات.
لقد خلق النظام القديم فئة أغنياء تنقلوا للاستثمار في الخدمات، مثل المدارس والمُستشفيات الخاصة، التي تمتص دخول الطبقات السالفة الذكر، وهي دوائر مُفرغة عديدة كان لا يُمكن كسرها للوصول إلى التنمية، سوى ببرنامج إصلاح هيكلي شامل، وعادل، وشجاع، تم تبنيه أخيرًا.
خطوات على الطريق
شركة “سي أي كابيتال” تقول إن الحكومة المصرية نجحت في علاج العديد من الاختلالات الداخلية، بتثبيت أركان الدولة ونظامها والعلاقات الدولية، ومواجهة اختلالات الموازنة العامة للدولة، بمعالجة التشوهات السعرية في معظم السلع. ما أظهر العديد من الفرص أمام المستثمرين خلال الفترة الماضية.
تمكنت الحكومة من علاج الميزان التجاري عبر تعميق التصنيع المحلي وزيادة الصادرات، وكذلك معالجة العوائد على الأصول الاقتصادية في مصر، من خلال الصندوق السيادي، ومعالجة القطاع السياحي، بما يسهم في جذب العديد من السائحين، فمصر قادرة على أن تصل إلى 30-40 مليون سائح.
تؤكد بعض الدراسات الاقتصادية أن برنامج الشمول المالي الذي تدشنه الدولة أحد الوسائل التي تمكنها من تحويل مدفوعات الدعم العينية للجهات التي تستحقها، خاصة وأن سياسات وبرامج الدعم المفتوح المطبقة في الاقتصاد المصري أصبحت تکلفتها تشکل عبئًا واضحًا على موازنة الدولة، ولم تحقق الأهداف المرجوة منها. الأمر الذي يضع الدولة في موقف لا تحسد عليها. يعززه عدم قدرتها على النهوض بخطط التنمية من جانب، وعدم قدرتها على توجيه تلك البرامج لمستحقيها من جانب آخر. بالإضافة إلى رغبة الحکومة في تحقيق استقرار بيئة الأعمال وزيادة القدرة التنافسية للدولة. وأيضًا القضاء على التشوهات الناتجة عن عمل آلية السوق.
وضع البرنامج الجديد للإصلاح الهيكلي الزراعة في مقدمة القطاعات المستهدفة بهدف زيادة نسبة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي. لتصل إلى 12% عام 2023/2024 مقابل 11.3% عام 2019/2020. وذلك بنسبة زيادة مستهدفة تصل لـ30%. لترتفع حصة القطاع الزراعي من إجمالي الصادرات إلى 25% عام 2024 بدلاً من 17% عام 2020. فضلاً عن تحسن ترتيب مصر بمؤشر الأمن الغذائي العالمي. وتحتل المركز الـ 50 عام 2024، بدلاً من المركز الـ 60 العام الماضي.
تأتي الطموحات الحكومية، في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في المرتبة الثالثة. وهي تستهدف زيادة مساهمتها في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5% عام 2023/ 2024، مقابل 2.8% عام 2019/ 2020. ذلك بالإضافة إلى تسجيل نمو مرتفع للقطاع، وتوفير ما بين 120 و140 ألف فرصة عمل جديدة بحلول 2024.