سوف نكون مخطئين إذا استرحنا إلى اتهاماتنا “القوية“ للدول الأوروبية والولايات المتحدة بالتدخل في الشأن الداخلي، وبعدم فهم خصوصيتنا الثقافية، وكذلك إذا استرحنا إلى الترويج المحلي لمقولة الانتهازية والانتقائية الغربية في قضية حقوق الإنسان، بهدف هدم الدول، أو تقسيمها من أجل السيطرة عليها، وكأننا ألزمناهم الحجة، وأغلقنا نهائيًا الباب الذي تأتي منه العواصف؛ إذ على الرغم من أنَّ كل تلك الملاحظات الانتقادية قد يكون لها أحيانًا ما يبررها، فهي ليست كل الحقيقة، ولاهي تنفي أهمية ومصداقية وجدوى مسألة حقوق الإنسان في الثقافة السياسية الحديثة، وفي السياسة الدولية.
ليس الدليل الأقوى على هذه المصداقية وتلك الأهمية هو إلزامية وعمومية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عن الأمم المتحدة عام 1948فحسب، رغم حجيته القاطعة، ورغم إصداره في سياق تطلع الإنسانية كلها لعصر جديد، بعد أهوال الحرب العالمية الثانية، بما يعني اتفاق البشر جميعًا على وقاية كل إنسان على ظهر هذا الكوكب من العدوان على حريته وعلى أمنه وعلى كرامته، وفقًا لمعايير حددها ذلك الإعلان بوضوح قاطع، ولكن قضية حقوق الإنسان أصبحت فعلاً وحقًا من المدخلات والمخرجات المهمة في العلاقات الدولية، خاصة بين الدول الكبرى.
الوزن النسبي لحقوق الإنسان في علاقات الدول الكبرى بالذات تزايد بدرجة مؤثرة كثيرًا منذ وضعته إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر 1980/1976 في صدارة أجندتها للسياسة الخارجية
نعم، لم يكن الحال بهذا الوضوح في حقبة احتدام الحرب الباردة، منذ حصار برلين الغربية من جانب السوفييت عام 1948، ثم اندلاع سباق التسلح، فإقامة السور المشهور بين شطري العاصمة الألمانية، ثم أزمة الصواريخ الأمريكية، والغزو السوفيتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1968 لوأد ربيع براج، حتى إقرار الوفاق الدولي بين القطبين الكبيرين عام 1971، واتفاقية الأمن والتعاون الأوروبي، وانتهاء حرب فيتنام، ولكن الوزن النسبي لحقوق الإنسان في علاقات الدول الكبرى بالذات تزايد بدرجة مؤثرة كثيرًا منذ وضعته إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر 1980/1976 في صدارة أجندتها للسياسة الخارجية، وكان واضحًا أنَّها ستكون محور الصراع بين الغرب والشرق في حقبة ما بعد فيتنام وسائر النزاعات المحتدمة في العقدين السابقين، والتي أسلفنا ذكرها.
ونعم، كان العقل الاستراتيجي المهيمن في إدارة كارتر -زبيجينيو بريزنيسكي بولندي الأصل- يستهدف من التركيز على قضية حقوق الإنسان وضع الملح على أوسع وأعمق جراح النظام السوفيتي، من أجل خلخلة هذا النظام من داخله، لكن الجراح كانت موجودة بالفعل، وكانت ثاخنة بمعنى أنَّ الشحنة المتفجرة كانت جاهزة في انتظار فتيل الاشعال فقط لا غير، إذ سرعان ما تبلورت ظاهرة المثقفين السوفييت المنشقين، وسرعان ما ارتفعت أصواتهم تنتقد النظام بقوة، وتطالب بحرية التعبير والتنقل وسائر الحريات، وعلى الفور نشبت قضية هجرة اليهود السوفييت سواء إلى الولايات المتحدة وأوروبا، أو إلى إسرائيل، وتلقفت الحكومات والساسة ومراكز الأبحاث والإعلام في الغرب القضيتين، مما ألجأ السوفييت إلى خندق دفاعي بالغ الضيق، بعد أن كانوا في السابق هم الذين يضعون الغرب في موقف رد الفعل أو الدفاع، وعندما اخترع الأمريكيون ما سموه “استراتيجية الربط”؛ أيّ ربط القضايا كلها ببعضها البعض في علاقاتهم وعلاقات الغرب مع الاتحاد السوفيتي، أخذت التنازلات تترى من جانب الكرملين، وساعد على صنع هذا التحول الحاجة السوفيتية المتزايدة بإلحاح لواردات القمح الأمريكي، ورغبة موسكو في الحصول على تسهيلات في السداد، طبقًا لمبدأ الدولة الأولى بالرعاية، فأصدر الكونجرس الأمريكي قانونًا، صدَّق عليه الرئيس، يرهن حصول السوفييت على تلك التسهيلات بإقرار حقوق المنشقين، وبرفع القيود على الهجرة اليهودية، وهو ما كان.
كان ذلك هو أول وأهم معول ضرب بقوة في الجسد السوفيتي، الذي لم يستعيد عافيته بعدها قط، ليأتي التورط العسكري في أفغانستان، فيحوله بريزنيسكي إلى حرب استنزاف متطاولة وباهظة التكاليف اقتصاديًا وسياسيًا للسوفييت، وليأتي الرئيس الأمريكي الجديد رونالد ريجان فيستأنف سباق التسلح، فلا يستطيع الكرملين مجاراته، ويسقط الاتحاد السوفيتي سقوطه المدوي المعروف للجميع.
تطورت قضية حقوق الإنسان داخل أوروبا الغربية والولايات المتحدة إلى أن أصبحت أهم قضايا المجتمعات المدنية هناك، فانبثقت المنظمات الأهلية، ومراكز الدراسات المعنية بهذه القضية على مستوي العالم، والتي اشتهر منها كل من منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومان رايتس ووتش
وسط هذا الزخم تطورت قضية حقوق الإنسان داخل أوروبا الغربية والولايات المتحدة إلى أن أصبحت أهم قضايا المجتمعات المدنية هناك، فانبثقت المنظمات الأهلية، ومراكز الدراسات المعنية بهذه القضية على مستوي العالم، و التي اشتهر منها كل من منظمة العفو الدولية، ومنظمة هيومان رايتس ووتش، وانتشرت فروعها وكثر المتعاونون معها في كل الدول، مما أرغم كثيرًا من الحكومات الممتعضة من الفكرة إلى مجاراة هذا الاتجاه العالمي، ولو من باب الشكل دون المضمون، أو بالحد الأدنى من المضمون، وهكذا أسست مصر المجلس القومي لحقوق الإنسان في عهد حسني مبارك، وكذلك استحدثت تشريعات تقر بحقوق المرأة والأقليات، كما أصدرت مصر مؤخرًا “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان”، والشاهد أو الدلالة هنا هي أنه مهما يطُلْ استهلاك الوقت، فلا مهرب من قدر من التجاوب مع شيوع وقوة الاهتمام العالمي بثقافة وسياسات حقوق الإنسان، لا سيما إذا تكرر الربط بينها وبين المعونات والتسهيلات الاقتصادية والمالية من العالم الخارجي، وإذا بقيت المسألة-كما هي الآن- مطروحة بقوة في الاتصالات الدبلوماسية على المستويين الثنائي والجماعي، وعلى مستوى السفراء والوزراء والرؤساء، وأيضًا بين الحكومات والبرلمانات.
يرجّح أن تكتسب هذه القضية قوة دفع جديدة في السياسة الدولية كلما احتدم التنافس علي قمة العالم بين الولايات المتحدة والصين الصاعدة بقوة، إذ ينقص الأمريكيين في التنافس مع الصين بعض الأدوات التي كانت فاعلة مع السوفييت مثل سباق التسلح
فوق كل ذلك يرجّح أن تكتسب هذه القضية قوة دفع جديدة في السياسة الدولية كلما احتدم التنافس علي قمة العالم بين الولايات المتحدة والصين الصاعدة بقوة، إذ ينقص الأمريكيين في التنافس مع الصين بعض الأدوات التي كانت فاعلة مع السوفييت مثل سباق التسلح، بما أن القدرات الصينية تمكن بكين من خوض هذا السباق دون عثرات أو أزمات اقتصادية واجتماعية تذكر، وكذلك بما أن المجتمع الصيني غير المتأثر كثيرًا بالثقافة الأوروبية السياسية ليس مرجحًا أن يفرز ظاهرة منشقين، وعليه فستكون أولوية الأمريكيين هي التركيز على بقية العالم خارج الصين، نحو مزيد من جذب الشعوب إلى نموذج حكم القانون واستقلال القضاء وحريات التعبير والاجتماع إلخ، وبالإجمال حقوق الإنسان، ونحو مزيد من تنفير هذه الشعوب من مجمل النموذج السياسي الصيني، وعندئذ سوف تستخدم كل الأدوات، التي تكفل نشر أو تعميم النموذج الأورو/أمريكي جزئيًا أو كليًا، وهنا ستكون الضغوط واردة، وسوف تزداد قوة. وكما قلنا في مقال سابق هنا، وشرحنا الأسباب، فلن يكون متاحًا لكثير من الدول غير الكبيرة نمط التحالف الاستراتيجي الشامل مع الصين في مواجهة الضغوط الأمريكية، كما كان الحال في حقبة الصراع السوفيتي الأمريكي، الذي أتاح للسوفييت ولكثير من دول العالم الثالث (آنذاك) إقامة تحالفات استراتيجة لمواجهة الضغوط الأمريكية.
المسألة إذن أوسع، وأعقد من بيان يصدر هنا أو هناك.