قرر اﻷستاذ الجامعي الكبير، والذي يشغل منصب عميد كلية مرموقة، أن يقدم بعضا من خلاصة تجربته الحياتية والعملية إلى متابعيه على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك. وﻷن تخصصه هو علم الفيزياء فقد اختار أن يضرب مثلا توضيحيا يستخدم معرفته العلمية التي لا يمكن ﻷحد التشكيك فيها، وبدأ ذلك بطرح سؤال بسيط هو: ماذا لو أنك ملأت دلوين (جردلين) بماء ساخن له نفس درجة الحرارة بالضبط، اﻷول أتت مياهه من سخان يعمل بالكهرباء، واﻵخر من سخان يعمل بالغاز، هل تبرد مياه الدلوين في نفس الوقت؟ إجابة الأستاذ الدكتور العميد كانت “ﻷ طيعا.” وحتى لا أضيع وقت القارئ الكريم، ومع كامل الاحترام للأستاذ الدكتور العميد، هذه اﻹجابة علميا وعمليا خاطئة، فأي كميتين متساويتين من المياه في نفس درجة الحرارة، وتحت ذات الظروف، ستبردان في نفس الوقت، بغض النظر عن الطريقة التي تم بها تسخينهما، بالكهرباء، بالغاز، بالحطب، بالفحم، أو بشمعة.
تأكيدا لما ادعاه، استخدم الأستاذ الفاضل مصطلحين علميين يتعلقان بالديناميكا الحرارية، ومع تكرار التأكيد على حقيقة أن ادعاء السيد العميد هو خاطئ تماما، يمكن إضافة أن المصطلحين الذين استخدمهما ليس لهما علاقة أصلا بالمثال الذي أراد طرحه، ولكن هذه تفصيلة لن يعرف بها أغلبية من قرأوا منشوره، وربما أقنعهم عدم معرفتهم بما يعنيه المصطلحان في اﻷساس بالتشكك في معرفتهم المعتمدة على الخبرة اليومية والمبادئ العلمية البسيطة التي يتعلمها كل من تخطى مرحلة التعليم الابتدائي. في نهاية المطاف صاحب المثال يفترض به أنه أكثر معرفة بتخصصه. ومن ثم فقد تعرض من قرأوا المنشور لنوع من الابتزاز لتصديق ما يطرحه اﻷستاذ الجامعي والتسليم بما يقوله بموجب سلطته التي يكتسبها بحكم مكانته، أي سلطة النطق بالحقيقة العلمية التي لا يمكن لمن هم أقل مكانة منه مجادلته فيه.
ولكن غرض اﻷستاذ الدكتور من طرح مثاله الخاطئ علميا، لم يكن بالطبع إثارة حيرة متابعيه، ففي النهاية كانت لديه حكمة حياتية أراد أن يفيض بها عليهم، فما أراد في الحقيقة طرحه هو تصوره أن من يصل إلى موقع قيادي، بسرعة ﻷي سبب، لن يكون أداؤه مثل ذلك الذي تقدم إلى الموقع القيادي على مهل مراكما خبراته عبر فترة زمنية طويلة. اﻷول هو، حسب مثال الأستاذ، مثل مياه سخان الغاز التي سخنت بسرعة وبردت بسرعة أيضا، والثاني كمياه سخان الكهرباء التي سخنت على مهل وفقدت حرارتها على مهل أيضا. وبغض النظر عما إذا كنا سنتفق أو نختلف مع رأي الأستاذ الدكتور بهذا الشأن، فاختياره للمثال الخاطئ علميا لن يساعد بالتأكيد على إقناع متابعيه برأيه، إلا بالطبع إذا انخدعوا أولا فصدقوا أنه صحيح، ولكن على جانب آخر، تصور الأستاذ الدكتور ﻹمكان تطبيق مبادئ الفيزياء على السلوكيات البشرية الاجتماعية هو في حد ذاته إشكالي تماما، فالبشر ليسوا جمادات تتمدد خبراتهم بالحرارة، وتنكمش مع فقدانها. ويمكن ﻷي شخص أن يدرك أن تراكم الخبرة المطلوبة للقيادة لا يتعلق بالمدى الزمني بقدر ما يتعلق بما مر به الشخص خلاله. يمكن للبعض أن يمارس عملا روتينيا لعقود دون أن تتراكم لديه خبرة أكثر مما اكتسبه في العام اﻷول من عمله، في حين قد يكتسب آخر خلال أعوام قليلة أضعاف هذه الخبرة.
في الحقيقة لا يعنيني كثيرا أن يقع أستاذ جامعي في خطأ علمي، فلا أحد معصوم من مثل هذه اﻷخطاء مهما بلغت مكانته العلمية، وربما كان السيد العميد مشغولا طوال اﻷعوام الماضية في مراكمة خبراته الإدارية بحيث بهتت معرفته اﻷكاديمية، ولكن ما لا يمكن أن نتوقعه من عالم هو أن يبهت مع الوقت ويتضاءل احترامه للمعرفة العلمية وللعلم في حد ذاته، فما أقدم الأستاذ الدكتور عليه يعكس استخفافا شديدا بهما. يمكن للعالم أن تخونه ذاكرته أو فهمه لحقيقة علمية، ولكنه عندما يقدم للآخرين معلومة يسندها بثقل مكانته، يقتضي ذلك منه أن يتأكد من هذه المعلومة قبل أن تقديمها. في نهاية المطاف لم يكن الأستاذ الدكتور في جلسة ودية مع أصدقائه على المقهى عندما ذكر هذه المعلومة، ولكنه كتبها في منشور يمكن أن يصل إلى اﻵلاف، وكان لديه من الوقت ما يكفي ﻷن يتأكد من صحة المعلومة التي بنى عليها مثاله الذي أراد له أن يثبت حكمته الحياتية الفريدة. في الواقع لا يعرف مجال البحث اﻷكاديمي أصلا مبدأ إسناد صحة أي ادعاء بمجرد المكانة العلمية لصاحبه، ومهما كانت هذه المكانة فصاحبها مطالب عندما يقدم أي ادعاء علمي أن يحيل إلى مصدر ما يثبت هذا الادعاء، أو أن يقدم البيانات الكاملة لتجربة أجراها بنفسه أو كان شريكا في إجرائها. بالطبع لا يمكن مطالبة العلماء في منشوراتهم على وسائل التواصل الاجتماعي بالالتزام الصارم بمثل هذه القواعد، ولكن يمكن على اﻷقل توقع ألا يقدم أي منهم معلومة دون التثبت من صحتها.
استخدام ما يفترض أنه معلومة علمية تنتمي إلى أحد العلوم الطبيعية لتأكيد رأي في قضية اجتماعية هو بدوره نوع من الاستخفاف بالعلم، وهو هنا استخفاف بالعلوم الطبيعية، التي يستمد الأستاذ الدكتور منها مثاله، وبالعلوم الاجتماعية التي تطفل عليها بطرح رأي انطباعي أقحم فيه دليلا لا علاقة له بموضوعه ويعتمد على الشبه البعيد بين ظاهرة طبيعية وأخرى اجتماعية، وهذا ببساطة مناف للأساس الذي يقوم عليه العلم الحديث الذي لا مجال فيه للربط بين الظواهر بمجرد الشبه. وإذا كان الناس العاديون من غير العلماء يستخدمون هذا الربط في أحاديثهم اليومية العابرة، فهذا أمر لا يمكن توقعه من العلماء، ﻷنه ينطوي على إهانة لمفهوم العلم في حد ذاته، فهو يهبط به إلى نفس مكانة أحاديث المقاهي والمساطب، وعندما تصدر تلك اﻹهانة عن العلماء فهي تسهم بقدر كبير في تثبيت شيوعها في المجتمع، فالحقيقة المؤسفة هي أن مجتمعنا في غالبيته العظمى لا يضع حدا فاصلا بين الادعاءات المبنية على انطباعات عشوائية عابرة أو على تصورات متوارثة ثبت علميا خطأها، وبين الحقائق والفرضيات العلمية، وهذا هو جوهر عدم اعتداد هذا المجتمع بالعلم باﻷساس.
سأدع هنا الأستاذ الدكتور لحاله مع تكرار تأكيد احترامي لمكانته العلمية، وأضيف إلى ذلك تأكيد أن الهدف مما أكتبه هنا ليس السخرية من شخصه أو تحميله المسؤولية عن ظاهرة متفشية في مجتمعنا بحيث لا يمكن توقع أن ينجو منها أحد حتى العلماء المتخصصين وهي عدم احترام العلم بمعناه الصحيح كمجال للنشاط اﻹنساني له شروط صارمة لتحقيق هدفه وهو الوصول إلى معرفة موثوق بها بالعالم. إننا جميعا نحصل مع الوقت قدرا متفاوتا من المعرفة بعالمنا من مصادر شديدة التنوع والعلم المنهجي هو فقط أحد هذه المصادر، ولكن ما يميزه حقا، وبالتالي ما يستحق معه أن نوليه قدرا مختلفا من الاحترام عن غيره من المصادر ولا نساويه بها، هو تحديدا منهجيته. وبالنسبة للعلم الحديث تقوم هذه المنهجية على أن أي ادعاء يمكن القول بأنه علمي فقط إذا ما كان قابلا للاختبار وفق شروط صارمة. ليس هذا هو حال المصادر اﻷخرى التي نستمد منها معرفتنا بالعالم، فكثير من المعرفة التي نحصل عليها نتيجة خبراتنا وتجاربنا اليومية غير قابلة للاختبار. المثال اﻷبرز هو عيون الحكمة التي نتداولها في مأثورات كثيرة، فأغلبها يعتمد على الملاحظة الذكية، ولكنه غير قابل للاختبار، ويمكن دائما إثبات أنه قد يصح أحيانا بينما يكون مخطئا في أحيان أخرى.
العلم هو مجال الجهد البشري المنهجي والمنظم والمتراكم عبر السنين لمحاولة الوصول إلى معرفة يمكن الاعتماد عليها بأكبر قدر من الثقة لاتخاذ قرارات أقرب إلى تحقيق الهدف منها. وعندما نساوي بين المعرفة التي ينتجها هذا العلم بالمعرفة التي تصل إلينا من أي مصدر آخر فنحن ببساطة نلقي بهذا الجهد البشري إلى البالوعة فنهدره ونعتمد بدلا منه على معرفة أقل موثوقية فنعرض ما نتخذه من القرارات إلى الفشل في تحقيق أهدافها. وهذا ما يؤدي في المحصلة إلى أن يكون مجموع ما يتخذه أفراد مجتمع من القرارات والخيارات أقرب إلى الفشل منه إلى النجاح، والطبيعي أن يميل هذا المجتمع إلى التأخر مقارنة بغيره من المجتمعات التي تولي المعرفة العلمية قدرا أكبر من الاحترام.
عندما نصف مجتمعا بالتخلف، لا ينبغي أن نتصور أن هذا حكم أخلاقي مطلق، كما أنه لا ينبغي أن ينبني على أساس تصور لتراتبية معينة، تصنف المجتمعات بين المتقدم والمتخلف. وبمعنى أوضح ليس ثمة مجتمع (متخلف)، ولكن ثمة مجتمعات تفشل باستمرار في تحقيق أهدافها التي تعلن بوضوح سعيها لتحقيقها. هذا الفشل أمر يلمسه جميع أفراد المجتمع على اختلاف مواقعهم منه، ولكنهم يعانون من آثاره بدرجات متفاوتة. وبالتالي نحن هنا لا نتحدث عن أحكام معلقة في الفراغ، وإنما نتحدث عن واقع نعيشه بصفة يومية، يتمثل في سوء أحوال معيشتنا وتضاؤل فرص تحسنها في المستقبل، ويمكن التدليل على أن جانبا كبيرا من أسباب دوراننا المستمر حول أنفسنا دون التقدم نحو تحقيق أي تحسن في أحوالنا يعود إلى عشوائية السبل التي نختارها للتعامل مع مشاكلنا، واعتمادنا معظم الوقت على قرارات واختيارات اعتباطية مبنية على معرفة غير موثوقة ﻷنها إما انطباعية وسطحية، أو ﻷنها مستمدة من الخبرات الحياتية المحدودة لصناع القرار في المواقع المختلفة. ما يغيب عن سبل تعاملنا مع المشاكل المختلفة في معظم اﻷحيان هو المنهجية والاعتماد على معرفة موثوقة مستمدة من التراكم المعرفي العلمي. وهو غائب ﻷننا ببساطة لا نحترم العلم أو المعرفة التي ينتجها، ونعتبرها مساوية في الوزن بل وأقل وزنا من المعرفة المستمدة من أية مصادر أخرى.
مرة أخرى، التأخر أو التخلف الملموس مقارنة بمجتمعات أخرى وصلت إلى توفير ظروف معيشة أفضل ﻷفرادها يتعلق بمعدل فشلنا في تحقيق أهدافنا مقارنة بمعدل نجاحها في تحقيق أهدافها. وفي الواقع، يبدأ اﻷمر بما قبل السعي لتحقيق أي هدف، ففي النهاية اختيار اﻷهداف في حد ذاته هو عملية ينبغي أن تنبني على منهجية قابلة للاختبار، وتعتمد أيضا على معرفة موثوقة لا يوفرها إلا العلم. ومن ثم فإن قدرا كبيرا من مجهوداتنا يتم إهداره في السعي لتحقيق أهداف عبثية إما غير قابلة للتحقق من اﻷساس، ﻷن أحدا لم يدرس إمكانية تحقيقها أصلا، أو أنها مع فرض إمكان تحقيقها لا تسهم بأي قدر في حل مشاكلنا أو في تحسين ظروف معيشتنا، وربما قد تؤدي إلى عكس ذلك.
ليس الجهل هو غياب المعرفة بمعلومة ما، فلا أحد يمكنه أن يعرف كل معلومة متاحة، وبالتالي فجميع البشر لهم معرفة محدودة، ولكن هذا لا يعني أن باﻹمكان وصفهم جميعا بالجهل. الجهل الحقيقي هو الاستخفاف بقيمة المعرفة، وهو ما يؤدي إلى عدم السعي إليها أو عدم استخدامها عند الحاجة إليها. لا يضير أحد أن تغيب عنه المعرفة بشيء لا يحتاجه، ما يضيره حقا هو أن يكون في حاجة إلى المعرفة لجعل حياته أفضل ولكنه ينصرف عن هذه المعرفة ﻷنه يستخف بها. لا ضرر من أن تغيب عنك المعرفة بقوانين الديناميكا الحرارية، ما دمت لست في حاجة إلى تصميم سخان أو جهاز تكييف، ولكن اعتمادك على معرفة غير موثوقة تستمدها من منشور على الفيسبوك، يؤكد أن مياه السخان الكهربائي ستستغرق وقتا أطول حتى تبرد، قد يؤدي بك إلى الثقة بالجردل الذي سيجلب عليك نزلة برد في الشتاء.