عام 2019 كنت أجلس بإحدى قاعات السينما أنتظر عرض فيلم محطمة النظام system crasher مع صديق وزوجته كانا مهتمين بمشاهدة الفيلم. فهو يحكي أزمات تربية الأطفال. وربما كان ذلك محاولة من الصديقين للاستفادة في تربية طفلتهم.
لا أتذكر من ذلك اليوم سوى استنكار صديقي بعد انتهاء الفيلم مباشرة عندما قال: “ليه ماحدش في الفيلم فكّر يضربها؟”. تلك العبارة تحمل إلى جانب شخصيته وتصوره عن العالم الحد الأدنى من نظرة المجتمع الواسع الذي نعيشه معا.
كان فيلم “محطمة النظام” أو “system crasher” هو الفيلم الطويل الأول للكاتبة والمخرجة الألمانية نورا فينجشت. والذي قررت أن تحكي خلاله قصة مذهلة في جوهرها أزمة أصيلة حول التأقلم مع عالم جديد لا يعرف الإنسان كيفية التأقلم معه. وذلك داخل تساؤل مفتوح لا يُجاب عنه: مَن المسؤول عن عدم التأقلم هذا؟ قبل سنوات قليلة من فيلمها الأحدث “لا يُغتفر” الذي ربما يسير في الاتجاه ذاته فلسفيًا.
محطمة النظام.. كيف يشعر الأطفال بالأمان؟
حصد فيلم محطمة النظام system crasher ثماني جوائز من Lola. بما في ذلك أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل ممثلة رئيسية للفتاة الصغيرة البطلة ذات التسع سنوات. كما حصد جائزة من مهرجان برلين لعام 2019. وصنع مستقبلا أفضل لعالم صانعته بالرغم من كونه فيلمها الأول.
يحكي الفيلم قصة طفلة في التاسعة تتركها والدتها فجأة لتصبح وحيدة في الشارع مضطرة للتنقل بين أماكن وأشخاص لاحتوائها داخل إحدى الأسر. بينما لا تفكر الفتاة في أي شيء آخر باستثناء عودتها إلى والدتها وعالمها.
تحكي المخرجة -التي قضت طفولتها بين الأرجنتين وألمانيا- عن بداية فيلمها. تقول إنه في أثناء تصويرها لفيلم تسجيلي عن منزل للنساء المحرومات. سمعت المصطلح غير الرسمي “تعطل النظام” لأول مرة. ذلك لأن أصغر السكان في المنزل كان يبلغ 14 عامًا فقط. ولم تكن هناك منازل للأطفال على استعداد لاستيعابه. وأذهلها مصطلح “معطّل النظام ومحطم النظام”. وبدأت رحلة استمرت ست سنوات قبل صناعة فيلمها حول مفهومه وسياقه الأكبر الذي يطلقه المجتمع على الأطفال الصغار الذين لا يمكنهم الاندماج في المجتمع.
عرفتْ وقتها أن “محطمي النظام” هم أطفال يتمتعون بقوة مذهلة وقدرة على التحمل. لكنهم ما زالوا شخصيات مأساوية في سن مبكرة للغاية. يعرضون كل فرصهم للاندماج في مجتمعنا للخطر. تقول: “كان دافعي لصنع هذا الفيلم هو توعية الناس بهؤلاء الأطفال. هذا هو سبب سرد الفيلم بشكل أساسي من وجهة نظر الطفلة. كمتفرجين نطوّر شعورًا بالعدد المربك من المنازل وتغيير الأوصياء والاضطراب المستمر والمذهل للعلاقات. في الوقت نفسه تجذبنا بيني إلى عالم متوحش وغير مؤكد ومليء بالخيال لطفل يقاتل من أجل إحساسه بالوجود. كنت أرغب في أن يكون الفيلم مليئًا بالطاقة رغم الطبيعة المأساوية للموضوع. وعلى الرغم من أننا قد نشعر بالضيق بل بالصدمة من السلوك العنيف فإننا يجب أن نتعلم كيف نحبها ونخشى عليها خلال مسار الفيلم”.
صرخة فيلم محطمة النظام: أمي تكرهني
منذ أن قابلت “تعطل النظام” الأول عرفت أنه كان عليّ سرد قصة عن أحدها. عنف الأطفال هو صرخة طلبًا للمساعدة دائمًا. مونتاج حاد وموسيقى إلكترونية وحركة كاميرا سريعة كحل مثالي لزيادة توتر المشاهد مع حكاية فتاة عنيدة ستحبها وتكرهها بالقدر ذاته.
في أحد مشاهد الفيلم تجلس الطفلة بجانب المدرس الوحيد الذي أحبته في رحلتها. إذ تنظر أمامها للحديقة الواسعة التي تجلس فيها تنادي على والدتها بأعلى صوت. وحين لا تجد إجابة تقول له: “أمي تكرهني”.
أعتقد أن تلك هي الجملة الوحيدة التي تحركها نحو كل شيء. عدم شعورها بالأمان دائمًا لاحتقارها ذاتها وعدم توقعها أن يقبلها أحد في مجتمع قاس لا تعرفه ولا يعرفها.
فيلم “لا يغتفر”.. رسالة أخرى حول صعوبة التأقلم
في أحدث أفلام إنتاجات نتفلكس شاهدنا منذ أيام فيلم “لا يغتفر“. وذلك بعد نحو عشر سنوات من عرض مسلسل كان يحمل الفكرة والاسم نفسه قبل أن تقرر نتفلكس أن تستغل نجاحه في فيلم سينمائي تعود به الممثلة العالمية ساندرا بولوك للسينما. وذلك بعد توقف أعوام عدة. ليأتي واحد من أفضل أدوارها على الإطلاق للدرجة التي تجعل النقاد يصعب عليهم تخيل ممثلة غيرها.
وعلى عكس السائد ستذهب الممثلة ساندرا مصادفة لمشاهدة فيلم المخرجة الأول الذي سيلاقي إعجابها بشدة لدرجة عرض السيناريو الجديد عليها للعمل على الفيلم الجديد. والذي ستعمل عليه هذه المرة كمخرجة فقط مع ورشة كتابة ثلاثية غيرها.
قصة أكثر طزاجة وأكثر ضمانًا للتعاطف معها مما قبلها على كل حال. سجينة تقضي عشرين سنة بأحد السجون الأمريكية. يبدأ الفيلم من لحظة خروجها ومواجهة العالم مرة أخرى. مع تحذيرات الشرطي المكلف بمتابعتها في الخارج من ارتكاب أي حماقات مهما بلغت درجة صغرها لعدم تعرضها للعودة للسجن.
لا نفهم شيئا باستثناء سعيها الدائم للتأقلم مرة أخرى وصدمة سبب سجنها القديم على اعتبارها اتهمت بقتل شرطي. وتجاهلها لكل شيء تعيشه باستثناء بحثها الدائم عن أختها الصغيرة التي تركتها قبل أن تدخل السجن. واستمرت على مدار العشرين سنة تكتب لها رسائل لا يُرد عليها أبدًا.
يتحرك الفيلم بتكنيك سابقه من حركات سريعة للكاميرا ومونتاج حاد وإن كانت أقل حدة، لكنه لا يخلو من حركات “نتفلكسية” تجلب المشاعر بالقوة للتعاطف بشكل أقل رمزية بالطبع ليناسب قدرا أكبر من الجمهور. يتم ترك المشاهد مع إجابات حل اللغز حول سجنها وأحقية ذلك من عدمه. فضلا عن محاولاتها المستمرة للتأقلم مع المجتمع الذي لم يسامحها. والتهرب من أهل الرجل الذي اتهمت بقتله ولم ترضهم عقوبة سجنها فقط.
في السياق الرأسمالي لفيلم “محطمة النظام
أعتقد أنه يضيّق تساؤله المفتوح حول اتهام الفتاة من عدمه. ولا أرى النظر إلى الفيلم الجيد رغم قوة ما سبقه بالتنبه لصانعته ضمن سياق رأسمالي أمريكي أوسع وأكثر شمولية.
ثمة شيء شهير يحذرك منه صديقك الأمريكي إذا أردت التجول في الشوارع: إذا حدث بالخطأ واصطدمت بأحد المارة أمامك لا تعتذر. ربما يتخذها ذريعة لرفع قضية ضدك وطلب تعويض. فقط امشِ كأن لم يحدث شيء. المجتمع الأمريكي الذي يمثل هيكلا تنظيميا هلاميا متضخما لمجتمعات أقل قوة تسعى للتشبه به بوعي أو بغيره. يتحرك في أغلبه بهذه الشكلانية المحبطة في طريقة النظر إلى الفرد داخله على اعتبار مدى أهمية الاستفادة من ورائه.
المخيال الاجتماعي الأوسع ربما يحمل جوهر تلك الفلسفة في قلبه. الاحترام الزائد على الحد ظاهريًا وعدم التسامح أو الاحتقار للجميع إذا ثبت عليك بعض الأشياء التي يعتبرها الجمهور الواسع “لا تغتفر” مهما نال فاعلها عقوبة.
نقطة الفيلم الأكثر قوة في رأيي لا أراها داخل صعوبة تأقلم الفتاة داخل مجتمع لا يرحمها أو غيرها. قدر ما أرى قسوتها في علاقتها بالرجل الذي تقابله مصادفة في العمل ويحدث فجأة أن يتعلقا ببعضهما. ويهرب عندما يعرف أنها سجينة قديمة. تظن الفتاة أنه يحتقر ذلك بينما يخبرها أنه هو الآخر كان يقضي فترة عقوبة في السجن. وتمر الكاميرا سريعًا بين حسرتيهما معًا دون إجابة.
يجرّم القانون أي مقابلة مهما كان هدفها بين أي سجين وآخر في الخارج. وذلك على اعتبار أن في ذلك خطرا على المجتمع الأكبر. داخل عالم ومجتمع أوسع هشّ وضعيف وأقسى من أن يتقبل هؤلاء لدواعي الخوف أو كعربون محبة خشية الطرد من عمل مهم. يتم ترك هذا “المذنب” كمنبوذ ومتهم ومجرم موصوم للأبد يحمل ذنبه مثلما يحمل “سيزيف” صخرته.
في الفيلم الأول “محطمة النظام” كانت الفتاة الطفلة تقف في عالم لا يمكنها الانخراط فيه. وفي الفيلم الأخير “لا يغتفر” كانت الفتاة البالغة تقف داخل عالم لا يمنكها الانخراط فيه. كلاهما في الورطة ذاتها. لا يحتمل المجتمع الأوسع ترويضهما وتحمل أخطائهما تمامًا مثلما قال صديقي بحسن نية أن “الضرب” كان الحل الأمثل لإخطاع الطفلة وشقاوتها كتعبير عن مجتمعه الأكبر ومفهومه. الفيلمان يمكن أن يُستنبط منهما تساؤل فلسفي لم يجد إجابة: بعد كل ذلك مَن يستحق أن يُجرّم الإنسان المذنب أم القانون الذي يحتقر غفرانه؟