تطورات متسارعة يشهدها الملف اليمني، الذي سيغلق العام الجاري- على ما يبدو- بفتح صفحة جديدة في مسار الحرب. وذلك على وقع تصعيد ميداني واسع بين التحالف الذي تقوده السعودية وجماعة أنصار الله الحوثيين.
الجماعة المدعومة من إيران حققت خلال الفترة الأخيرة مكاسب وانتصارات كبيرة ميدانيًا. سواء في جهات مأرب أو محافظة الجوف التي قالت إنها سيطرت عليها بالكامل وصولاً إلى الحدود السعودية. كما هددت بنقل العملية العسكرية إلى مرحلة جديدة تستهدف خلالها جازان والرياض بشكل مباشر. بينما استطاعت لأول مرة منذ العام 2018 أن تُوقِع قتلى ومصابين داخل الأراضي السعودية، يوم الجمعة الماضية. وهي المكتسبات التي قالت الجماعة إنها ماضية في نهجها لـ«تحرير» كامل الأراضي اليمنية من «العدوان» السعودي.
في المقابل، ردت السعودية بعمليات قصف واسعة النطاق على مواقع للجماعة في صنعاء. كما فتحت جبهة مع لبنان بعد اتهام حزب الله بإدارة مطار صنعاء لتحويله إلى قاعدة عسكرية. وأحصت خسائر باهظة مادية وبشرية في صفوف الحوثي.
تطورات ميدانية
لكن السؤال: لماذا نقلت السعودية المواجهات من الجبهات التقليدية في مأرب والجوف إلى صنعاء؟ وما الأسباب التي قادت لتحقيق الحوثيين هذه الانتصارات، وهل بوسعهم فعلاً توجيه ضربات موجعة للرياض، كما يهددون. وبناء على ذلك ما مستقبل العملية السياسية في ظل التصعيد الراهن؟
الحوثيون يسيطرون على الجوف
أحدث التطورات صاحبت إعلان جماعة أنصار الله أمس الأحد سيطرتها الكاملة على محافظة الجوف شمال البلاد، عبر عملية عسكرية واسعة، ضد القوات الحكومية. العملية التي سمتها الجماعة «فجر الصحراء»، انتهت بالسيطرة على 1200 كيلومتر مربع، وفق المتحدث العسكري باسم الجماعة يحيى سريع.
https://www.youtube.com/watch?v=4Jh7bGnpg6s
كما توعدت الجماعة بنقل المعركة إلى مستوى آخر، انطلاقًا من محافظة الجوف باتجاه الأراضي السعودية. لاسيما في جازان التي استهدفتها يوم الجمعة الماضي بصاروخ سقط على متاجر بمحافظة صامطة في منطقة جازان. وأسفر عن مقتل اثنين وإصابة سبعة آخرين بجروح.
هذا الإعلان جاء بعد ساعات من سيطرة الحوثيين على اثنين من أهم المناطق الاستراتيجية في الجوف. وهما اليتمة التي نجحت في السيطرة الكاملة عليها بعد قطع خطوط الإمداد القادمة من معسكر البقع على الحدود مع السعودية. وبعدها توجهت جنوبًا باتجاه معسكر الخنجر الاستراتيجي، الذي سيطرت عليه بفضل الحصار الذي فرضته على المرتفعات التي تحيط به.
ماذا تعني سيطرة الحوثيين الكاملة على الجوف؟
وفيما قال المتحدث الحوثي إن قواته سيطرت على كامل محافظة الجوف باستثناء مناطق صحراوية، قلل من أهميتها. لكن لم يوضح الموقف في ثلاثة من أهم المحاور الاستراتيجية، هي شمال اليتمة وشرقها وما بعد الخنجر. وفي حال سيطرة الحوثيين الكاملة على محافظة الجوف تكون واقع المعركة العسكرية، كالتالي:
المحور الأول: سيطرة قوات الحوثي على منطقة شمال اليتمة، المتمثلة في منفذ الخضراء ومعسكر البقع. وذلك تكون على الحدود السعودية مباشرة وأمامها كامل منطقة جازان. مع التحكم في الطريق الرئيسي القادم من الأراضي السعودية لوسط اليمن، ومعها تميل موازين القوى لصالح الجماعة بشكل كبير.
المحور الثاني: الاتجاه لما بعد معسكر الخنجر، المتمثل في جبال ومعسكر الريان. وهو ما يعني الوصول إلى منفذ الوديعة على الحدود مع السعودية أيضًا. وبذلك تكون أغلب المناطق الحدودية تحت سيطرة الحوثيين، بدءًا من صعدة إلى نهاية الحدود الجغرافية لمحافظة الجوف.
المحور الثالث: سيطرة قوات الحوثي على معسكر الرويك ومنطقة العلمين، وهو ما يعني قطع الطريق بين مأرب وحضرموت. ومعه تكون الجماعة قد عزلت مأرب عن أغلب الاتجاهات، بعدما سيطرت على البيضاء وبقية مناطق الحديدة. والآن الجوف وقطع الطريق الواصل مع حضرموت.
ما طبيعة مكاسب الحوثيين ميدانيًا؟
حققت جماعة أنصار الله مكاسب ميدانية خلال الفترة الأخيرة، تتمثل في:
– التقدم الميداني في الساحل بعد انسحاب القوات الحكومية من خمس مديريات حتى أطراف الخوخة.
– السيطرة على عدة مناطق في البيضاء وغرب تعز وشبوة وبمحيط مأرب، والضغط للوصول إلى منطقة السد.
– السيطرة على اليتمة والخنجر في محافظة الجوف.
– زيادة وتيرة الهجمات على الأراضي السعودية.
التحالف يهاجم صنعاء
ردًا على هجوم جازان الذي وقع الجمعة الماضي. شن التحالف الذي تقوده السعودية هجومًا عنيفًا على مواقع للحوثيين في صنعاء. وقالت الرياض إنها نقاط حساسة بينما وصفتها الجماعة بغير المهمة.
جاء ذلك بعد أسبوع من القصف السعودي المتواصل على مواقع عسكرية ومنصات إطلاق مسيرات مفخخة في صنعاء ومناطق متاخمة لها. لكن الجماعة تقول إن القصف يطال أهدافًا مدنية، لاسيما في محافظة المحويت (شمال غرب العاصمة صنعاء). كما لفتت إلى عدم وجود مخازن صواريخ باليستية أو مسيرات، وفقما قال التحالف.
وقال المتحدث باسم التحالف إن الحوثيين عززوا مواقعهم في محافظتي مأرب والجوف. وأطلقوا 430 صاروخًا باليستيًا و851 طائرة مسيرة مسلحة على أراضي المملكة منذ بدء الحرب في عام 2015. كما اتهم حزب الله اللبناني وخبراء إيرانيين بتدريب عناصر الحوثي وتحويل مطار صنعاء إلى قاعدة عسكرية لمهاجمة الأراضي السعودية.
ما وراء المتغيرات الميدانية
المتغيرات الحالية نقلت الحرب في اليمن إلى فصل جديد، يبدو حاسمًا في مستقبل الصراع، بشقيه العسكري والسياسي. على وقع تبدّل قواعد اللعبة مع تهديد متزايد من قوات الحوثي للمملكة العربية السعودية أو رد الأخيرة بهجمات مدمرة على مواقع عسكرية حساسة للجماعة.
لماذا نقلت السعودية المواجهات إلى صنعاء؟
المتابع للمجريات العسكرية يستغرب التركيز السعودي الأكبر لمواقع الحوثي في صنعاء وتخومها. وذلك لعدة أسباب، أهمها:
أولاً: انسحاب القوات المحسوبة على الحكومة اليمنية من جنوب الحديدة غيّر قواعد العملية العسكرية لصالح قوات الحوثي. التي بات الشريط الساحلي مفتوحًا أمامها دون أي تهديدات من القوات الحكومية. وهو ما يعني أن خطوط الإمدادات شهدت تزايدًا منذ ذلك الانسحاب، وهو ما أدى إلى تحقيق الجماعة انتصارات ميدانية في المناطق الأخرى التي تصلها الإمدادات من الحديدة وصنعاء.
ثانيًا: هناك تغيير في أولية الأهداف بالنسبة للتحالف، وهو يرتكز عسكريًا على تنفيذ هجمات جوية في اتجاهين. الأول تدمير مخازن الصواريخ والطائرات المسيرة سواء في صنعاء أو منطقة النهدين، والجزء الآخر من القصف الجوي على مناطق العمليات.
هذا التوجه جاء في أعقاب بروز تأثير الصواريخ الحوثية بشكل ملحوظ لدى الشارع السعودي. وهو ما فرض على الرياض إعادة برمجة أولويات الأهداف العسكرية لخفض وتيرة الهجمات الحوثية.
ثالثًا: تعتمد السعودية على سياسة ضرب القواعد الخلفية، وتدمير البنية العسكرية واللوجيستية للحوثيين. ذلك أن الحرب المباشرة في الجيوب الصحراوية بمناطق وسط البلاد، بدون تحجيم قدرات الحوثيين وتهديد خط الإمدادات. لاسيما في مطار صنعاء يعني أن الحرب ستحسم لصالح الجماعة التي تمتلك قدرات حرب العصابات، ودرايتها بدروب القتال.
أسباب المكاسب الحوثية الميدانية
ما بين تفكك جبهة القوات الحكومية، والخلاف السعودي الإماراتي، والانسحاب المفاجئ من جنبو الحديدة. التقطت جماعة الحوثي الحبل، في محاولة لخنق القوات الحكومية ميدانيًا، وهو ما تحقق في عدة جبهات بمأرب والجوف وتعز والبيضاء والحديدة.
جبهة الساحل.. ولغز الإمارات
في نوفمبر الماضي، فوجئ اليمنيون بانسحاب مربك للحسابات، بمغادرة القوات المشتركة التي يقودها طارق محمد عبدالله صالح، نقاطًا استراتيجية في جنوب الحديدة. وهو الانسحاب الذي اعتبر إخلاءً للمنطقة التي دخلتها قوات الحوثي وهي فارغة من أي تواجد عسكري للمنافس.
وقتها راج حديث عن صفقة إماراتية- إيرانية لإعادة توزيع النفوذ جغرافيًا في اليمن. باعتبار أن الحديدة شريان الحياة بالنسبة للحوثيين، فهي تمثل أهمية جغرافية وعسكرية واقتصادية، في الوسط بين المحافظات الشمالية، وغرب صنعاء. كما تضم المدينة ثاني أكبر ميناء في اليمن، ويعتبر البوابة الرئيسية على البحر الأحمر. ومن خلاله تتواصل الجماعة مع إيران عبر البحر، وتتلقى إمدادات السلاح، أو حتى الاحتياجات الغذائية.
وظهرت لاحقًا أهمية الحديدة ومينائها في مجريات الحرب، عبر تحقيق الجماعة تقدمًا على عدة جبهات على حساب القوات الحكومية. إذ إن السيطرة على الميناء يعني التحكم في مصادر الإمدادات بعموم البلاد. كما يستقبل الميناء حوالي 70% من الواردات التجارية، وشحنات الإغاثة القادمة إلى اليمن.
هكذا مثَّلت الحديدة نقطة فاصلة في انتصارات الحوثي بعدة محاور، بعدما بات الشريط الساحلي مفتوحًا على مصراعيه أمام عمليات الإمداد واستجلاب السلاح. بينما غاب الدور الإماراتي تماما في مناطق التماس مع القوات الحوثية في الشمال. وزاد الاحتكاك والصراع مع الطرف السعودي في الجنوب، لاسيما حضرموت التي تشهد اضطرابات منذ أيام بدفع من الإمارات.
ورقة البيضاء الرابحة
واحدة من الأسباب الرئيسية التي قادت إلى تحقيق الحوثيين هذه المكاسب تتمثل في السيطرة على مدينة البيضاء. وهو ما ساعد الجماعة على التقدم في محاور تجاه محافظة مأرب، إذ تشكل البيضاء بوابة رئيسية لـ مأرب الغنية بالنفط والغاز. والتي بدورها تشكل الجزء الواقع إلى أقصى شمال أخر مساحة تسيطر عليها الحكومة. وبالتالي فإن السيطرة عليها تعد نصراً حوثيًا يشجع على التقدم في جبهات أخرى.
مثَّلت السيطرة على البيضاء عنصرًا مهمًا في إطار قطع خطوط الإمداد التي تربط بين مختلف القوات المناوئة للحوثي. وتوسيع هجومهم على مأرب. كما أن البيضاء تحاذي أربع محافظة جنوبية هي أبين ولحج والضالع وشبوة. إضافة إلى محاذاتها أربع محافظات شمالية هي مأرب وإب وذمار وصنعاء.
تشرذم الخصوم
العامل الآخر الحاسم في المكتسبات التي حققتها جماعة أنصار الله تتمثل في تشرذم المكونات المناهضة للجماعة. وهو ما يحدث هذه الأيام في جنوب البلاد، إذ تتنازع الأطراف الموالية لكل من السعودية والإمارات على المناصب. وتدفع بتظاهرات شعبية مناوئة لبعضهما البعض، ووصلت الخلافات في عدة مرات إلى مواجهات مسحلة. كما حصل في المعارك التي دارت بين القوات الحكومية والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتياً في محافظتي عدن وأبين جنوبي البلاد.
.. وماذا بعد؟
الدفع باعتبار التطورات الميدانية الحالية مقدمة لعملية سياسية، يبدو قائمة ومنطقيًا، في ظل متغيرات إقليمية ودولية. لاسيما بين إيران وهي أحد المؤثرين في المشهد اليمني، والسعودية المؤثر والمتاثر أيضًا بالملف.
فرصة الحل السياسي:
يبدو واضحًا أن جماعة أنصار الله تسعى لتوظيف المكاسب الميدانية في إطار المفاوضات السياسية. في المقابل تحاول السعودية إجهاض هذه المساعي، وإنْ كانت تعيد التذكير بالحل السياسي هذه الأيام.
لذلك يمكن اعتبار ما يحدث “تصعيدًا مقابل تصعيد”، وإن كان موازيًا مع إشارات إلى العملية السياسية. بيد أن الرياض أبدت تململاً من الموقف الأمريكي الذي قالت إنه جاء مخيبًا لآمالها إزاء مقاربات الحل السياسي.
تضمنت تصريحات الساسة السعوديين أو اليمنيين الموالين للرياض مهاجمة الأمم المتحدة بدعوى منع سيطرة القوات الحكومية على الحديدة. وذلك باعتبار أن اتفاق ستوكهولم مكّن جماعة الحوثي من السيطرة على الميناء، وهو ما وفّر لهم الإمداد العسكري واللوجستي.
هذه التطورات جاءت مصاحبة لتعيين الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، الجنرال الأيرلندي المتقاعد مايكل بيري رئيسًا لبعثة الأمم المتحدة لدعم اتفاق الحديدة، ورئيسًا للجنة تنسيق إعادة الانتشار. وهو ما اعتبر دفعة نحو إحياء الاتفاق وإعادة رسم خطوط تماس يمكن معها بدء جولة حوار سياسي.
محددات التصعيد:
رغم ذلك، تبقى فرص استمرار الصعيد متاحة، وعلى ثلاث مستويات، هي:
– تصعيد في استخدام الطائرات والصواريخ البالستية من قبل جماعة الحوثي باتجاه الأراضي السعودية.
– زيادة الضغط على مأرب والوصول إلى سهل مأرب، مع زيادة قوات التحالف هجماتها على صنعاء ومراكز القوة العسكرية للجماعة.
– محاولة عناصر حوثية التسلل داخل العمق السعودي لتنفيذ عمليات نوعية ضد المصالح السعودية. وذلك بعد السيطرة على مناطق حدودية شاسعة فضلاً عن معابر رئيسية.