اعتادت مصر طوال تاريخها العتيق أن “تغير ولا تتغير”، ففشلت بريطانيا وفرنسا في التأثير على عاداتها وتقاليدها، لكن القاعدة كسرت في السنوات الأخيرة، تحت دعوى “الدين”، ليحدث انقلاب في المجتمع، يطيح بكل رموزه ويقضي على “هيبة” اكتسبتها من معارك خرجت “منتصرة” وحدها دون صديق.

“لحى طويلة وجلباب قصير، وسواك”، مظهر جديد، بدى منتشرًا في شوارع مصر، ينبئ عن ظهور “مسلمون جدد” أكثر تشددًا، في المجتمع، منكرين على المؤسسات الدينية “الأزهر والإفتاء والأوقاف” تاريخها وفتاويها، معتمدين على دعم مادي كبير، إنهم أنصار “التيار السلفي” في مصر.. ونستعرض تاريخه، وكيف تمكنت السعودية من إحداث تغيير في وجه مصر “الحضاري”، إلى وجه متشدد.

“بداية السلفية”

في سبعينيات القرن الماضي، وتحديدا مع بدء انفتاح الرئيس المصري حينها محمد أنور السادات، على التيار الديني، بدأ بزوغ ما يعرف باسم “التيار السلفي (الوهابي)” في مصر، رغم وجود تيارات سلفية ذائعة الصيت، مثل “الجمعية الشرعية”، وجماعة أنصار السنة المحمدية، وغيرها؛ إلا أنها كانت محصورة إلى حد كبير في مجتمع منفتح بعض الشيء، محافظ على صبغة دينية “خاصة” به، لا ينازعه إياها أحد.

 

التحول الديني في مصر، لم يكن وليد الفترة من 1972 إلى 1975، ولكن آثاره قديمة وتسبق حتى ميلاد أشهر شيوخ السلفية حاليا محمد بن عبد الوهاب، ولكن مع ظهور المذهب الوهابي، وبدعم سعودي مباشر خدمت الجمعيات القديمة “الدين الجديد”، فـ”الجمعية الشرعية”، كانت نافذة عبور المذهب السعودي الجديد، من خلال مساجدها التي بدأت تنتشر في ربوع مصر، حتى وصلت إلى أكثر من ألفي مسجد، وتجاوزت حاليا 6 آلاف مسجد، وآلاف الأئمة والوُعاظ.

 

اقرأ أيضا:

“ابن تيمية”.. مُفتَرى عليه أم مُفترِي علينا؟ (قراءة في فتاوى الإرهاب) (1-2)

 

أما جماعة أنصار السنة المحمدية، لمؤسسها الأزهري محمد حامد الفقي، فسعت هي أيضًا إلى نشر الفكر الوهابي ومؤلفات ابن تيمية وابن القيم، كما أصدرت مجلة “الهدي النبوي”، بدعم من عبد العزيز آل سعود، ليجد التيار الوهابي الجديد له في مصر موطئ قدم في المجتمع، خصوصا مع حروب الأزهر “المستمرة” مع تيار الحداثة حينها وتصديه لأفكار محمد عبده الداعية إلى التجديد، ورفاعة الطهطاوي، وعلي مبارك، والشيخ علي عبد الرازق، ولطفي السيد، وطه حسين، وانشغاله الدائم بمقاومتهم.

 

“خطيئة السادات”

هنا تحولت الدفة إلى مجموعة من طلاب كلية الطب في جامعة الإسكندرية، بدعم من الدولة حينها، والتي أرادت مواجهة تيار اليسار، حيث كانت قناعة السادات أن التيار الديني الأقدر على مواجهة اليسار داخل مصر.

السادات كان يعتبر التيار السلفي تيارًا “مستأنسا” لذلك سعى إلى الاستعانة به للعمل كبديل لتيار الإسلام السياسي في مصر، بحسب دراسة بعنوان “نقد الخطاب السلفي”، الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب عام 2017، للراحل الدكتور محمد حافظ دياب أستاذ علم الأنثروبولوجيا والباحث المتخصص في دراسة ظاهرة الإسلام السياسي في مصر.

“محمد إسماعيل المقدم، وأحمد فريد، وسعيد عبد العظيم، ومحمد عبد الفتاح أبو أدريس، وياسر برهامي وأحمد حطيبة”، أسماء لها مكانة كبيرة لدى أتباع التيار السلفي، فالبعض يسميهم المؤسسين الست للتيار السلفي، وتحديدا “السلفية العلمية” داخل جامعة الإسكندرية، مشيرين إلى أنهم جمعوا المئات حولهم حتى أصبحت الإسكندرية هي عاصمة السلفيين وقبلتهم في مصر.

 

“النشأة الجديدة”

خلال تلك الفترة بدأ التحالف بين إمام الوهابية محمد بن عبد الوهاب والأمير محمد بن سعود حاكم المملكة يؤتي ثماره، في تثبيت أركان الدولة الجديدة، ومن ثم البدء في غزو الدول المجاورة لنشر دعوتهم، ومواجهة إيران والتشيع لتقوى العلاقة بين آل سعود والمؤسسة الدينية أكثر بعد الثورة الإيرانية سنة 1979، مما ولد نزاعا حول الشرعية الدينية في المنطقة والعالم الإسلام، وجعل الرياض “عاصمة السلفية” في العالم العربي.

التوجه السعودي، لاقى قبولا عند قادة السلفية في الإسكندرية، ومن ثم بدأت المملكة انتشالهم وإغداقهم بالمال لصالح الخطة الجديدة، ليبدأ عملهم بشكل منظم عام 1980، من خلال ما يشبه باتحاد الدعاة وأطلقوا على أنفسهم اسم (المدرسة السلفية)، وقاموا بتأسيس معهد الفرقان لإعداد الدعاة في الإسكندرية عام 1986 كأول مدرسة إسلامية ذات توجه سلفي.

 

وبدأت الأمور تطور كثيرا، فبدأ انتشار مشايخ السلفية في القنوات الفضائية، من خلال الدعاة الذين تم إعدادهم في المملكة، ومن ثم وصل الأمر إلى إنشاء قنوات دينية تصدرها، شيوخهم مثل “محمد حسان ومحمد حسين يعقوب ومحمود المصري، وحازم شومان”، ليتمكنوا في النهاية من تكوين قاعدة جماهيرية لهم، بدعوى أنهم يسعون إلى تصحيح العقيدة، والنهى عن البدع والخرافات والاعتماد على كتب التراث، ومقولات الأئمة من أصحاب المذاهب والفقهاء (السلفية العلمية)، وبقيت محافظة على نهج الابتعاد عن السياسية.

النظام السياسي في مصر، لم يتمكن من ملاحظة التغيرات التي بدأت تظهر على المجتمع والصراعات الدينية، التي اندلعت بين التيار السلفي والأزهر، فعمد إلى ترك المجال لهم من خلال السماح لهم باعتلاء المنابر، وإلقاء الدروس، استنادا على أنهم بعيدون عن الحياة السياسية.

وخلال ذلك، تعددت فرقة السلفية، فمنها “المستقلون والحركية وأنصار السنة المحمدية والجمعية الشرعية والمداخلة والجهادية والدعوة السلفية”، ورغم ذلك إلا أنها بقيت محافظة على ترابطها عبر أشكال عدة، حيث يلتزمون بشكل الملابس واللحية وشعر الرأس والحجاب والنقاب، والدعوى إلى محاربة البدعة، والدعوة إلى الالتزام بالتراث.

“ثورة يناير”

ومع اندلاع أحداث ثورة 25 يناير 2011، غيرت الدعوة السلفية خطتها في مصر، محاولة إيجاد مكان لنفسها في الواقع المصري الجديد، لتبدأ أولى معاركها من خلال استفتاء التعديلات الدستور عام 2011، ومن ثم إنشاء حزب سياسي “حزب النور”، للمشاركة في الانتخابات البرلمانية، ليزيد الوضع سواء، مع قيام بعض المنتمين إلى التيار بقتل الشيخ الشعي حسن شحاتة، وشقيقه واثنين أخرين، في قرية زاوية أبو مسلم في مركز أبو النمرس في محافظة الجيزة بسبب انتمائهم المذهبي.

 وذكر باحثون في كتاب “السلفيون في مصر.. ما بعد الثورة”، أن الدعوة السلفية ظلت طيلة العقود الماضية تؤثر الدعوة إلى الله، وترفع شعار التصفية والتربية، وإن كان مما ميزها عن غيرها من التيارات السلفية التقليدية، اهتمامها بفقه الواقع، وتناولها الشأن السياسي بالتنظير والتحليل والتعليق، من خلال الدروس والمحاضرات لأعلامها، وكذلك الفتاوى والمقالات لأبرز منظريها: “ياسر برهامي، وعبد المنعم الشحات- المتحدث الرسمي للدعوة السلفية، بعد الثورة.

 

اقرأ أيضا:

من الاحتلال إلى “الوهابية”.. كيف تأثرت الهوية المصرية؟

 

التحولات السياسية مكنت الدعوة السلفية من استعراض قوتها بدعم سعودي، من الوصول إلى مجلس الشعب، حتى أنها حصلت على ثان أكبر كتلة برلمانية من خلال حزب النور عام 2012، مبينا مدى تأثيره في المجتمع، وعدد مؤيديه، لكن الوضع بدى غريبا حيث تحالف حزبها مع جبهة الإنقاذ التي شكلت لمعارضة الرئيس الإخواني محمد مرسي، ومن ثم إسقاطه في 30 يونيو 2013.

ومع الأحداث التي شهدتها مصر، وبدء انتشار العمليات الإرهابية، وتوجيه أصابع الاتهام إلى تيارات الإسلام السياسي، بدأت الدعوة السلفية تتراجع، لكن تأثيرها في المجتمع كان حاضرا بقوة، فبدأ العديد من فئات المجتمع ينكر على الأزهر الشريف ودار الإفتاء فتاويهما وآرائهما؛ متبنين رؤية السلفيين، لكن التغييرات الأخيرة في المملكة العربية السعودية التي أقرها ولي العهد محمد بن سلمان، دفعت الكثيرين إلى التساؤل عن مدى تأثير ذلك على “الدعوة السلفية” في العالم العربي ومصر تحديدا؟، وهل تصبح مصر عاصمة السلفيين بدلا عن السعودية؟!.