والبلاد التي يشير إليها العنوان أعلاه ليست بالطبع بلادنا التي دانت لها فرصة قبل 11 عاما. وتبعتها أخرى قبل 8 سنوات. وكما تبددت الأولى تبخرت الثانية لتلحقا بغيرهما من فرص لاحت لهذا الوطن ولم يكتب لأي منها أن تتحول إلى واقع ملموس ينقل مصر من مربع الاستبداد والفقر والتخلف إلى مربع الديمقراطية والتنمية والتقدم.
البلاد التي عليها “العين والقصد” هي جمهورية تشيلي. تلك الدولة اللاتينية التي تقع في غربي أمريكا الجنوبية. والتي نجحت في إجراء انتخابات رئاسية تعددية شارك فيها 7 منافسين. ووصل إلى جولتها الثانية المرشح اليميني خوسيه أنطونيو كاست والمرشح اليساري النائب جابريل بوريك. والذي حسم المعركة لصالحه ليصبح أصغر رئيس في تاريخ تشيلي. إذ لن يُكمل عامه الـ36 عند تنصيبه في مارس المقبل.
قبل ساعات من فتح صناديق اقتراع الجولة الثانية الأسبوع الماضي أصدرت اللجنة الدائمة لمجلس الأسقافة التشيليين بيانا بعنوان “فرصة جديدة للبلاد”. دعت فيها المرشحين المتنافسين “كاست” و”بوريك” إلى احترام سبل الحوار والاتفاق والعدالة والأخوة والقيم الديمقراطية. وذلك “من أجل مجتمع سياسي روحه المحبة الاجتماعية”.
وأشار الأساقفة في بيانهم إلى أنهم يتضرعون بالصلاة من أجل الرئيس الجديد أيا كان اسمه. وطالبوا بوقف حملات الاستقطاب السياسي والاهتمام بمعالجة القضايا الجوهرية التي تهم الشعب التشيلي، الذي حثته لجنة الأساقفة على النزول بكثافة لممارسة حقه في التصويت.. “آملين أن الاختيار سيكون في السعي وراء الخير العام الأكبر”.
الجولة الثانية من السباق الرئاسي، والتي شارك فيها 8.5 مليون ناخب بنسبة 56% ممن يحق لهم التصويت، وهي أعلى نسبة مشاركة بالانتخابات في تاريخ تشيلي، انتهت بفوز النائب اليساري بوريك بنسبة 56% من الأصوات. فيما حصل منافسه “كاست” على 44%.
عبّرت نتيجة تلك الانتخابات عن آمال الشعب التشيلي الذي ضاق ذرعا بالإرث الاقتصادي للجنرال أجستو بينوشيه، الذي انتزع حكم البلاد عام 1973 إثر انقلاب عسكري على الرئيس المدني المنتخب سلفادور أليندي، واستمر حكمه القمعي الدموي حتى عام 1988. في هذا العام رفض شعب تشيلي في استفتاء شعبي تمديد حكم بيونشيه لعشر سنوات أخرى. ما استدعى إجراء انتخابات رئاسية في العام التالي. ومنذ هذا الحين يتناوب مرشحو الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي على رئاسة البلاد. إلا أن سياسات بيونشيه “النيوليبرالية المتوحشة” التي جرى دسترتُها عام 1981 ظلت قائمة. ما أدى إلى اتساع الهوة بين طبقات الشعب التشيلي، فزادت معدلات الفقر واقتصر تقديم الخدمات التعليمية والصحية الآدمية على القلة التي تتحكم في ثروات البلاد، فتراكمت مشاعر الاحتقان حتى انفجرت احتجاجات اجتماعية واسعة في شوارع تشيلي قبل عامين، للمطالبة بإصلاح سياسات الأجور ونظام الرعاية الصحية غير الإنساني وبمنظومة التعليم القائمة على التمييز وبنظام المعاشات التقاعدي.. إلخ.
بوريك الذي تزعم وهو لا يزال طالبا في الجامعة عام 2006 احتجاجات عرفت بـ”ثورة البطاريق الطلابية”، شارك أيضا في مظاهرات الشعب التشيلي في 2019 ووقع بصفته نائب في البرلمان على وثيقة “اتفاق السلم الاجتماعي” التي على أسسها سيتم صياغة دستور جديد للبلاد يُصحح السياسات الاقتصادية والاجتماعية المتوارثة من عصر بيونشيه.
في تلك البلاد التي كانت تعد من إحدى “جمهوريات الموز”، عندما يكون هناك استحقاق انتخابي، يطرح المتنافسون على الهيئة الناخبة برامج انتخابية، يصفون فيها المشكلات والأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، ويقترحون الحلول، ويضعون جدولا زمنيا لتنفيذ تلك البرامج، حتى يستطيع الشعب من خلال ممثليه أن يسائلهم ويحاسبهم ويعزلهم إذا قصروا أو فشلوا في تنفيذ ما وعدوا به.
بوريك الذي حسم المعركة الرئاسية الأخيرة كنتيجة للتفاعلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي مرت ببلاده خلال العقود الأخيرة، تعهد في برنامجه الانتخابي بالعمل على إقامة نظام تأمين صحي شامل، وإصلاح نظام التعاقد مع الموظفين ورفع الحد الأدنى للأجور وإلغاء ديون الطلاب وتحسين المنظومة التعليمية وتقصير عدد ساعات العمل في الأسبوع وفرض ضرائب تصاعدية على الشركات الضخمة والأفراد الأثرياء.
وكغيره من ممثلي اليسار في أمريكا الجنوبية، يدعم الرئيس التشيلي المنتخب القضية الفلسطينية ويجاهر بعدائه إلى دولة الاحتلال الإسرئيلي. فخلال لقاء له مع الجالية اليهودية في تشيلي، وصف بوريك إسرائيل بـ”الدولة السفاحة”، وفي مقابلة تليفزيونية وصفها بأنها “دولة إبادة إجرامية” وقال: “يجب أن ندافع عن حقوق الإنسان مهما كانت قوة الدول”.
وعلى غرار ما يحدث في البلاد التي ترسخت بها قواعد الديمقراطية، وبعد إعلان نتائج الجولة الثانية من الانتخابات، هنأ المرشح الانتخابي الخاسر كاست منافسه بـ”انتصاره العظيم”، ووعد بدعمه والتعاون معه، كما حث الرئيس المنتهية ولايته سيباستيان بينيرا خلفه أن يكون رئيسا لكل التشيليين. أما بوريك نفسه فتعهد في كلمة له أمام حشد من مؤيديه بالانتصار للديمقراطية، ووعد بفرض قيود على النموذج الاقتصادي النيوليبرالي في بلاده، مؤكدا أن المواطن العادي سيكون بطل الرواية في حكومته.
القصة في تشيلي لم تنته بعد. وما جرى خلال الأيام الماضية حلقة في حلقات نضال شعب اكتوى بنار الاستبداد والديكتاتورية والفقر والتمييز لعقود طويلة، فسعى ولا يزال إلى تثبيت أركان دولة الديمقراطية والكفاية والعدالة والمساواة.
استدعاء قصة الانتخابات الرئاسية في جمهورية تشيلي، والمحاولات المتكررة لشعبها بإعادة ضبط بوصلة بلاده في الاتجاه الذي يحقق طموحاتهم وأحلامهم، هو في الحقيقة حالة من حالات الرثاء على ما جرى ويجري في بلادنا التي خرج الملايين فيها مرتين خلال العقد الماضي للمطالبة بتأسيس دولة الحرية والكرامة والعدالة، وللاحتجاج على الاستبداد وسياسات التهميش واحتكار السلطة بانتخابات ديكورية معلبة حُسمت جميعها لصالح مراكز القوى داخل دائرة الحكم، فإذ به يجد نفسه يدور في حلقة مفرغة ليعود إلى ذات المحطة التي سبقت ثورته، ليقف أمام نسخة جديدة منقحة تتطابق مع ما سبقها من نُسخ في السياسات والتوجهات والقواعد.
نموذج الانتخابات الشكلية المعلبة الذي أُعيد اعتماده مجددا في السنوات الأخيرة، تم تعميمه على كل المنافسات في بلادنا، ليشمل النقابات والأندية والاتحادات الرياضية بعد أن كان قاصرا على الانتخابات الرئاسية والبرلمانية والمحلية، والهدف ألا تسعى الجماهير إلى محاكاة النموذج الديمقراطي الذي كان يُطبق في تلك الهيئات والمؤسسات في الاستحقاقات ذات الطابع السياسي.
تحولت معادلة المرشح الأوحد الذي ينافسه “كومبارس” إلى قاعدة تسري على كل الانتخابات في بلادنا، لا يطرح أبطال تلك العروض أي برامج انتخابية ولا يقدمون أي تصورات لحل الأزمات والمشكلات قبل وصولهم إلى مواقعهم، لأنهم يعلمون أن قواعد المساءلة والمحاسبة المتعارف عليها في الدول الديمقراطية لن تسري عليهم، فالزعماء الذين تناوبوا حكم بلادنا ولم ينزعهم عن مقاعدهم سوى الموت أو الثورة، لا يسألون عما يفعلون، بتعبير الشيخ محمد متولي الشعراوي وهو يدافع عن الرئيس الراحل أنور السادت تحت قبة البرلمان نهاية سبعينيات القرن الماضي، مستنكرا هجوم بعض النواب لرئيس الدولة، فقال لهم: “والذى نفسى بيده، لو كان لي في الأمر شيء لحكمت للرجل الذي رفعنا تلك الرفعة وانتشلنا إلى القمة ألا يُسأل عما يفعل”.
لن تضع بلادنا أقدامها على طريق الدول المتقدمة إلا بعد أن ندمر هذا الإرث، ونشرع في تأسيس حياة سياسية ديمقراطية سليمة، بتحويل كل ما تحمله تلك العبارة إلى إجراءات وممارسات، تبدأ بإيمان كل الأطراف أن الشعب وحده هو صاحب الولاية والسيادة، له الحق في أن يختار ويسائل ويحاسب ويعزل، وأن المنافسة السياسة حق لكل من يملك رؤية وبرنامج قادر على تنفيذه، وما يترتب على ذلك من وجود أحزاب سياسية قوية ومنظمات مجتمع مدني مستقلة، مرورا بحياد مؤسسات الدولة وأجهزتها وإعلامها في أي استحقاق انتخابي، واحترام كل الأطراف للدستور والقانون، وصولا إلى اقتناع كل من يصل إلى موقعه عبر الصناديق أنه سيرحل عبر تلك الصناديق ولن يؤبد في السلطة إلى آخر نفس.
مهما كانت الإنجازات والمشروعات التي تتحقق على أرض الواقع، فبلادنا لن ترتقي وتصل إلى وصلت إليه دول غرب الأطلنطي أو شمال المتوسط التي يغرق أبناؤنا وهم يحاولون العبور إليها، إلا بالشروع في بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، تلك هي الفرصة الحقيقية لبلادنا.