يتعرض زائر رواندا لصدمة حضارية بمجرد نزوله بمطار “كيجالي”، تتلاشي من عقله خيالات رسمها لساعات السفر الطويل حول سكان تقليديين يرتدون ملابس مزركشة يعيشون حياة تقليدية، بمجرد أن يطالبه موظفو المطار بالتعليمات البيئية، التي يجب أن يتبعها، والتي منها “التخلص من أي منتجات بلاستيكية قبل الخروج”.

لم تتخيل أي مؤسسة عالمية قبل ربع قرن أن دولة رواندا التي لا تتجاوز مساحتها  26.3 ألف كيلو متر وطحنتها حرب أهلية لمدة أربعة أعوام بين قبيلتي “الهوتو” و”التوتسي”، قتل فيها مليون شخص أن تتعافى سريعًا، لكنها نجحت في غضون أعوام قليلة أن تضمد جراحها وتنطلق للأمام.

دمرت الحرب الأهلية الاقتصاد الرواندي ودفعت المستثمرين الأجانب والمحليين للهروب إلى الدول المجاورة، وشاع التعطل والفقر ونقص الإمدادات الغذائية، حتى وصل نصيب الفرد من الناتج المحلي حينها إلى 2.5 دولار شهريًا.

 

لكن الدولة الحبيسة، التي لا تمتلك منفذًا بحريًا يساعدها على التصدير، حققت معدل نمو عند 9.4% في 2019، مقابل 8.6% في 2018، و4% فقط في 2017، لتكون الدولة الوحيدة التي تضاعف ناتجها المحلي خلال عامين فقط، وفق أرقام المعهد الوطني للإحصاءات.

يأتي النمو الكبير للدولة التي يبلغ عدد سكانها 12.4 مليون نسمة، بفضل أداء قوي لقطاعات متنوعة أهمها الخدمات والصناعة والتجارة، فالزراعة تساهم بنسبة 28% بالناتج المحلي الإجمالي، مقابل 48% لقطاع الخدمات.

معدل النمو

تستهدف رواندا تسجيل معدل نمو يبلغ 8.2% خلال العام الحالي 2020 بصرف النظر عن جائحة كورونا، بعدما سجلت في الربع الأول 3.6%، وبلغ الناتج المحلي 9.4 مليار دولار في 2018 مقابل 4.9 مليار في 2008.

يقول صندوق النقد الدولي إن النمو الاقتصادي برواندا مازال قويًا في وقت يشهد فيه الاقتصاد العالمي تباطؤاً بفضل تنويع الصادرات والاستثمار، والزراعة الأكثر مرونة بسبب الري واسع النطاق.

 

اقرأ أيضا:

كينيا تنتج المواهب ..وأمريكا تحصد نجاحها

 

ترجع النهضة التي حققتها رواندا إلى تبني أفكار خارج الصندوق و”الانفتاح” في عهد أول الحكومات التي تولت المسئولية حينما وضعت الحرب أوزارها، فاستقطبت الخبراء الأجانب وأنشأت شبكة للمعلومات الزراعية، ومكتباً للتصدير ونقل المحاصيل في ظل صعوبتها في دولة تتسم بطبيعة جبلية.

وتبنت الحكومة سياسات لدعم المزارعين فوفرت التقاوي والمبيدات والأسمدة بأسعار رخيصة وأجرت ماكينات الحرث بأسعار شبه مجانية، بجانب قروض مخفضة الفائدة للزراعة التي يعمل بها أكثر من 70% من السكان، ما رفع إنتاج القهوة من 30 ألف طن عام 1994، إلى 15 مليون طن عام 1999.

 

كانت رواندا من أوائل الدول الإفريقية التي وضعت تشريعا للاستثمار يتضمن نافذة الشباك الواحد لإنهاء جميع الأوراق المطلوبة من المستثمر خلال ساعات قليلة، ويمكن التدليل على ريادتها في تلك النقطة، بالمقارنة بمصر التي استحدثت الشباك الواحد ضمن القانون رقم 17 لسنة 2015.

تقدم رواندا العديد من الامتيازات في مجال الاستثمار في مقدمتها صفر ضريبة على الدخل للشركات التي تخطط لنقل مقرها الرئيسي لها، و15% على ضريبة الدخل للشركات التي تعمل في قطاع الطاقة والنقل والإسكان وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والخدمات المالية.

تعفي رواندا الشركات من ضريبة الدخل لمدة 7 سنوات للمشاريع الكبيرة في القطاعات الاستراتيجية مثل الطاقة والصادرات والسياحة والصحة والصناعة وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، مع إمكانية التسجيل عبر الإنترنت لمن يرغب في الاستثمار أو التجارة، والمساعدة في توصيل خدمات المياه والكهرباء.

 

اقرأ أيضا:

الأمن الغذائي لمليون شخص في إثيوبيا في خطر بسبب أسراب الجراد الصحراوي

 

أسست رواندا مجلسًا استشاريًا للاستثمار والتطوير وألغت التأشيرة للأجانب الزائرين أيًا كانت جنسياتهم وأصبحت حاليًا من أكثر الدول استقبالاً للسياح الأجانب بفضل سهولة إجراءاتها وطقسها البارد النابع من كونها مجموعة تلال كبيرة تعلو سطح البحر بما يقترب من 3 كيلو مترات.

خلال الـ 15 عامًا الماضية تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي 30 ضعفًا وتراجع معدل الفقر من 60% إلى 39%، والأمية من 50% إلى 25%، وارتفع متوسط حياة الفرد (معيار أساسي على الرفاهية) من 48 عاماً إلى 64 عامًا.

لا ينكر أحد أن الاهتمام بالتعليم والصحة كان عنصرًا أساسيًا في النمو برواندا التي تنفق حاليًا 20% من مصروفات ميزانيتها الإجمالية على التعليم بقرابة (494 مليون دولار) بعدما كان التعليم في التسعينيات يقوم على أُسُس عرقية أدت إلى حصول 66 روانديًا فقط على التعليم الجامعي سنويًا (2000 شخص في 30 عامًا)، واهتمت رواندا بإنشاء نظام رعاية صحية يغطي 90 في المائة من السكان، بتمويل من عائدات الضرائب والمساعدات الخارجية والأقساط التطوعية التي يتم قياسها بالدخل.

 

قطاع السياحة

تمثل السياحة نحو 43% من الدخل القومي للبلاد رغم افتقارها لعناصر الجذب سوى الحياة البرية ونحو 1000 غوريلا نادرة في الغابات المطيرة، لكنها تهتم بصورة منقطعة النظير بالجانب البيئي فيحظر استخدام البلاستيك تمامًا حتى أصبحت عاصمتها الأكثر نظافة في القارة.

يقول المهندس شريف الجبالي، رئيس لجنة التعاون الإفريقي في اتحاد الصناعات المصرية، لـ”360″، إن رواندا من أفضل الدول الإفريقية من ناحية النمو والشفافية والأعمال، وأصبحت دولة متطورة في نظام المعلومات والاتصال الرقمي بجانب البنية الأساسية الجيدة التي تساهم في جذب الاستثمارات لها.

ويضيف “الجبالي” أن التطور الذي شهدته رواندا دفع البنك الدولي لوضعها في المرتبة 29 عالميًا من أصل 190 اقتصادًا، في تقرير سهولة ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2019، لتحتل المرتبة الثانية في أفريقيا.

 

أقرأ أيضا:

ملامح النزاع تتصاعد.. إثيوبيا ترفض الموقف الأمريكي وتلجأ لجنوب إفريقيا

 

في خضم أزمة كورونا الحالية تتولى الروبوتات، التي تعتبرها البلاد أحد عناصر التنمية الوطنية، القيام بمهام صحية في المستشفيات كقياس درجة الحرارة والتعقيم لمنع تفشي الوباء بين الأطقم الطبية، رغم تسجليها 355 إصابة مؤكدة بـ”كورونا” فقط.

ومن المقرر أن تصبح رواندا أول دولة في العالم لديها خدمة رعاية أولية عالمية شاملة رقمية، لدعم التحول الذي تشهده نحو تطبيق الابتكارات الصحية الرقمية لصالح مواطنيها بالتعاون مع شركة الاستشارات عن بعد “بابليون هيلث”.

ويتجاوز انتشار الهواتف المحمولة نسبة 75٪ بين السكان في رواندا حاليًا رغم انتشار سكانها في المناطق الريفية مع تضاريس صعبة للغاية، في دولة معروفة عالميا بلقب بلد “الألف تل”.

وقالت منظمة الشفافية الدولية، في تقريرها عن “مدركات الفساد 2018″، أن رواندا جاءت في المرتبة الرابعة إفريقيا، كأكثر بلدان القارة محاربة للفساد والمحسوبية، والمرتبة 48 عالميًا متفوقة على بلدان مثل إيطاليا وكرواتيا وماليزيا ورومانيا، بسبب تشريعات ترفض التسامح تماماً إزاء الكسب غير المشروع التي وأدت تمامًا رشاوي الجهات العامة.