عندما تتوحش الرأسمالية فتتاجر بهموم البشر وكوارث ومصائب العالم لتربح هي حتى لو خسرنا الحياة ذاتها، وعندما تسود “التفاهة” ويشيع الإسفاف ويتوه كل ما هو جاد في ظلام اللهث وراء “التريند”. وعندما يتمسك كل مسئول “بكرسيه” الفخم ولا يهتم إلا بحزبه ورجاله، حتى لو جاء ذلك على حساب أرواح الملايين من الناس. وعندما يتوه العلم والعقل وسط ضجة من “الشعبوية” ومن يحركونها. وعندما يمنع كل صاحب سطوة أو سلطة البسطاء من النظر إلى واقعهم عبر إعلام يغيّب العقول ويحجب البصر والبصيرة. هنا نكون أمام فيلم يحمل رسالة إنسانية مدهشة، تأتي في ظرف زمني دقيق وفارق نحياه جميعًا الآن..
“لا تنظروا إلى السماء Don’t Look Up” فيلم ليوناردو دي كابريو وميريل ستريب، الذي تعرضه الآن منصة “نتفليكس” هو تجسيد صغير وواقعي لمشكلات الإنسان في لحظة فارقة. الفيلم الذي تدور أحداثه داخل الولايات المتحدة الأمريكية، يمكن ببساطة أن تنقل وقائعه وحكاياته إلى أي دولة على كوكب الأرض؛ فمشكلة الإنسان في زماننا واحدة، تختلف باختلاف التفاصيل أحيانًا، وتستفحل في مكان أكثر من الآخر، لكنها تبقى مشكلات إنسانية: رغبة الإنسان في أن يعيش بأمان وحرية، وينتصر للعلم والعقل، في مواجهة قوى تسحق إنسانيته، وتحاصر العلم والعقل لتزيد من أرباحها وأرصدتها في البنوك، وتضاعف من نفوذها وقوتها في المجتمع..
قبل أن ينتهي الكوكب المهدد “بمذنب” سيصطدم به خلال بضعة أشهر، كان الجميع يلهث وراء مصالحه ونفوذه، كانت رئيسة الدولة، حسب الفيلم، مشغولة بحزبها الذي سيخسر الانتخابات، وبرعبها من خسارة السلطة والسطوة. وهنا يصبح إخفاء الخبر الذي يهدد الكوكب بأكمله هو الأفضل حتى لا تخسر الانتخابات! تفكير “شيطاني” يتنافى مع أبسط القيم الأخلاقية والإنسانية، بلا مقدمات معقدة يضعنا الفيلم في مواجهة مع هؤلاء المتمسكين بالسلطة على حساب أمن الناس ومستقبلهم؛ فالسلطة تسلب المسئولين -أحيانًا- العقول، والأخلاق والإنسانية، ويصبح الانتصار في معركة سياسية أهم من كارثة تهدد الأرض وساكنيها..
هذا التمسك بالسلطة على حساب الملايين لابد أن يقابله ويتوازى معه إعلام تافه، غارق تمامًا في السطحية وفي تغييب العقول وفي قصص الزواج والطلاق وانفصال الفنانين، ويتحول الإعلامي -حسب الفيلم- إلى تاجر يبيع الوهم والجهل للناس على حساب كل ما هو جاد ومصيري، فلم يجد عالم الفلك “دي كابريو” مشاركة من الإعلام في رسالته وتحذيره من المذنب الذي سيدمر الحياة الإنسانية، ولم يدافع عنه أو يتضامن معه البرنامج الشهير الذي يتابعه الملايين، ولا تبنى حقه في إطلاع الناس على المصيبة المقبلة، واكتفى الإعلاميون بالسخرية منه ومن زميلته وتحويل كلامهم الجاد إلى ضحك واستهزاء و”تهريج”..
على نفس الدرب كانت الرأسمالية المتوحشة تفتش عن تحقيق أكبر استفادة من المصيبة المقبلة، وتنجح بنفوذها وتمويلها لحملات الرئيسة الانتخابية، في تغيير خطة مواجهة المذنب، لتتم الاستفادة من المعادن التي سيوفرها لأمريكا بعد اصطدامه بالأرض! ببساطة غير طبيعية يكشف الفيلم كيف تفكر هذه القوى التي تتحكم في ثروات ومصائر الشعوب، والتي لا تبحث إلا عن استفادتها المادية، ولا تحكمها أي معايير أخلاقية؛ ففناء الأرض ومن عليها لا يشغلها بقدر التفكير في جني الأرباح وتحقيق الثراء!
ولأن كل هذه القوى منعدمة الضمير تحارب حتى تحجب “الشمس”، وحتى تستمر في تسلطها، يصل بها الأمر لإطلاق حملة “لا تنظروا للسماء”، وذلك بعد أن ظهر المذنب جليًا في السماء، وبعد أن حاول عالم الفلك وزميلته لفت أنظار الناس لوجوده أمام أعينهم. هنا تنظم السلطة السياسية والرأسمالية المتحالفة معها حملات كبيرة لمنع الناس من النظر إلى السماء، ولتهديد العالم وزميلته واتهامهم بالجنون. وفي هذه الحملة تشارك وسائل التواصل الاجتماعي بدور كبير في ترسيخ السخرية والتفاهة، ونشر كل ما هو هزلي ولا يليق بالحدث أو نتائجه الكارثية!
في زماننا اليوم -حسب “لا تنظروا إلى السماء Don’t Look Up”- حدث تحالف كارثي قد يفني العالم، تحالف حقير بين قوى متصارعة لا تفكر إلا في سلطتها وسطوتها وكراسيها، ورأسمالية متوحشة انفلتت من أي قيد ضميري أو أخلاقي. هذا التحالف في محاولاته للاستخواذ على كل شيء كان لابد له من السيطرة على الإعلام الجاد والمهني وتحويله إلى إعلام يغرق في السطحية وتغييب العقول، وسوشيال ميديا ضلت الطريق وسارت على نفس درب التفاهة.
نهاية الفيلم الصادمة تعلن الرسالة بكل بساطة للجميع: إذا استمر هذا التحالف المرعب فإنه سيكون البداية لتدمير العالم، بعد أن قرر فتح الباب للمذنب المخيف عبر حصار العلم والعقل، وإرباك العالم بصراعات وهواجس وأكاذيب، وبعد أن تجرد من كل ما هو إنساني وعادل، واستمر في عنده وتسلطه حتى جاء المذنب ليضرب الأرض وينهي حياة البشر!
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا