أصبحت المناسبات والأعياد مرادفا لفكرة الاستهلاك وشراء كل ما هو زائد على الحاجة. لذا كثيرا ما صار البشر في نظر المنتج “مستهلكين” وفرصة للتوسع في الأسواق. ومع تلك النظرة تعمقت غرائز كحب الامتلاك والتطلع ومظاهر البذخ واللا مساواة الفجة.
تقول الكاتبة والمتخصصة في أبحاث البيئة كيرين هيجز: “تبلورت فكرة البشر كمستهلكين لأول مرة قبل الحرب العالمية الأولى. لكنها صارت شائعة خلال عشرينيات القرن الماضي. وكثيرًا ما تم النظر إلى الاستهلاك الآن على أنه دورنا الرئيسي في العالم”.
بالطبع كان الناس دائمًا “يستهلكون” ضروريات الحياة -الطعام والمأوى والملبس. وكان عليهم دائمًا العمل للحصول عليها أو جعل الآخرين يعملون من أجلهم. ولكن لم يكن هناك دافع اقتصادي كبير لزيادة الاستهلاك بين الجمهور قبل القرن العشرين بحسب “هيجز”.
ولكن شهد القرن العشرين والحادي والعشرين متاجر ضخمة متعددة الطوابق تغطي ملايين الأفدنة من مساحات البيع. إذ كانت تجارة التجزئة تنتقل بالفعل بشكل حاسم من أصحاب المتاجر الصغيرة إلى الشركات العملاقة. تلك التي تمكنت من الوصول إلى المصرفيين الاستثماريين وتعتمد على إنتاج خط التجميع للسلع المدعومة بالوقود غير الداعم للبيئة.
أما الهدف التقليدي المتمثل في صنع المنتجات لفائدتها الواضحة فقد تم استبداله بهدف الربح والحاجة إلى آلية الإغراء.
الاستهلاك و”عبادة” الجديد
كانت السمات الأساسية لهذه الثقافة هي الاكتساب والاستهلاك كوسيلة لتحقيق السعادة. إذ نشر قيم مثل “عبادة الجديد” ودمقرطة الرغبة والمادة بشكل عام. وذلك باعتبارها المقياس السائد لكل قيمة في المجتمع. وفي هذا كتب المؤرخ ويليام ليتش في كتابه الصادر عام 1993 بعنوان “أرض الرغبة: التجار والسلطة وصعود ثقافة أمريكية جديدة”. فبشكل ملحوظ كانت الرغبة الفردية هي التي تم إضفاء الطابع الديمقراطي عليها وليس الثروة أو القوة.
وفي مصر نطالع أرقاما استهلاكية ضخمة. مثل إشارة الإحصاءات إلى أن المصريين أنفقوا أكثر من أربعة مليارات دولار على استيراد “ورق العنب” ولحم الطاووس والكافيار والجمبري والاستاكوزا. فضلا عن إنفاق الملايين على استيراد “آيس كريم من الأنواع الفاخرة”.
أما السلع الترفيهية المعمرة وغير المعمرة فأنفق فيها المصريون ما يقرب من ستة مليارات دولار. ونحو أربعة مليارات دولار على استيراد أجهزة الهاتف المحمول.
الاستهلاك واللا مساواة
وفقا لتقارير منظمة “فاو” الدولية فخلال العام الماضي استهلك المصريين 400 ألف طن لحوم خلال عيد الأضحى المبارك. وذلك بكلفة نحو 5.4 مليار جنيه. حيث إن معدل استهلاك مصر من اللحوم الحمراء بلغ 900 ألف طن سنويا في متوسط العام. موزعة ما بين 430 ألف طن مستوردة و470 ألف طن منتجة محليا.
وتبلغ حصة الفرد في العالم العربي نحو 25 كيلوجراماً في السنة. وبالمقارنة فإنه يمثل هذا الاستهلاك ضعف حصة الشخص في أفريقيا. حيث يبلغ المعدل 12.4 كجم وهو أدنى استهلاك لمنطقة محددة في العالم. كما أن الدول الخليجية إلى جانب لبنان والأردن تستهلك اللحوم بكميات تفوق المعدل العالمي. وقد تجاوز استهلاك الكويت والسعودية خلال سنوات محددة أكثر من 100 كجر للشخص في السنة. أما الدول الأقل دخلاً بالإضافة إلى العراق والجزائر فيتراوح الاستهلاك السنوي للفرد فيها بين 20 و30 كجم سنويا.
الأسر وحجم الاستهلاك والظلم الاجتماعي
وجميعها أرقام على ضخامتها ليست دقيقة نسبيا. حيث يختلف هذا الرقم من طبقة لأخرى حتى في الدولة ذاتها. فالاستهلاك والبذخ يصاحبهما مظاهر لا نهائية من اللا مساواة. حيث تحظى الطبقات العليا بالنصيب الأكبر. كما أن حجم الاستهلاك يختلف في ضغطه على الميزانية من أسرة لأخرى اعتمادا على مستوى الدخول.
وبحسب الباحثة الاقتصادية سلمى حسين في مقال لها فإن “مصر تقع في مصاف الدول ذات مستوى مرتفع من اللا مساواة. حيث تحوز شريحة 10٪ الأغنى على 91٪ من إجمالي الثروات في المجتمع. ويحوز 1٪ الأعلى دخلا على 19% من إجمالي الدخول”.
وكشف تقرير تضمنه بحث الدخل والإنفاق الذي أجراه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. وذلك عن الفترة من 2019-2020. أن معدلات الفقر على مدار 21 عاما منذ 1999 حتى 2020 استمرت في الارتفاع التدريجي. ولم تنخفض وتتراجع لتنكسر مرة أخرى إلا في 2020 فقط. وهو ما رصده بحث الدخل والإنفاق الذي يجريه الجهاز كل عامين.
وسجلت معدلات الفقر في الحضر 24.5% عام 2018 مقابل 22.9% في 2020. وفي الريف 38.39% مقابل 34.78%. أما في المحافظات الحضرية سجلت معدلات الفقر 26.73% مقابل 25.39%. وسجلت في حضر الوجه البحري 14.31% مقابل 11.16%. أما في ريف الوجه البحري سجلت معدلات الفقر 27.29% مقابل 22.56%. وسجلت في حضر الوجه القبلي 30.02% مقابل 28.96%. وفي ريف الوجه القبلي سجلت 51.94% مقابل 48.15%.
مولد المجتمع الاستهلاكي
وتنعكس مسألة الدخول واللا مساواة على طبيعة الاستهلاك. وهو أمر تاريخي عالمي يوضحه المؤرخون نيل ماكيندريك وجون بروير وجيه إتش بلمب في كتابهم المهم “مولد المجتمع الاستهلاكي”. وشكل السوق في إنجلترا في القرن الثامن عشر. وذلك عندما امتد السعي وراء البذخ والعرض لأول مرة إلى جميع المستهلكين وليس حصرا على الأثرياء فقط.
ويقول المؤرخون في الكتاب: “في حين أن الأشخاص الأكثر فقرًا قد يكونون قد حصلوا على عدد قليل جدًا من الأدوات المنزلية المفيدة مثل المقلاة. فإن الملابس الفاخرة والأثاث والفخار في ذلك العصر ظلت محصورة في عدد قليل جدًا من السكان”.
وفي أواخر القرن التاسع عشر في بريطانيا، أصبحت مجموعة متنوعة من الأطعمة في متناول الشخص العادي الذي كان يعيش سابقا على الخبز والبطاطس. استهلاك يتجاوز مجرد الكفاف. ومع ذلك فإن هذا التحسن في تنوع الأغذية لم يمد العناصر المعمرة إلى جمهور الناس من محدودي الدخل”.. إذ كانت المتاجر المنتشرة في تلك الفترة تخدم فقط عددًا محدودًا من السكان من الطبقة المتوسطة في المناطق الحضرية بأوروبا.
الاستهلاك وقضية البيئة
كان التحرر من مخاطر المجاعة والمجاعة المبكرة -خصوصا بعد الحرب العالمية الأولى- مناسبة لزيادة الإنتاج في العالم. فمثلا كان إنتاج الولايات المتحدة عام 1920 أكبر 12 مرة مما كان عليه في عام 1860. بينما زاد عدد السكان خلال الفترة نفسها بمقدار ثلاثة أضعاف فقط. مما يشير إلى مقدار الثروة الإضافية المتاحة نظريًا.
ووفقا للباحثة كيرين هيجز: “أدت النضالات العمالية في القرن التاسع عشر دون تعريض الإنتاجية المتزايدة للخطر. إلى تخفيض يوم العمل ورفع مستوى دخل العمال. كما نجح النمو الاقتصادي في توفير الأمن الأساسي للغالبية العظمى من السكان”.
وفي ظل هذه الظروف. حيث يتوفر اقتصاد مستقر قادر على تلبية الاحتياجات الأساسية للجميع. والذي تنبأ به الفيلسوف والاقتصادي السياسي جون ستيوارت مل. فمن المرجح أن يكون علينا تحسين ظروف العمل. حيث سيكون من المُجدي تقليل ساعات العمل أكثر وإطلاق سراح العمال للقيام بأنشطة ترفيهية مع العائلات والمجتمعات.
فتحسن ظروف السكان وزيادة الإنتاج كان أمرا لازما لتسويق المنتجات التي خلقها السوق الرأسمالية المتضخمة إنتاجيا. مع تجاهل هؤلاء الاقتصاديين للقضية البيئية التي لازمت حُمى الإنتاج -وبطبيعة الحال الاستهلاك.
الطاقة واستهلاك البشر والبيئة
خلال العامين الماضيين حذرت تقارير الأمم المتحدة من أن الاستخدام المفرط للطاقة الحيوية يهدد التنوُّع البيولوجي ويسبب التصحُّر. ما قد ينعكس على ارتفاع أسعار المواد الغذائية.
وأفاد التقرير أن النمو السكاني المتزايد وتغيُّر أنماط الاستهلاك البشري تَسَبَّبا في معدلات غير مسبوقة من استنزاف الأراضي والمياه. خاصةً في الدول النامية. كما أن تناوُل كميات أقل من اللحوم وزراعة أعداد أكبر من الأشجار سيقلل انبعاثات الكربون وتحسين الصحة العامة.
وتُسهم عمليات إنتاج الغذاء والأعلاف الحيوانية وصناعة الألياف التي تُستخدم في أغراض مختلفة كإنتاج الملابس- في تغير المناخ. إذ سبّبت الأنشطة الزراعية قرابة ربع انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ويتسبب إنتاج الملابس والأحذية في 8% من تلك الانبعاثات. وهناك توقعات بأن يصل هذا الرقم إلى 50% تقريبًا بحلول 2030.
وتُعد مصر من البلدان ذات الكثافة العالية من السكان. وذلك نسبة للأراضي الصالحة للزراعة وكذلك فقر المياه. وعليه تمثل الأنماط الاستهلاكية خاصة لمرتفعي الدخل تحديا وضغطا على مستوى النمو وكذلك معدلات اللا مساواة.