الموت مصيبة، تفاقم الغربة وقعها صدمة في نفس من فقد غاليًا خارج بلاده. وهكذا كان حال “عزة” حين تلقت نبأ وفاة زوجها العامل في دولة إيطاليا. أوصاها في آخر زيارة أن يدفن مع أبيه. وهو ما لم تكن تقدر على تحمله لولا تدخل أحد المراكز الإسلامية هناك بجمع تبرعات أمنت مصاريف إعادة جثمان الزوج المغترب. سرعة التحرك التي استلزمها الوضع حينها جنبت الأسرة الغوص في بيروقراطية الإجراءات المصرية المفروضة شرطًا لتحمل قيمة نقل، قد تتجاوز في بعض الدول 100 ألف جنيه مصري.
بشكل عام، لم تكن السفارات المصرية في الخارج تتكفل بأي من إجراءات نقل جثامين المصريين في الخارج إلا بشرط. فالقرار الحكومي الصادر في عام 1996 حدد أن تتكفل الدولة بنقل جثامين المتوفين “غير القادرين”. بينما على المستوى العملي هناك صعوبة بالغة في استيفاء متطلبات هذا الشرط. نظرًا لكم الإجراءات البيروقراطية التي يستلزمها الأمر. ومنها الحصول على ما يُعرف باسم “شهادة إعسار”. ذلك الإجراء الذي يتطلب وقتًا طويلاً لا يتلاءم مع السرعة المطلوبة في حالات الوفاة. وهو ما دفع إلى مطالبات قانونية وحقوقية عديدة تحث الدولة ومشرعيها على إصدار قانون أو اعتماد إجراء يسهل عودة الجثامين، دون أن يحمل أسرة المتوفي أعباءً فوق مصيبة الفقد.
وأخيرًا، أعلنت وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج السفيرة نبيلة مكرم عبد الشهيد، عن إطلاق الوثيقة التأمينية الأولى من نوعها على المصريين العاملين والمقيمين بالخارج. وقد بدأ تفعيلها في أول أيام العام الجاري. بما يشمل تغطية تكاليف نقل إعادة الجثمان حال الوفاة، أو صرف تعويضات للحوادث بقيمة لا تتجاوز 100 ألف جنيه (6359.4 دولار).
الحالات المشمولة بالوثيقة التأمينية
في أكتوبر 2021، أعلنت الوزيرة نبيلة مكرم تفاصيل وثيقة التأمين الاختيارية تلبية لطلبات المصريين بالخارج، والتي تم إعدادها بالتنسيق مع وزارة الداخلية، وهيئة الرقابة المالية، والاتحاد المصري للتأمين. وفي تصريحات لاحقة كشفت أن الوثيقة التي فُعلت أوائل يناير الجاري شهدت إقبالاً ملحوظًا من المواطنين بالخارج. إذ تقدم 1119 مواطنًا لطلب التأمين عليهم، في اليوم الأول من التطبيق.
وتغطي الوثيقة احتياجات المواطنين المقيمين في الخارج، خاصة فيما يتعلق بحالات الوفاة الطبيعية أو بحادث وتكلفة نقل الجثامين إلى مصر. وذلك مقابل قيمة اشتراك سنوي للتأمين يقدر بـ 100 جنيه لكل الشرائح.
أما الحالات المشمولة بالتغطية التأمينية، وكذا المبالغ التي تسددها مجمعة التأمين عن كل حالة وتفاصيل الدفع فتشمل الآتي:
- في حال الوفاة بحادث: تلتزم المجمعة بدفع مبلغ 100 ألف جنيه فقط. بحيث تدفع المجمعة التكلفة الفعلية لتجهيز وشحن ونقل الجثمان إلى البلاد، طبقًا للمستندات التي تقدم للمجمعة. ثم يوزع باقي المبلغ على الورثة الشرعيين. وذلك طبقًا لإعلام الوراثة الذي يتم تقديمه للمجمعة.
– بينما في حال الوفاة الطبيعية: تدفع المجمعة التكلفة الفعلية لتجهيز وشحن ونقل الجثمان فقط. وبما لا يجاوز مائة ألف جنيه مصريًا.
ويتم التسجيل عبر منصة إلكترونية مخصصة لهذا الغرض على موقع المجمعة المصرية. كما تتم مراعاة سهولة الإجراءات للمصريين بالخارج عن طريق هذه المنصة، وفق وعود الوزيرة، التي قالت إن هذا الإجراء يأتي استجابة لطلبات المصريين في الخارج وبخاصة دول الخليج، الذين يمثلون الشريحة الأكبر من المصريين العاملين بالخارج.
وفي تصريحات نقلها موقع “RT” الروسي، طالب عادل حنفي نائب رئيس اتحاد المصريين في الخارج، بأن يمتد التأمين على المصريين بالخارج ليشمل الإصابات أو الحوادث التي يتعرض لها المصريون بالخارج. خاصة التي تحدث أثناء العمل أو بسببه. فيما أشاد بقرار التأمين على المصريين بالخارج، واعتبره خطوة مهمة وضرورية طال انتظارها. خاصة وأن المتوفين بالخارج كانت إجراءات نقل جثامينهم تكلف ذويهم الكثير من الأموال، وكان فيها عبء كبير على العمال اللذين يشتغلون فى مهن بسيطة.
شروط الاستفادة من التأمين
وضعت وزارة الهجرة شروطًا محددة للحصول على وثيقة التأمين الجديدة، منها أن يكون الحد الأقصى للمؤمن عليه 65 عامًا. كما اشترطت عند وقوع حادث أو وفاة أن يتم إخطار المجمعة التأمينية خلال سبعة أيام من طرف المؤمن عليه أو من ينوب عنه، سواء عبر الموقع الإلكتروني للمجمعة أو بالاتصال على هاتف المجمعة، أو عن طريق الإيميل، أو الإدارة العامة لشرطة تصاريح العمل.
وتضمنت الشروط كذلك أن تُقدم للمجمعة كافة التقارير الطبية وشهادة الوفاة وأي مستندات متعلقة بالحادث. فإذا لم يقم المؤمن عليه أو من ينوب عنه بتلك الالتزامات أو تأخر في القيام بها سقط حقه في المطالبة بالتعويض الذي ينشأ عن هذا الحادث. ذلك ما لم يتبين من الظروف أن تأخره كان لعذر مقبول.
قبل القرار الأخير كان هناك عددًا من المحاولات النيابية لانتزاع هذا الحق. منها اقتراح بقانون تنظيم علاج العاملين والمواطنين بالخارج وتجهيز ونقل جثمان المتوفي، للنائبة غادة عجمي. وقد اقترحت إنشاء صندوق لهذا الغرض، يشارك فيه كل مسافر إجباريًا بمبلغ 30 جنيهًا مصريًا عند استخراج جواز السفر أو التجديد. وهو اقتراح لم يبت فيه برلمانيًا.
كما طالب نواب ومثقفون في غير مرة أن تتكفل الحكومة بمصاريف نقل المتوفين في الخارج. غير أن رئيس البرلمان السابق، علي عبدالعال، رفض هذه المطالب في تصريح أعقب وفاة ستة مصريين في الكويت قبل أشهر. قال -حينها- إن “ميزانية الدولة لا تسمح بذلك الأمر بسبب ارتفاع تكاليف شحن ونقل الجثامين من الخارج”.
الوثيقة التأمينية جيدة.. لكن ماذا عن البيروقراطية؟
في العام 2019، أعلنت وفاة الزميلة الصحفية حنان كمال، بعد معاناة مع المرض في دولة قطر. حينها سافر المحامي طارق العوضي لاستلام الجثمان. وقد حكى عن هذه التجربة التي لم يكن يتوقع أن تكون بتلك الصعوبة.
قال العوضي: بعيدًا عن فكرة التكلفة المالية، لم أكن أتصور أن الأمر يحتاج هذا الكم من الإجراءات، والولوج إلى عمق البيروقراطية. ومنها اشتراط حضور موظف من قناة الجزيرة التي كانت تعمل بها حنان، ليتم الأوراق المطلوبة، وجميعها تتطلب موافقة خارجية البلد، قبل موافقة السفارة.
أشار العوضي أيضًا إلى التكلفة المالية، فقال إن الأمر لا يتوقف عند تكلفة الشحن. إذ أن هناك تكاليف حفظ الجثمان والمواد الخاصة به وصولاً إلى ثمن صندوق الشحن الذي يتخطى خمسة آلاف جنيه. وتزداد صعوبة الأمر عند استلام الجثمان في مصر، حيث “جبل” من الأوراق والتصريحات التي لا قبل لأحد بها.
يصف العوضي الأوراق الرسمية التي طُلب منه استيفاءها لنقل الجثمان بأنها “ملأت كيسًا بلاستيكيًا كبيرًا”. ويستدرك متسائلاً: ماذا عن العمال البسطاء ممن يذهبون سعيًا وراء لقمة العيش، ولا تستطيع أسرهم تحمل تكلفة عودة جثامينهم في حالة الوفاة؟
“وضع مثل هذه الوثيقة الخاصة بالتأمين على المصريين بالخارج أمر جيد لكنه بالوقت نفسه ليس الحل الوحيد”. يقول العوضي الذي يرى تأثير هذه الوثيقة بجعلها اختيارية محدود من الناحية العملية بالنسبة للعمال البسطاء. ويمثل هؤلاء النسبة الأكبر من العمال بالخليج خصوصًا.
كما أن مسألة الإجراءات يجب أن يضطلع بها موظف من السفارة. خاصة وأن غالبية العمال المصريين بالخارج لا يصطحبون أسرهم معهم، ما يفرض ضرورة أن يكون هناك تنسيق دائم بين السفرات والجاليات بالخصوص.
المصريون في الخارج.. رقم مهم في اقتصاد الدولة
وفق آخر إحصاء للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، تبلغ أعداد المصريين في الخارج نحو 9.5 مليون مواطن. غير أن وزيرة الهجرة أكدت في تصريحات رسمية مارس/آذار الماضي، أن هذا الرقم لا يعكس أعدادهم الحقيقية، وإنما المسجلة فقط.
يؤمن هؤلاء للدولة نحو 31 مليار دولار، قيمة تحويلاتهم عن العام المالي 2020/2021 فقط. وذلك وفق تصريحات في ديسمبر/كانون الأول الماضي للدكتور محمد عمران رئيس الهيئة العامة للرقابة المالية. وقد سجلت تحويلات المصريين العاملين بالخارج خلال الربع الأول من السنة المالية 2021-2022 (الفترة يوليو/ سبتمبر 2021) ارتفاعًا بمعدل 1.5% (على أساس سنوي). وبقيمة نحو 8.1 مليار دولار مقابل نحو 8 مليارات دولار خلال نفس الفترة من عام 2020-2021.