تأجلت الانتخابات الليبية التي كان عقدها مقررا في 24 ديسمبر من العام الماضي، وبدا واضحا أن أزمة الانتخابات الليبية ليست أزمة إجراءات أو “ضعف لوجسيتي” إنما هي أزمة بنيوية أكثر عمقا، وأن الحل لن يكون مجرد تأجيل الانتخابات من العام المنصرم إلى هذا العام، إنما في تغيير الظروف المحيطة بها حتى تصبح عامل توافق وليس انقسام.
والحقيقة أن هناك عاملين رئيسيين في حال استمرارهما بنفس الصورة التي كانا عليها العام الماضي فإن هذا سيعني أن الانتخابات ستكون مصدرا لمزيد من الانقسام والمواجهات الأهلية وليس عامل دعم وتوافق: أولهما استمرار التناقضات العميقة بين بعض المرشحين والمعادلة الصفرية التي تحكم العلاقة بينهم، وثانيها استمرار الانقسام في مؤسسات الدولة وأجهزتها وخاصة بين الشرق والغرب بكل ما يمثله ذلك من رمزية سياسية ومجتمعية وأيضا دلالة إقليمية.
مرشحي الانتخابات الرئاسية
قائمة مرشحي الانتخابات الرئاسية المطعون عليهم وغير المطعون عليهم، تقول إن هناك عددا من الأسماء تصل التناقضات بينها إلى “درجة صفرية” لأنها تعتبر نجاح أحدهم إلغاء كامل لوجود الآخرين.
فهناك رمزية ترشح سيف الإسلام معمر القذافي، فهو نجل من ثار ضده قطاع من الشعب الليبي، وجرى اقتتال أهلي في البلاد عقب سقوط حكمه لمدة قاربت من عشر سنوات، وهناك قائد الجيش الوطني خليفة حفتر في مواجهة معظم مرشحي الغرب وعلى رأسهم رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة، بجانب ترشح رئيس البرلمان عقيلة صالح الأقل حظا في الفوز.
والسؤال الذي يجب أن يطرح: ماذا لو فاز سيف الإسلام في انتخابات العام الجديد ولم تستطع الطعون منع ترشحه؟ وبعيدا عن رمزية ودلالة نجاحه التي تعني فشل المسار الذي دخلت فيه الثورة الليبية طوال العقد الماضي، وأن الناس اختارت العودة إلى رجل من قلب النظام القديم، وكانت له بعض الآراء الإصلاحية وكثير من الممارسات الاستبدادية، لكنهم في النهاية اعتبروا أنه أفضل من كل المرشحين الآخرين الذين عارضوا نظام القذافي.
ويبقى السؤال: هل ستقبل العاصمة طرابلس ومدن الغرب ومعها “الرجمة” وبنغازي بحكم نجل القذافي؟ هذه الأسئلة تنسحب أيضا على خليفة حفتر حال فوزه في الانتخابات الرئاسية: هل سيقبله الغرب الليبي وينصاع لحكمة بعد تجربته المريرة معه أثناء حصار طرابلس؟ وهل سيقبل حفتر نفسه برئيس وقائد أعلى من الغرب مثل عبد الحميد الدبيبة الذي لم يستطع أن يدخل مدن الشرق وهو رئيس حكومة معترف بها دوليا؟ فهل سيسمح له بأن يكون قائد أعلى للجيش ويوحد مؤسسات الشرق والغرب في حال فاز في انتخابات الرئاسة القادمة؟
هذه أسئلة يجب أن تكون حاضرة في الذهن قبل إجراء أي انتخابات في ليبيا، ويجب أن تكون محل دراسة وبحث دقيقين وبدائل عملية لحلها قبل إجراء الانتخابات.
بناء المؤسسات
الشعار الذي رفع العام الماضي عقب انتخاب ملتقى الحوار الليبي لرئيس الحكومة وأعضاء المجلس الرئاسي الثلاثة، هو توحيد مؤسسات الدولة الليبية قبل إجراء الانتخابات وخاصة المؤسسة الأمنية والعسكرية ووضع دستور جديد، وهو ما لم يحدث.
ومعروف أن ليبيا تشهد انقساما بين الجيش الوطني الليبي المسيطر على الشرق وأجزاء كبيرة من الجنوب وقوات الغرب الموجودة في طرابلس مع فارق رئيسي أن الأخيرة عبارة عن خليط من قوات نظامية وميليشيات منقسمة سبق وأن دخلت في مواجهات مسلحة داخل العديد من أحياء طرابلس.
والسؤال المطروح: هل يمكن إجراء انتخابات في بلد منقسمة مؤسساته وبه قوتان عسكريتان كبيرتان كل منهما يعتبر نفسه “الجيش الشرعي”؟ الإجابة نعم يمكن، ولكن بشرط معرفه حجم التحديات التي سيفرضها انقسام بعض مؤسساتها (الجيش) وضعف في مؤسساتها الأخرى (القضاء) بما يعني أن “آلية الجبر” المحلية لفرض احترام نتائج الانتخابات لن تكون موجودة.
وفي هذه الحالات تكون ليبيا أمام خيارين: أولها العمل على توحيد المؤسسات عبر خطوات تدريجية مدروسة قبل إجراء الانتخابات وهو ما لم يحدث طوال العام الماضي رغم أن حكومة الوحدة الوطنية كان أبرز مهامها التي اخفقت فيها هي توحيد المؤسسات. أو ثانيا أن يجري توحيد المؤسسات في أعقاب الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وهو يتطلب أن يتمتع الرئيس المنتخب بحد أدني من القبول بين الأجهزة والمؤسسات المنقسمة.
وعلينا ألا ننسى أن بلدا مثل أمريكا لديه تراث ديمقراطي يمتد لعقود طويلة، ومع ذلك حاول رئيسه السابق دونالد ترامب أن يتلاعب بنتائج الانتخابات، ولكنه قوبل بمقاومة عنيفة من مؤسسات الدولة القضائية وبحياد كامل من المؤسسة العسكرية والأجهزة الإدارية والأمنية، وهو أمر غير متوفر في معظم البلاد العربية غير المنقسمة مؤسساتها، فما بالنا في ليبيا التي تعاني من انقسام حاد في مؤسساتها.
ماذا لو أجريت الانتخابات هذا العام؟
يتطلب نجاح أي تجربة انتخابية التوافق على القواعد المنظمة، ووجود قوى سياسية تقبل بتداول السلطة وتحترم إرادة الناخبين ولا تحمل مشروع إقصاء أو تمكين، ومؤسسات دولة موحدة وتعمل ولو بحد أدنى من الكفاءة لتضمن تنفيذ نتائج الانتخابات في الواقع وحماية إرادة الناس، وأن هذه الشروط لازالت بالقطع غير متوفرة في ليبيا.
وبناء عليه لوضع خريطة طريق لانتخابات ليبية تساهم في استقرار البلاد وطي صفحة الاقتتال الأهلى، فإن الأمر يتطلب طرح عده نقاط:
أولاـ الانتخابات الليبية ليست عملية إجراءية يمهد الأساس “اللوجستي” لنجاحها من لجان مؤمنة، وصناديق زجاجية، وقضاء ومراقبين دوليين يشرفون عليها، إنما يجب أن تتمتع بشروط أولية تقوم إما على التفاهم على رجل أو “مشروع جسر” بين الأطراف الليبية المختلفة يخوض الانتخابات وتكون فرص فوزه أكبر من باقي المرشحين؟ وهو اختيار نرى أنه من الصعب تحقيقه في ظل الظروف الحالية.
أما الاختيار الثاني فهو أن تجري الانتخابات بين أسماء لا يعني نجاح أي منها تهديدا وجوديا لباقي الأطراف، وهو اختيار يمكن التفاهم حوله وهو الأقرب للتحقيق في الحالة الليبية.
ثانياـ لانتوقع قدرة قوى الداخل (حكومة الوحدة الوطنية أو غيرها) أو الخارج (الولايات المتحدة أو المجتمع الدولي) على توحيد المؤسسات الليبية قبل إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، وهي خطوة ليست سهلة، وستواجه تحديات كبيرة حتى بعد إجراء الانتخابات، وهو ما يعزز فرضية ضرورة التوافق على أسماء يمكن قبولها من مختلف المناطق والأطرف، وأيضا من المؤسسات المنقسمة، خاصة أن الأخيرة أفرزت شبكات مصالح وقيادات تعيق أي عملية توحيد للمؤسسات.
ثالثاـ الدور الخارجي حاضر بقوة في الصراع الليبي وقام بسلسلة من المبادرات الإقليمية والدولية لحل الصراع منذ اتفاق الصخيرات بالمغرب منذ ما يقرب من 7 سنوات، وانتهاء بنجاح المبعوثة الأممية الأمريكية ستيفاني وليامز في اختيار أعضاء ملتقى الحوار الليبي من مختلف المناطق والأطراف السياسية، والذي انتخب رئيس الحكومة الحالي والمجلس الرئاسي.
ورغم ذلك لم يستطع المجتمع الدولي فرض تنفيذ الاتفاقات التي قام برعايتها مثل موعد الانتخابات وتوحيد المؤسسات والدستور وغيرها.
والحقيقة أنه في حال أجريت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية هذا العام فسيصبح على المجتمع الدولي والقوى الإقليمية أن تتوافق على آلية لفرض احترام نتيجتها، وهنا أمامها إما “القوة الخشنة” وهو أمر من الصعب التوافق عليه دوليا، ونتائجه لن تكون مضمونة، أو إجراء تفاهمات سياسية تضمن أن يكون المرشح الناجح يمكن “قبوله” ولو على مضض في مختلف المناطق، وفي نفس الوقت امتلاك قوة ضغط وجبر سياسية واقتصادية لفرض احترام نتائج الانتخابات بين مختلف الأطراف والمناطق.